المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

الجبهة الشّعبية هو الاسم الذي اختارته مجموعة من أكثر من عشرة تنظيمات سياسيّة ذات مرجعيّة ايديولوجية قوميّة و اشتراكيّة و بعثية و ايكولوجيّة للتّوحّد في هيكل سياسي جبهوي. الإعلان الرّسمي عن ميلاد هذه الجبهة تمّ يوم الأحد 7 أكتوبر في اجتماع جماهيري ضخم شارك فيه ما يزيد عن العشرة آلاف شخص بقصر المؤتمرات بالعاصمة التّونسيّة. و قد بادر إلى تشكيل هذه الجبهة كل من الجبهة الشّعبية الوحدويّة و الحزب الشّعبي للحريّة و التّقدم و الحزب الوطني الاشتراكي الثّوري و حركة البعث و حركة الدّيمقراطيين الاشتراكيين و حزب الغد و حزب الطّليعة العربي الدّيمقراطي و حزب العمّال و حزب النّضال التّقدمي و حزب الوطنيّين الدّيمقراطيين الموحّد و حزب تونس الخضراء و رابطة اليسار العمّالي و جمعية راد اتاك بالإضافة إلى شخصيّات مستقلّة في حين مازالت النقاشات مستمرّة مع أطراف أخرى لم تعلن بعد عن انضمامها إلى الجبهة.

“جاهزون لتسلّم الحكم”

“الجبهة الشّعبية هي الخيار الأفضل لحكم البلاد في المراحل القادمة و تحقيق أهداف الثّورة”، هكذا صرّح حمّة الهمّامي زعيم حزب العمّال و النّاطق الرّسمي باسم الجبهة الشعبيّة الذّي لم ينف في تصريح آخر تقدّم به إلى إذاعة تونسيّة أنّه مستعدّ، إذا ما طلبت منه الجبهة ذلك، أن يكون مرشّحها للانتخابات الرئاسيّة إن أقرها المجلس التأسيسي كنظام سياسيّ. كما صرّح أحمد الصّديق أمين عام حزب الطّليعة العربي الدّيمقراطي أنّ “للجبهة برنامج لتسيير البلاد” و اعتبرها قادرة على ذلك. أمّا شكري القصار ممثّل حركة البعث فقد صرّح أنّ “الجبهة قادرة على حكم البلاد وتوفير البديل الحقيقي وليس قدرنا ان تحكمنا اللبرالية المتوحّشة”. المشاركون جميعهم بيّنوا فشل الائتلاف الحاكم في تسيير دواليب الدّولة و تلبية المطالب الشّعبية و أكّدوا على ضرورة أن تقود الجبهة الثّورة و أن تقف ضدّ احتكار كل من حزب النّهضة و حزب نداء تونس للسّاحة السياسيّة. ميلاد هذه الجبهة، وفق النّاطق الرّسمي باسمها يقتضي الدّخول إلى الانتخابات التشريعية القادمة بقائمات موحّدة و مرشّح رئاسي وحيد.

“الاستقطاب الثّنائي” و ضرورة الخيار الثّالث

منذ إعلان الباجي قائد السّبسي، الوزير الأوّل السّابق، في اجتماع جماهيري احتفالا بذكرى الاستقلال من مدينة المنستير مسقط رأس الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في 20 آذار 2011 عن تأسيس حزب “نداء تونس” حتّى أصبح حزبه المنافس الجدّي الوحيد القادر على التّصدّي لحزب النّهضة الإسلامي الحاكم. استطاع حزب نداء تونس في ظرف وجيز، لا فقط أن يضمّ إلى صفوفه البورقيبيّن و الكوادر السّابقة للتّجمّع الدّستوري الدّيمقراطي المنحلّ بل كذلك العديد من الشّخصيات و الرّموز الفكريّة و النّقابية و الفنيّة ممّن يقدّمون أنفسهم كحداثيين و مناهضين للمشروع الظّلامي للحزب الحاكم. إنّ سعي حزب النّهضة لاحتكار الحكم في تونس و رغبة حزب نداء تونس في احتكار دور المعارضة له، هو ما بات يعرف بالاستقطاب الثنائي. إنّه “استقطاب ثنائي مغشوش” هكذا يصفه شكري بالعيد أمين عام حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد و يعللّ ذلك بأنّ الحزب الحاكم قد تبنّى جميع التّوجهات و المشاريع و الالتزامات الدّوليّة التّي ضبطها الوزير الأوّل السّابق الباجي قايد السّبسي قبل تشكيل حكومة التّرويكا. و يعتبر بعض المشاركين في الجبهة أنّ لا فرق بين السّياسة الاقتصادية و الاجتماعية لطرفي الاستقطاب، فأحدهما يمارس اللّيبرالية بقناع حداثوي و الآخر يمارسها بقناع ديني. بل إن بعضهم يذهب إلى أنّ الحكومة الحاليّة و نظام بن علي السّابق ليسا إلاّ وجهان لعملة واحدة و يجمع كل أعضاء الائتلاف على أن الجبهة هي الخيار الثّالث الذّي يتبنّى مطالب الثّورة التّونسيّة.

برنامج بديل

الخيار الثّالث يدين السّياسة الاجتماعيّة للحكومة و يطرح نفسه بديلا ثوريّا لها و يتّهمها أنها تسعى إلى “ارتهان البلاد إلى نمط استعماري جديد” و أنها لا تستجيب لإرادة الشّعب بل إلى املاءات خارجيّة “تصادر القرار الوطني لمصلحة دوائر أجنبيّة و يجعل من السّيادة الوطنيّة محل تجاذب بين القوى الكبرى التي لا تسعى لخدمة مصالح الفئات الكادحة من أبناء هذا الشّعب” على حدّ تعبير شكري بالعيد. و يقدّم الميثاق الأوّلي للجبهة الذّي صادق عليه جميع المنضوين فيها تصورا متكاملا للمسألة الوطنيّة و الدّيمقراطيّة يقوم أساسا على مبدأ الاستقلال الفعلي للبلاد و السّيادة الوطنيّة و فصل السّلط و حياد الدّولة

و ضمان الحرّيات و المساواة و فصل الدّيني عن السّياسي و دعم المقاومة الوطنيّة في كل من فلسطين و العراق و لبنان و مساندة الثّورات العربيّة و ضرورة حمايتها من التّدخل الأجنبي. كما يدعو الميثاق إلى تجريم كلّ أشكال التّطبيع مع الكيان الصّهيوني و الحركات العنصريّة و يعمل على تحقيق الوحدة العربيّة على قاعدة الحريّة و العدالة و الكرامة و الدّيمقراطية و العدالة الاجتماعيّة. أمّا في المستوى الاقتصادي و الاجتماعي فيدعو الميثاق إلى اقتصاد وطني يضمن سيادة الشّعب على ثرواته و يؤمّن له الحاجيات الأساسية بما يمكّن من حقّ العمل و السّكن و مجانيّة التّعليم و التّداوي. و يعتبر الميثاق أن ذلك لا يمكن أن يتحقّق إلا بمراجعة المعاهدات التّي تنال من مصلحة البلاد و استقلالها و تأميم القطاعات الاستراتيجيّة و الشّركات المصادرة و منع بيعها للرأسمال الأجنبي و بعث برنامج إصلاح زّراعي يكون لفائدة صغار الفلاّحين و المزارعين و ضبط نظام جبائي شفّاف و عادل و إلغاء الدّيون المشبوهة التّي اقترضها النّظام السّابق إضافة إلى حريّة التنظمّ النّقابي و الحقّ في العيش في بيئة سليمة. أمّا في المستوى الثّقافي و التّربوي فيدعو الميثاق إلى ثقافة وطنيّة، مفتوحة على الثّقافات الأخرى، و متجذّرة في تاريخها و هوّيتها تكون للّغة العربيّة فيها مكانة رئيسيّة. و العمل على نشر مبادئ العقلانية و التّقدمية و قيم المواطنة و حقوق الإنسان.

الرّهانات الصّعبة

ليست هذه المرّة الأولى التّي ينشأ فيها ائتلاف سياسي في تونس. ففي 22 يناير 2011 تأسّست “جبهة 14 جانفي” و احتوت العديد من المكوّنات السّياسيّة اليساريّة و دعت إلى اسقاط الدّيكتاتورية بعد سقوط الدّيكتاتور. و سرعان ما تأسّس بعد ذلك “المجلس الوطني لحماية الثّورة” في 11 فبراير 2011 الذّي ضمّ إضافة إلى الأحزاب المنظوية في جبهة 14 جانفي نقابات و جمعيات و المركزيّة النّقابية العمّالية و المركزيّة النّقابية الطّلابية إضافة إلى حزب حركة النّهضة و أحزاب أخرى وسطيّة و ليبراليّة، إلاّ أن هذا المجلس بدوره لم يصمد أمام مبادرة الحكومة في بعث “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثّورة و الانتقال الديمقراطي” التّي تواصل العمل بها إلى حدود انتخاب المجلس التّأسيسي. و في عهد بن علي تأسّست كذلك “هيئة 18 أكتوبر للحقوق و الحريّات” التّي كانت أوّل فضاء يضمّ يساريّين و اسلاميين و ليبراليّين. اليوم، بتأسيس الجبهة الشّعبيّة يُعاد توزيع الأوراق و يتغيّر المشهد السّياسي التّونسي من جديد. سؤالان محوريّان أغلب الظّن أنهما خامرا كلّ من واكب هذا الاجتماع و كل من اهتمّ بتأسيس الجبهة: هل ستستطيع الجبهة التّماسك إلى حين تحقيق أهدافها؟ هل ستستطيع الجبهة افتكاك مكانها سياسيّا و شعبيّا؟

حالة الاستياء العام من مردود الحكومة نظرا لعدم تحقيقها لأيّ مطلب من مطالب الثّورة و اجترارها طبيعة النّظام السّابق و عدم محاسبتها للفاسدين و المجرمين منه، بل و إمعانها في رسكلتهم في صفوفها و اعتمادهم ككوادر في أجهزتها مع تفاقم الأوضاع الاجتماعية للطّبقات و الجهات الأكثر فقرا، أدّى إلى تراجع شعبيّة حزب حركة النّهضة و إعادة تأجيج التّحركات الاحتجاجيّة في مناطق عديدة خاصّة منها مهد الثّورة ولاية سيدي بوزيد. حركة المدّ الثّوري التّي تتزامن مع اقتراب تاريخ العيد الأوّل لـ 23 أكتوبر ، الذّي يعتبره العديد تاريخ انتهاء صلاحيّة الحكومة الحاليّة، و الإعلان عن تأسيس الجبهة الشّعبيّة قدّ يمكنّ المكونّات اليساريّة المنظوية في الجبهة و التّي طالما عِيب عليها نخبويتها و انقطاعها عن الجماهير من الالتحام بها. فما إن تأسّست حتّى أعلنت الجبهة عن تنظيم مسيرة بتونس العاصمة يوم 14 من الجاري ضدّ غلاء المعيشة و مسيرة أخرى في اليوم الموالي باتجاه مدينة سيدي بوزيد للتّضامن مع أهاليها. كلّ هذه المعطيات تجعل من الجبهة الشّعبية رقما صعبا في المعادلة الجديدة للمشهد السّياسي التّونسي يشكّل خطرا في نفس الوقت على حزب حركة النهضة الحاكم حاليا و حزب نداء تونس الحاكم سابقا. ما يدعم حظوظ الجبهة الشّعبية هو القدرة الاستثنائية لمكوّناتها و زعمائها على تجاوز خلافاتهم السّياسيّة و حساباتهم الزعاماتيّة التّي طالما كانت الغائب الأكبر المتسبّب في تشرذم اليسار في تونس و عدم قدرته على التّوحّد.

الجبهة و الثّورة و الانتخابات

إن فشل تجارب التّحالفات السّابقة لليسار التّونسي و حالة المدّ الثّوري التّي يشهدها المجتمع يبدو أنّهما دفعا به إلى خوض النّسق الثّوري وفق آليات صراع طبقيّة. هذه المرّة لم تعمد الأحزاب اليساريّة إلى تحالف ديمقراطي يضمّ كل المناهضين لما يسمّيه الدّيمقراطيون في تونس بـ”الديكتاتورية الاسلامية الناشئة” فذلك يجبره حتما إمّا على التّحالف مع حزب نداء تونس الذّي يصنّف نفسه في خانة الدّيمقراطيّين أو على عدم التّمايز معه. فاليسار هذه المرّة اختار أن يتمايز عمّا يسمّيه بالرجعيّة الدينية و ما يصنّفه كليبرالية اقتصاديّة محاولا بذلك استيعاب القوى الشّعبيّة. العديد من الملاحظين يعتبرون ذلك خطأ تكتيكيا (راجع مثلا مراسلات الطيب الشقروش مع عبد الحميد الطبابي) و يدعون إلى جبهة موحّدة أو وطنيّة تضمّ أغلب المعارضين لحزب النّهضة، فقديما تحالف ماو تسي تونغ مع تشان كيتشك لمقاومة الفاشية اليابانية و تحالف هوشي منه مع الديغوليين الفرنسيّين لمواجهة النّازية و أدّى عدم تحالف القوى المعادية للفاشيّة إلى وصول النّازية و الفاشيّة إلى الحكم. إلاّ أنّ القوى اليساريّة المنظوية في الجبهة الشّعبيّة يبدو أنّها على وعي بالتكتيك الذّي تمارسه و تريد تمثيل الفئات الشّعبيّة فقط، لذلك فهي في خاتمة ميثاقها تعتبر أنّ” الهدف من الجبهة هو مواصلة النّسق الثّوري و إرساء حكم الشّعب بكل الوسائل النّضالية بما في ذلك الانتخابات”. ممّا يعني أنّ الانتخابات ليست هدفا بذاتها و إنّما هي وسيلة من ضمن وسائل أخرى، لم يتمّ الإفصاح عنها، يمكن للجبهة أن تعتمدها في تحقيق أهداف الثّورة.

الجبهة ستشرع في الأيّام القادمة في تكوين تنسيقيات محليّة و جهويّة تحضيرا لمؤتمرها الوطني معلنة بذلك تغييرا فعليّا في المشهد السّياسي التّونسي. العنصر الأهمّ و المُغيّب في هذه المعادلة السّياسية الثّلاثية الأبعاد هو موقف الاتحاد العام التّونسي للشّغل. و يبقى الموضوع للمتابعة…