المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

tunisie-salafistes

بقلم شمس عروة،

 

قد يبدو عنوان المقال متناقضا إلا أنه يعكس الفوضى الفكرية والتناقضات الجسيمة التي يتخبط فيها جزء كبير من نخبنا السياسية و الثقافية و الدينية. سأحاول من خلال هذا المقال تحليل هاتين الظاهرتين اللتين اكتسحتا مجتمعنا منذ سنين و اتضحتا أكثر بفضل ما اتحته الثورة من حرية تعبير و هما العلمانية الدينية والسلفية العلمانية.

العلمانية الدينية

يعيش العالم العربي منذ بداية العشرية الفارطة صحوة إسلامية نذكر من أبرز تجلياتها ارتفاع عدد مرتادي المساجد ، الإقبال المتزايد على اللباس الشرعي ، تزايد الطلب على الإعلام الإسلامي ، الاقتصاد الإسلامي …في المقابل لم تسجل نسب الفساد و الرشوة و المحسوبية و الغش انخفاضا جليا ، كما بقي المجتمع يعني من أمراضه القديمة والمزمنة كغياب الثقة بين الناس ، وإضاعة الأوقات ، و قلة المردودية وغياب الإخلاص في العمل…وهو ما يدفعنا للتساؤل عن أسباب غياب تأثير التدين في هذه الظواهر الاجتماعية.

إن السبب حسب رأيي هو التدين العلماني الذي يفصل الدين عن الأخلاق و المعاملات و هو بالتالي يفصل الدين عن المجتمع و عن الاقتصاد و عن السياسة و عن كل شيء.

فالتدين عند أغلب من يسمون اليوم بالملتزمين ينحصر في الجوانب الشكلية و التعبدية ، و يهمل جانب المعاملات و الأخلاق ، فترى مثلا سائق سيارة الاجرة لا يشغل العداد ولكنه يجتهد في تجنب الإذاعات التي تبث الموسيقى ، ونجد الطالب يجتهد في حفظ القرأن غير اجتهاده في دراسته العلمية ، و المرأة تجتهد في أن يكون لباسها شرعيا غير اجتهادها في تجنب الغيبة و النميمة ، ونجد الموظف يحرص على أداء صلواته في أوقاتها لكنه لا يجتهد في إتقان عمله و خدمة المواطن ، و التاجر لا يلقي بالا للعهود والمواثيق التي تلزمه تجاه شركائه وحرفائه و تجاه الدولة قدر التزامه بأداء شعائره الدينية.

هذه هي العلمانية الدينية التي يعاني منها مجتمعنا اليوم ، المفارقة هي أن أغلب أصحاب هذا التوجه يرفضون ويحاربون بشدة ما يسمى بالعلمانية الحداثية التي لا تخلو بدورها من تناقضات لتكون شبيهة بالسلفية الدينية في طريقة تفكيرها وتعاملها مع المجتمع ومع التاريخ.

السلفية العلمانية

يتسم خطاب عدد من ممن يسمون بالحداثيين العلمانيين بعدة نقاط التقاء مع الخطاب السلفي.

أولى هاته النقاط الوصاية على المجتمع إذ يعتبر هؤلاء العلمانيون عامة الشعب جهلة ولا يعرفون مصلحتهم ، لهذا فهم يدعون إلى تدخل الدولة لقمع الحريات حماية لمكاسب حداثية يجهل الناس قيمتها حسب تقديرهم ، وهو ما ظهر خاصة في قضية الدعاة الأجانب إذ يدعو الكثير من العلمانيين إلى منعهم من دخول البلاد حماية لعقول التونسيين مما يسمونه بالغزو الوهابي . فهم رغم دعوتهم إلى حرية دون قيود كلما تعلق الأمر بحريات يعتبرها الكثيرون مسيئة للمقدسات و للأخلاق العامة ، تجدهم سرعان ما يضعون لهذه الحرية قيودا إذا كان الأمر يخص الممارسة الدينية.

ثاني هاته النقاط هي نبذ الديمقراطية إذا أدت إلى إفراز تشريعات مخالفة لتصورهم للمجتمع ، ففي الوقت الذي ينبذ بعض السلفيين الديمقراطية لأنها قد تؤدي إلى سن قوانين مخالفة للشريعة الإسلامية ، فإن بعض العلمانيين يرفضون الديمقراطية إذا أدت إلى تشريع بعض القوانين ذات المرجعية الدينية.

من ناحية أخرى تقوم السلفية الدينية أساسا على تقديس مجموعة من الشخصيات التاريخية التي عاشت خاصة في الجيل الإسلامي الأول من الصحابة و التابعين ، يشترك معها كثير من العلمانيين في تقديس رموز تاريخية وطنية ورفض أي نقد ومراجعة لتجاربها و افكارها ، كالحبيب بورقيبة و الطاهر الحداد وغيرهم ,فعوض التعامل الإيجابي مع التراثالإصلاحي التونسي بنقده و تطويره ، يكتفي هؤلاء بترديد الشعارات الجوفاء ، حتى أنك تكاد تعتقد عندما تتابع بعض الخطابات أن إحياء الفكر البورقيبي يقتصر على الترحم عليه و لبس نظارته و اعتماده كشعار رمزي في الحملة الانتخابية.

كما يعتمد جزء من العلمانيين سلاح التكفير ضد كل مثقف أو سياسي لا يعتمد طرحهم ، التكفير هنا ليس بالمعنى الديني ولكنه يكون بالاتهام بالرجعية والتخلف و الظلامية و العمالة ، من دون مناقشة الأفكار مناقشة عقلانية.

أخيرا ، يشترك بعض العلمانيين مع السلفيين في عدم مراعاة التطورات السوسيولوجية والتاريخية والخصوصيات الحضارية لتونس ، ومحاولة إسقاط تجارب تاريخية جاهزة على واقع تونسي مختلف ومتغير.

إن أوجه الشبه و التداخل التي ذكرنا بعضها تؤكد أن الصراع الثنائي الذي يعيشه مجتمعنا اليوم هو صراع قشور بين فئتين مختلفتين في الظاهر خاصة في الخطاب واللباس والسلوك الاجتماعي ، ولكن متفقتين في نمط تفكير ضيق ترعرع طيلة أكثر من عشرين سنة وساهمت في اذكائه الأيديولوجيات المقيتة والصراع السياسي اللاأخلاقي ، هو نمط تفكير يخون في نفس الوقت جوهر الإسلام والعلمانية الذين من بين أهم مقاصدهما التعايش المشترك و وحدة المجتمع.

في الختام لا بد من التأكيد أنه ليس الهدف من هذا المقال نقد السلفية أو العلمانية وإنما التنديد بما يحمله كثير من أصحاب هذه الأيديولوجيات من تناقض يعبر عنه قول الشـاعر مظفرالنواب : قتلتنا الردة.  قتلتنا ان الواحد منا يحمل في الداخل ضده