بقلم جمال سعايدي،

share-islam
انشرها ولك الأجر… إن لم تنشرها فإعلم أنّ ذنوبك هي التي منعتك…أستحلفك بالله أن تنشرها… هذه عيّنة من العبارات المتداولة في الفضاءات الإفتراضية خاصة على صفحات التواصل الإجتماعي حيث أضحى نشر وتقاسم المواعظ الدينية والإستشهاد بالآيات والأحاديث النبوية من السمات البارزة للكثير من صفحات التونسيين على الفايسبوك. تأتي هذه الظاهرة مقرونة ببروز خطاب دعوي على الطريقة المعمول بها في دول الخليج يرتكز على الترهيب من بعض الممارسات والترغيب في البعض الآخر على إعتبار أنها من سنة وهدي النبيّ، إضافة إلى بروز ظاهرة الفتوى كمعطى جديد في إدارة حياة التونسيين وتنميط سلوكياتهم وتعاملاتهم.
قد يسألني البعض وما العيب في ذلك طالما أنّ هذه الظاهرة يمكن أن تساهم في إعادة التونسي إلي بعض القيم الأصيلة التي هجرها نتيجة عدّة عوامل (ثقافية وإجتماعية وسياسية وإقتصادية…). وهنا لست في وارد التشنيع على من يريد التديّن (على الفايسبوك أو في الواقع) أو مصادرة أرائهم في مواضيع ومعتقدات دينية، لكن استقراء هذه الظاهرة في العمق يجعلنا نقف على واقع لا يجعلنا متفائلين بمستوى الوعي الفكري لنسبة غير هيّنة من التونسيين.

دراسة هذه الظاهرة في العمق تؤكّد لي جملة من الإستنتاجات التي وقفت عندها وإن لم يكن بأدوات عالم الإجتماع لكن بعين الملاحظ الّذي يرى تغيرات طارئة على كثير من زملائه وأصدقائه.

أوّل هذه الإستنتاجات هو الانفصال التامّ بين سلوكيات من يدّعون التديّن في خطاباتهم (الإفتراضية أو الواقعية) المنمّقة والمعطّرة بالقيم والعبارات المستقاة من الحقل المعرفي الديني وبين معاملاتهم وأخلاقهم اليومية، وهذا ليس إستثناءا تونسيا بل هو ظاهرة عربية بإمتياز وقد زادت حدّتها مع انتشار القنوات الدينية الممولة بعائدات النفط والتي تسعى من ضمن ما تسعى إليه إلى بثّ إسلام آخر لا تشغله قيم العدل والحريّة بقدر ما تشغله طقوس محدّدة يختزل فيها الإسلام ورسالته في مجموعة من الوصفات الجاهزة لدخول الجنّة.

الإستنتاج الثاني يخصّ إشتراك أغلبية متبني التديّن الإفتراضي في محدودية الزاد المعرفي المتعلّق بالدين والفكر الإسلامي عموما، ولعلّ إعادة نشر ما يبعث لهم دون تمحيص أو حتى حسّ نقدي خاصة في المسائل التي تصدم العقل وتستفزّه أو تستبلهه خير دليل على ذلك.

partager-islam-fecebook

 

لكن كيف وصلنا إلى هذا الحال؟

يجب الإقرار أوّلا بأنّ هذه الظاهرة مركّبة أي أنها تختزل جملة من العوامل والتناقضات التي تكوّن وعينا الجمعي وتشكّل مخزونا ثقافيا لا نقديا ورؤية ناجزة لكل ما تعلمناه وأصبح في خانة الغير قابل للنقاش أوالتشكيك.

قد يرجع البعض هذه الظاهرة إلى تضييق النظام السابق على الممارسات التعبدية وقمع كل مظاهر التديّن خوفا من انتشار التطرف والغلو حيث إقتصر دور المؤسسة الدينية الرسمية على تحديد نصاب الزكاة كل سنة و تحرّي رؤية الهلال. هذا التضييق أعطى نتائج عكسية فمع غياب خطاب ديني تونسي إتّجه أغلب التونسيين إلى القنوات الدينية الوهابية التي عملت طيلة سنوات التصحّر هذه على بثّ إسلام البداوة المتشدّد والمغرق في الطقوس والشكليات.

هناك من يرى أنّ التضييق الممارس على كل فكر حرّ ينقد الأرتودوكسية الدينية السائدة ويدعو إلى تجديد الخطاب الديني ساهم بدوره في بروز هذه الظاهرة.

البعض الآخر يرجعه إلى كوننا شعوب لا تقرأ وبالتالي لا تتمتّع بالحدّ الأدنى من الثقافة والحسّ النقدي الذي يخوّل لها النظر إلى تراثنا الفكري كإنتاج بشري قابل للنقد والمراجعة.

آخرون يرونها انتهازية من البعض وركوب على موجة التديّن السائدة التي تغذّت بالأساس واشتدّت مع صعود قوى الإسلام السياسي إلى سدّة الحكم.
أيّا كانت الأسباب وراء وجود هذه الظاهرة وإمتدادها، فهذا لا يمنعنا من التساؤل عن مدى التأثير الفعلي لهذه الظاهرة على حياة التونسي، فهل نجد صدى لهذا التديّن في سلوكيات التونسي؟ فهل تحسنت أخلاقنا؟ هل نحترم أبسط قواعد المدنية والتحضّر في النقل وفي الأماكن العامة؟ هل أننا في مراتب متقدمة بين الدول في مكافحة الفساد والرشوة؟ والكثير من الأسئلة الأخرى التي تتزاحم عند عرض هذا السؤال أمام هذه الظاهرة.

الإجابة قطعا لا، فهذه المظاهر الشكلية في أغلبها والّتي لا تمسّ الجوهر الحقيقي لإشكالاتنا الأخلاقية والقيمية تعوّم الموضوع وتسطحه وهي تؤبد بذلك منحى تتميز به جل المجتمعات الإسلامية والعربية خاصة وهو طغيان التدين الشكلي الظاهري الّذي لا يغيّر من أوضاعنا البائسة شيئا ولا من أخلاقنا المتردية شيئا لكنّه يعطي انطباعا شكليا بتديّن مغلوط.

هذا التديّن الإفتراضي يدخل حسب رأيي في خانة ما أطلق عليه علاء الأسواني في مقال له نشر بجريدة الدستور سنة 2008 عنوانه ظاهرة التدين البديل والذي خلص فيه إلى تقييم هذه الظاهرة على أنّها “وعي فاسد بالدين يؤدي إلى نوع من التديّن الظاهري الّذي يشكّل بديلا عن الدين الحقيقي” وهو كما قال: ” مريح وخفيف ولا يكلّف جهدا ولا ثمنا لأنّه يحصر الدين في الشعائر والمظاهر”

وهنا سأختم بالتعريج على مصطلح متداول بكثرة لدى حركات الإسلام السياسي وهو مصطلح “الصحوة الإسلامية” الّذي أراه يلخّص جزءا ممّا كنا نتحدّث عنه، فعند الحديث عن هذا المصطلح يقرن دائما بمؤشرات من قبيل إزدياد أعداد المصلين في المساجد وإزدياد نسبة المحجبات وصعود حركات الإسلام السياسي إلى الحكم… وهي علامات لاتدلّ على تغيرات جذرية في قيم المجتمع إذ هي أشبه بمن يبيع لك سلعة حرام معبّأة في كيس مؤشّر عليه بعلامة “حلال”.