تتوزع أطنان الصحف أفقيا وعموديا من المكتب إلى الزقاق الصغيرة باتجاه المبنى الكبير الذي يستخدم مخزنا، يلج الرجال واحدا بعد الآخر إلى مكتب “الزعيم” ليدفعوا ثمن البضائع التي يشترونها. يدفعون نقدا ليحصلوا على فاتورة موقعة من طرف الزعيم أو ابنه سفيان الذي أوقف مشواره الدراسي عند مستوى (الباكالوريا) لغرض مساعدة والده. مكتب “دعدع” يشبه خزينة مليئة بالأوراق الحمراء والزرقاء. قبالة مكتب “الزعيم” توجد غرفة مخصصة للصحف التي لم تجد طريقها للبيع وأخرى غير مرغوب فيها. وهناك غرفتان تستعملان شبابيكا لإستقبال الزبناء، في باحة (المنزل-المؤسسة) حيث تفوح رائحة الورق المسحوب حديثا من المطابع هنا تعرف “الدنانير” نشاطا مضطربا تحت الأصوات المتزاحمة لموردي الصحف الذين يتسابقون مع الوقت.

رجل التوزيع القوي قصير القامة، أسمر ككل رجال الجنوب، من أصل الدويرة بتطاوين. على جبهته العريضة شعر داكن يشير لتقدمه في السن، مع أن نظرته ثاقبة وكاريزمية، كما تحتفظ أظافره بآثار “اكتحال” تشهد على علاقته القديمة بالورق.

لا توجد صورة “للزعيم” كما لم تنشر له أية مقابلة لا على الانترنت ولا في الصحافة المحلية. باستثناء 5 مقالات صدرت بعد ثورة 14 جانفي تحدثت عنه بغموض. من أجل أن يقبل مجرد مقابلة بسيطة لا بد من الانتطار والمعاودة. إنه رجل بسيط وبشوش له مظهر متواضع، يرتدي ملبسا عاديا ويستخدم هاتفا قديما. “دعدع” لا يظهر كأنه المليونير الذي يدير 148 موزعا و200 نقطة بيع في تونس. مع كل هذا فهو الذي يقرر مصير الصحافة التونسية المكتوبة منذ 1972. يحوم غموض كبير بهذه الشخصية المهابة من طرف الصحف الوطنية فبعضهم يقولون إنهم رأوه مرة واحدة ولمدة قصيرة في حياتهم، وقلة يحكون أنهم يعرفونه ويعتبرون التردد عليه امتيازا…عموما فإن رجال الصحافة يرغبون في الدعاية لشركة “دعدع” إنها الطريقة التي يهدفون من خلالها لنفاذ بضاعتهم عبر عرضها بشكل جيد في الأسواق التونسية.

الزعيم متهم من طرف العديد من الصحفيين وملاك الصحف بالمساهمة بنشاط في حجز منتجاتهم وبالتدخل مباشرة في اختيار افتتاحياتهم. وتعتبر”دعدع” دخيلة بعد الثورة حيث اتهمها البعض بالعمالة لنظام الرئيس بن علي ويتهم بعضهم”دعدع” بخدمة عبد الوهاب عبد الله الوزير المستشار السابق لرئاسة الجمهورية وهو أول مصادر لصحف المعارضة. يبدو أن الانتقادات والتهم لا تقلق “دعدع”. “لقد عشت مع بورقيبة وخدمت بن علي وسأتابع الحياة والنجاح ما دمت أعمل بجد وشغف”. يقول الزعيم. وفي الأثناء يؤكد “دعدع” التهم الموجهة إليه، عندما يقول: كان لدي خوف من السلطات ككل التونسيين. فعندما يطلب أقطاب النظام أن لا ننشر صحيفة ما فلم يكن لدينا إلا خيار واحد، إنه تنفيذ الأوامر، لأن رفضها يعني السجن والمشاكل و لم تكن لدي رغبة في مجابهة المتاعب، يهمس”دعدع” وكأنه يخشى أن يطلع “مدلعوه” السابقون على كشفه لأسرارهم الخطيرة. وبخصوص الاستفادة من النظام يقول: نعم لقد استفدت منه، كسائر التجار، كما هاجمت باسم “التنافس” صحف المعارضة والصحف المستقلة التي اختار أصحابها موزعين آخرين مثل la Sotupresse.

ورث “دعدع” شركته لتوزيع الصحف عن أبيه وجده. وترجع التجارة العائلية للعام 1903 وقد تم حذرها في الستينيات من القرن المنصرم، ضمن التجربة الاشتراكية لإبن صلاح الذي ناهض ضد السيطرة الخصوصية على القطاع الإاقتصادي في عهد الرئيس بورقيبة. وفي العام 1972 هجر “دعدع” الإبن دراسته في مجال الطب وقرر مساعدة والده، حيث بدأ العمل في صحيفة La Presse. وهناك تعرفت على عبد الوهاب عبد الله الذي كان يعمل مديرا عاما للصحفية، يقول دعدع
فهل كان دعدع في حماية النظام؟ هذا ما يؤكده نبيل بسياس، وهو موظف سابق في صحيفة عمومية وقد أطلق حديثا مؤسسة لتوزيع الصحف.

خلال تسعينات القرن الماضي حين كان دعدع الحليف الكبير لعبد الوهاب عبد الله، خطر لإبن عز المدير السابق لصحيفة La presse أن يوزع الصحيفة العمومية في كل التراب التونسي دون الإاستعانة بخدمات “دعدع”وقد نجح في الحصول على الموافقة المبدئية من طرف عبد الوهاب محمد وأنفق مبلغا يناهز 250 ألف دينار تونسي كإستثمار أولي لإنشاء شبكته الخاصة للتوزيع إلا أنه تلقى في اللحظات الأخيرة أوامر من طرف عبد الوهاب محمد بإلغاء كل شيء. ويدرك الجميع حينها أن “دعدع” كان يقف وراء هذا “التلاعب” لأنه هو الخاسر الوحيد من إقامة هذا المشروع ،كما أن علاقاته بعبد الوهاب عبد الله لم تكن سرا.
-شهادات المستثمرين الشباب

هل كنت تحت حماية النظام البائد؟؟ لا، طبعا لا.. يقول دعدع، مدافعا عن نفسه بحدة، وهو يبرهن على ذلك بالخسائر الكبيرة التي يقول إنه تعرض لها، عندما قرر شاكر الماطري مرافق الرئيس السابق بصفته مالكا لصحيفة “الصباح” إلزامي بنسبة 30% كحد أعلى من الصحف العائدة، كنت مرغما على تحديد العائدات بنفس النسبة مع العلم أن عائدات الصحيفة في تلك الفترة كانت تصل لـ 50% يوميا. وعندما تقومون بالحساب فستدركون أني كنت أخسر حوالي 2000 دينار يوميا. ولم يكن بإستطاعتي الإاعتراض. وتحملت ديونا كبيرة ولو أني كنت تحت حماية بن علي أو كانت لدي صداقة مع عبد الوهاب عبد الله لما عانيت من هذه المشاكل.

رواية “دعدع” توحي بأنه رجل طيب يعمل في مجال محفوف بالمخاطر، لكن بائعي الصحف ينفون ذلك ويعطون رواية مناقضة. فقد طلب منهم “دعدع” بيع أو تعويض عائدات صحيفة الصباح، في العام 2009. حيث نظم الباعة والموزعون إجتماعا في سرية مطلقة، في محاولة منهم للإاعتراض على قرار موردهم…

“لكن التجاذب لم يكن ممكنا بين صغار الباعة و “دعدع” الذي كان يتمتع بكل التسهيلات لإغلاق تجارتنا. وتوقيف تزويدنا بالصحف، هكذا إذن رضخ الجميع لأوامر “دعدع” بعد تهديداته. ومن حسن الحظ فقد جاءت “الثورة” لتنقذ الباعة من الخسائر الكبيرة التي تعرضوا لها على مدى عامين.

هذا ما صرح لنا به أحد باعة الصحف في قلب العاصمة تونس، والذي فضل عدم الكشف عن هويته خوفا من عقاب مورده.

غالبية الباعة والموزعين مقيدون بديون لـ”دعدع” والآخرون هم من أقاربه، إذن فمن الصعب التملص من نفوذه وسيطرته أو الولوج لبضاعة غير بضاعته ،يضيف أحد التجار.

قبل أحد قدامى باعة الصحف المتجولين على طريق الحبيب بورقيبة أن يقدم شهادته:

أعرف “دعدع” منذ سنوات، إنه رجل طيب، لكنه كان ينفذ الأوامر مثل الجميع، فمن كان بامكانه آنذاك قول “لا”؟؟؟ بالطبع لا أحد، كان “دعدع” متواجدا هنا -دائما- لوقف توزيع أي صحيفة تزعج النظام. وفي بعض الأحيان كان يعطي أوامره بعدم بيع صحيفة ما وذلك من أجل مصالحه الخاصة.

يقول البائع العجوز.

ليست لدي سلطة على الباعة، إني لا أعرفهم. وعلاقاتي تقتصر مع الموزعين والموردين. هل ترون باعة في مكتبي؟؟ طبعا لا..هذه مجرد حكايات إنها أكاذيب. يدافع عن نفسه “دعدع”..مع أنه قبل مقابلتنا كان في جولة ميدانية لنقاط بيع الصحف بين المرصة والشرقية. ولم تنته المقابلة إلا عندما دعاه أحد معاونيه لإنهاء جولته اليومية التي يقوم بها شخصيا للنقاط الكبرى لبيع الصحف في تونس.

يعتقد كثيرون أن “دعدع” يخنق الصحافة المكتوبة ومع ذلك فهو مغرم بصحافة تخصه هو!!! صحافته تتحدث عن محيطه، صحافة لا تأتي لتبقى في المخازن، صحافة تعرف طريقها سريعا إلى أيدي القراء. إن صحافة لا تحقق الأرباح لا تستحق الإحترام يقول”دعدع”. لقد ساعدت الصحف دوما، وأعرف النصائح من أجل رواجها. فقد إجتمعت بداية الثمانينيات بملاك الصحف مثل: الشروق والشعب والراية وأقترحت عليهم التركيز على الإثارة من أجل تحقيق مبيعات أفضل فـ”صدى المحاكم” و “المنوعات” أنا الذي اقترحت عليهم الفكاهة والصور الخليعة، كلها كانت أفكاري، كانت مبيعات الصحف التونسية تصل يوميا لـ 15 ألف نسخة في العام 1975، في تونس. وبفضلي تجاوزت المبيعات 100 ألف نسخة خلال الثمانينيات ،لأني أدرك ما يبحث عنه القارئ التونسي وهذا للأسف ما لا يعرف عنه الصحفيون شيئا. يقول دعدع.

ديغاج “دعدع”

كانت عشرات الصحف اليومية والأسبوعية توزع في تونس قبل ثورة 14 جانفي وبعد الثورة منحت وزارة الداخلية ترخيصا لـ 180 عنوان جديد. وخلال أشهر قليلة اختفت غالبية هذه الصحف الناشئة، بسبب المشاكل المالية وسوء التسيير، كما أغلقت صحيفة “العلى” في شهر مايو 2012. وقد صرح مديرها نبيل أجرده خلال مؤتمر صحفي بإدانته لغياب آليات عادلة للتوزيع، كما إنتقد السيطرة والإاستحواذ على الإعلانات العمومية. وتحدث نبيل عن تورط شخصي لـ”دعدع” في توقيف توزيع صحيفته. إلتقيت بـ “دعدع” عدة مرات وأصبحنا أصدقاء كنت أعتقد أنه “صادق” و يريد مساعدة مستثمر ناشئ مثلي من أجل نجاح صحيفتي. وعندما حاولت أن أسحب 8000 نسخة حين كان لدي سبق هام وكان متوسط ما أسحبه 5000 نسخة، إعترض “دعدع” على هذه الخطوة لأن من أنافسهم هم أصدقاء له وقد طلبوا منه توقيف مبيعاتي، حاولت أن أتجاوز هذه المسألة وديا مع “دعدع” لكنه رفض مع أنه كان يحصل على نسبة 25 % من المبيعات، بحسب إتفاقنا. وعندما تحدثت عن الموضوع في الإعلام إتصل بي وهددني.

لقد إختفت عدد من الصحف من الأسواق كما هي الحال بالنسبة لـ”العلى”. وتوزع مؤسسة دعدع الآن 40 أسبوعية و11 يومية من بينها صحيفة واحدة جديدة هي “المغرب” التي قاومت المنافسة ووجدت مكانها في السوق. “الصحف الأخرى ليست مؤهلة ولا تعرف أن تجلب القارئ التونسي ولا تعرف طريقها للبيع ولا تقدم إخراجا حديثا إنه من الأسهل بالنسبة لأصحابها أن يتهموني بتخريب صحفهم وهذا ليس صحيحا مطلقا، لقد إستقبلتهم جميعا في مكتبي وساعدتهم وليست لدي أية مصلحة في توقيف توزيع الصحف لأنها طريقي لكسب “الخبز”، إني أعمل في هذا المجال منذ وقت طويل، وقد نجحت فيه إنهم في غيرة من نجاحاتي هذا هو كل شيء. يدافع “دعدع” عن نفسه في تشنج.

هل “دعدع ” بريء حقا؟ أم أنه ما يزال يحتفظ بيده على الصحافة التونسية؟ خالد القفصاوي صحفي بـ ” الربيع” المتوقفة منذ نشرها مقالا يتضمن إنتقادا لنفوذ “دعدع” يؤكد سيطرة الأخير على مجال الصحافة الورقية في تونس. لقد إتصل”دعدع” برئيس تحرير صحيفتي وهدده بتوقيف التوزيع. وقد إستأنف توزيع صحيفتنا بعد مفاوضات طويلة. وفي الحين سجلنا خسائر كبيرة، مع العلم أن صحيفتنا حديثة النشأة مما ينعكس على وضعيتها في السوق. لا أقول أن صحيفتنا توقفت بسببه فقط لكن “دعدع” من بين العوائق الكبيرة التي تهدد الصحيفة بالإختفاء، نهائيا. يقول خالد القفصاوي من أجل

الغوص أكثر في الموضوع

“يجب أن يتم التغيير بتحقيق تنافس شفاف وقوي”.

لا أحد يرفع قضية ضد “دعدع”، ولا أحد يجرؤ على أن يعطي “صحيفته” لموزع آخر، لأنه يحظى بسلطة يعضدها إستئثاره بالمجال والقطاع بحاجة إلى التنظيم كما أن شركات لمنافسة “دعدع” يجب أن ترى النور من أجل تحقيق التوازن يخضع العرض والطلب في السوق.

خلال السنوات الأخيرة حاولت عدد من المؤسسات الولوج للسوق ومنافسة “دعدع” لكن أي واحدة منها لم تستطع الإستمرار ومجابهة الصعوبات نظرا لشراسة “دعدع”؛ إلا أن تجربة واحدة تبدو ناجحة يتعلق الأمر بـ “des colombes” وهي مؤسسة “شفافة” للتوزيع الحديث وفقا لوصف مالكها نبيل بسيس : لكن من أجل النجاح في هذا المجال يجب ممارسة الخديعة والمراوغة. هكذا تحدث نبيل لإعطاء فكرة عن نجاح منافسه… يأمل هذا الشاب المستثمر أن يصنع مكانته في السوق، وهو يقترح آليات جديدة على زبنائه وعدد من الخدمات البديلة. كما يؤكد أن الطرق القديمة لـ”دعدع” في التوزيع لا يمكن أن تصمد أمام المتطلبات الجديدة للسوق: لم يعد الناس يقرؤون، وتعاني الصحف كثيرا لكي تجد طريقها للبيع بتلقائية ويجب التركيز على الإاشتراكات والعلاوات، وخدمات الإيصال. و يرى نبيل أن “دعدع” يبالغ في إستغلال نفوذه في القطاع، لأن الجميع يقبلون بهذه الوضعية، ولا أحد يقول شيئا. والحل الوحيد لتغيير هذا المعطى هو خلق البديل”.

عبد الوهاب عبد الله ،هو أيضا يرد على التهم


الأستاذ بلعيبه محامي عبد الوهاب عبد الله يرد على تهم المصادرة والدعاية الموجهة لعبد الوهاب عبد الله في عهد بن علي.
شغل عبد اللوهاب عبد الله منصب مدير عام (La Presse) لمدة 7 سنوات خلال الفترة 1979-1986. وكان دعدع حينها من بين موظفي الصحيفة وكان مكلفا بالتوزيع ثم غادر بعد ذلك يعمل لحسابه الخاص. أما موكلي فقد إندثرت علاقاته بموظفي الصحيفة أو تقلصت بمجرد أن غادر إدارة الصحيفة. أما فيما يخص مصادرة الصحف فإن موكلي بريء تماما، كما أن”دعدع” تاجر في القطاع الخاص وهو حر في تسيير مشروعه كما يريد و هو حر في أن يبيع ما يريد. يقول المحامي