هو لقاء بلا تنظيم مسبق مع متساكني حي «السريعة»، وهو حي يأوي خاصة عائلات شبه بدوية من الرحل الذين لا يبقون أبدا طويلا بمكان واحد. أما اليوم، فهؤلاء المتساكنين لم يعودوا يرحلون بالفعل، فالفاقة وقسوة ظروف حياتهم تجبرهم على البقاء بمكانهم. إن كامل الحي مبني على مجرى واد وقع ردمه بالتتابع حسب البناءات الجديدة. (نواة.أورغ/مالك الخضراوي)
محجوبة، 65 سنة، ربة بيت. لم تتحصل من الدولة التونسية، كاعتراف بالماضي النضالي لزوجها المتوفي، إلا على ميدالية ونفقة قليلة : 200 دينارا شهريا. وهي تعلق على ذلك بكل أنفة : «بينما طالب البعض الآخر من المناضلين تعويضات على السنوات التي قضوها في المقاومة، لم يقبل زوجي بطلب أي شيء. كان يقول دائما بأن نضاله هو من باب التطوع لخدمة البلاد لا لأجل الحصول على امتيازات». إنها أصبحت تكاد تعمى لانعدام الوسائل لتمويل عميلة جراحية على العيون؛ رغم ذلك، همها الأوحد يبقى أبناؤها الستة إذ كلهم بلا عمل. وأضافت تقول : «إننا لا نطلب المستحيل؛ فقط إيجاد عمل، على الأقل لأحدهم!» (نواة.أورغ/مالك الخضراوي)
محمد له 50 سنة، وهوسائق جرارة مجرفة. إنه بلا عمل منذ شهرين بعد حادث مرور؛ لقد دهمته شاحنة عسكرية؛ وعوض إغاثته، اكتفى أصحابها بطلب الإسعافات. ومن هنا بدأت المتاعب. فبعد عملية جراحية أولى بمستشفى قفصة، بقي أكثر من شهر بقضيب حديدي غير مثبت في رجله؛ وقد سبب له مثل هذا التهاون في العلاج أوجاعا فظيعة على مستوى العرقوب مما كاد يؤدي إلى قطع رجله. لقد اضطرت العائلة والجيران للتآزر لإيجاد مبلغ 500 دينارا كان ضروريا لإجراء عملية ثانية، في القطاع الخاص هذه المرة، لتثبيت القضيب على عظم ساقه الأكبر. (نواة.أورغ/مالك الخضراوي)
بما أنه غير قادر على مواصلة عمله، أصبح على محمد أن يتدبر أمره للقيام بشؤون عائلته الصغيرة. فمورد رزقهم الوحيد يتأتى من دخل ابنه الذي وقع تشغيله مؤخرا بأجرة لا تبلغ 200 دينارا في ورشة «الحظيرة». أما ابنته، فهي بلا شغل، ولكنها تقوم ببعض الأعمال البسيطة في الخياطة لإعانة عائلتها. (نواة.أورغ/مالك الخضراوي)
تعيش عائلة محمد ببيت متواضع في ظروف صحية مزرية. قالت لي زوجة محمد وقد كادت تخنقها العبرات : «نحن هنا دوما نعيش في فقر مدقع، ورغم ذلك لم أتعود بعد على إحضار الطعام في هذا المطبخ المتهدم». (نواة.أورغ/مالك الخضراوي)
الجازية هجرها زوجها حيث لم يعد يستطيع احتمال الإبن الذي تبنته والذي هي تحبه فوق كل شيء. «لقد طلب مني زوجي السابق أن اختار بينه وبين ابني، فاخترت ابني». إن نظر الجازية ثاقب، يتحدى صعوبات الحياة ويفرض الإحترام. وما كانت لتخجل من آلة تصويري، فاختارت أن أصورها وهي جالسة على فراشها. (نواة.أورغ/مالك الخضراوي)
تعيش الجازية بصعوبة مع ابنها بالتبني وذلك بفضل نفقة تافهة المبلغ، قدرها 100 دينارا في الشهر. وبما أن الانفجارات في مناجم الفسفاط تضر بالبيوت وتصدع جدرانها، فقد كانت الرطوبة في كل مكان بالبيت والحيطان مغطاة باللطخات. ولم يكن بيت الجازية بالإستثناء في هذه الظاهرة. (نواة.أورغ/مالك الخضراوي)
رمضانة آمرأة حازمة. إنها تجابه تجارب الحياة واختباراتها بتجرد وبرودة لا ينتظر منها. فشبه الإبتسامة الحزينة التي لا تفارق شفتيها وطيبة قسماتها تناقض تماما ظروف حياة عائلتها. لقد استقبلتني بيدين مفتوحتين على عرضهما وهي تردد كأنها بصدد الدعاء : «انظر، انظر، انظر كيف نعيش»، كأن حال لسانها يقول : «لا فائدة في خطاب طويل حتى نسخط.» (نواة.أورغ/مالك الخضراوي)
عمر جرو 70 سنة، منها 35 قضاها في مناجم الفسفاط. إنه يتقاضى معاشا زهيدا : لا يكاد يناهز 200 دينارا. وهو اليوم على مشارف الصمم. تؤكد زوجته رمضانة أن ذلك «بسبب ضجة المتفجرات». وجرو يقاسي أيضا من أوجاع بالكلي، وهي كثيرة الإنتشار بالجهة نظرا لنوعية المياه الرديئة. إنه يقضي يومه جالسا على ذلك الكرسي ينظر إلى زوجته وهي تنشط للقيام بشؤون بيتها التي ليس فيها إلا مورد ماء وحيد. تعنى رمضانة أيضا بشؤؤن ابنتها مسعودة وحفيدها وليد الذي يقيم في بيتها منذ وفاة زوج ابنتها. ويعيش أيضا بالبيت محمد، ابن عم رمضانة، وذلك منذ طلاقه. وكل هذا الجمع يتعيش بتقاعد جرو. (نواة.أورغ/مالك الخضراوي)
ما هي حياة محمد المهنية؟ سنوات طويلة من البطالة تقطعها فترات من الأعمال البسيطة التي لا تدوم. لقد وجد نفسه وهو في سن 60 سنة، مضطرا للعيش في دار خالته رمضانة بعد أن افترق مع زوجته نظرا لأنه لم يعد يقدر الإنفاق عليها. سألني محمد بصوت فيه ارتجاف وعيناه زائغتان : «هل من الصعب فعلا حل مشاكلنا حتى نتمكن من حياة محتشمة؟ نحن نعيش على مخزون من الذهب، ولكننا لا نجني منه إلا المرض والفقر! لقد فاتنا القطار، نحن الكبار؛ ولكن ما تكون حال أولادنا؟» (نواة.أورغ/مالك الخضراوي)
آثار الرطوبة تراها بكل بيوت الحي، كأنها جدرانيات من الفن التجريدي، وهي شهادة حية على ذلك الخطر المستتر المحدق بمتساكني المكان. فلا غرابة بعد هذا في تكاثر حالات الربو والإلتهابات الرئوية المزمنة والاعتلالت المفصلية، وذلك بين الأطفال خاصة. (نواة.أورغ/مالك الخضراوي)
عندما يتأتى لمسعودة التفكير في مستقبلها ومستقبل ولدها وليد، فهي لا ترى شيئا البتة. إن هذه الأم ، وقد انحصرت عند خالتها، لهي قلقة على ابنها، خاصة وأن صحته ضعيفة. فهو يعاني من الربو كغيره، وهم كثر هنا. ومسعودة تعلم جيدا، نظرا لمشاكلها المادية، أن ليس لها أن تعول إلا على نفسها. فزوجها قد مات، وبصفتها أم أرملة، ليس لها كبير حظ في التزوج ثانية. (نواة.أورغ/مالك الخضراوي)
هناء في عقدها الخمسين، وهي أرملة تربي لوحدها أبناءها الخمسة. لقد لقي زوجها حتفه من جراء مرض ناتج عن الشغل وذلك بعد 18 سنة قضاها بشركة الفسفاط. «كان زوجي ضحية الشركة. دخل يعمل بها وهو بصحة جيدة ولكنه خرج منها بإعاقة أجبرته على لزوم الفراش مدة 8 سنوات. لقد مات بينما لم يناهز عمر أكبر أولادي العشر سنوات.» ونظرا لانعدام الإمكانيات، فلم يتسن لأي واحد من أطفال هناء إنهاء دراسته. هم اليوم في سن تتراوح ما بين 18 و30 سنة، ولكن لا واحد منهم له شغل. (نواة.أورغ/مالك الخضراوي)
إن كامل عائلة هناء تعيش بنفقة قدرها 235 دينارا في بيت ليس به ما يوصل له الماء الصالح للشراب. «منذ 12 سنة وأنا أجلب الماء من عند الجيران. فلحسن الحظ هم إلى جانبنا!» أما في ما يخص الوعود، فلقد سمعت منها الكثير من طرف التمثيلية المحلية للتجمع المنحل. إن كل ماحصلت عليه تمثل في إعانة لإضافة غرفتين لبيتها المتواضع. ولكنها لم تقبض منها إلا القسط الأول. لذا لم يتم إتمام بناء الغرفتين منذ ذلك الوقت، وهما اليوم تستعملان للمهملات أو ليلعب بهما أطفال الحي. وهناء تعاني من نوبات قلبة تضطرها للخضوع لعلاج مرهق. قالت لي دون كثير اقتناع بكلامها : «أتمنى أن ينجح الرئيس الجديد في تحسين ظروف حياتنا». (نواة.أورغ/مالك الخضراوي)
لعل ما كان يميز مدار كل حواراتنا كون الأطفال هم الشغل الشاغل للعائلات، وفي نفس الوقت، هم سببهم الأوحد للتعلق بالأمل. تري، في تونس وهي تريد نفسها حديثة، أي حظ سيكون لهذا الطفل الصغير، وهو في عمره الرابع وبقسماته الملائكية، في كسر لولب الفقر ليعيش حياة أفضل من التي يقاسيها والداه؟ (نواة.أورغ/مالك الخضراوي)
iThere are no comments
Add yours