تضمن الدولة الحق في التعليم العمومي المجاني بكامل مراحله، كما تعمل على تجذير الناشئة في هويتها العربية الإسلامية، وعلى ترسيخ اللغة العربية ودعمها وتعميم استخدامها.
الفصل الثامن والثلاثون
إنّه الفصل الثامن والثلاثون الذي حظي بتزكية نوّاب المجلس التأسيسيّ في تونس خلال أعمال المصادقة على الدستور الجديد. ومع أنّ الأمر ينسجم ظاهرا وباطنا مع هويّة التونسيّين بانتمائهم إلى الأمّة العربيّة الإسلاميّة، إلاّ أنّه وجد معارضة شرسة من أنصار ما يسمّى بالحداثة وثقافة الانفتاح على الآخر، وفي مقدّمتهم الأستاذ عياض بن عاشور، الخبير في القانون الدستوري. حتّى أنّه هرول إلى قناة تلفزيونيّة خاصّة، ليحّذّر التونسيّين من “الكارثة” التي خطّها النوّاب في دستورنا المنتظر، معتبرا أنّ يوم المصادقة على ذلك النصّ يوم أسود في تاريخ تونس… لأنّه “بمثابة الدعوة لرفض التقدّم والانفتاح على الحضارات الأخرى واللغات الأجنبية…أمر كارثيّ سيجعلنا متخلّفين”.
والتأويل بذلك الشطط، إنّما يعبّر على نزعة بيّنة من صاحبه إلى المبالغة وإساءة الظنّ والحكم على النوايا. وكلّها أفكار انطباعيّة ذاتيّة، تتعارض مع المناهج النقديّة العلميّة في التعامل مع النصوص بأنواعها. وليست هذه المرّة الأولى التي يهاجم فيها ابن عاشور الدستور الجديد ويتّهمه بالانغلاق، فتلك مهمّة دأب عليها كلّما دعته وسائل إعلامنا ليبثّ شكوكه ومخاوفه بخصوص ما يُكتب تحت قبّة التأسيسيّ، وأمام غياب المنابر الحواريّة الرصينة في أغلب القنوات التلفزيونيّة التونسيّة، انخرط مع غيره في برامج “التوك شو” التي تفتقر إلى قواعد الحجاج العقلانيّ، وتنقلب إلى خصومات لا تنتهي بين منفّرين ومستنفرين من كلّ شيء. وليس مستبعدا أن تكون تلك الحملات قد أثّرت على لجان الصياغة وأدّت إلى التخلّي عن فصول ذات صلة بالمقدّسات، بحجّة غياب التوافق حولها، أو لكونها تهدّد مبدأ حرّيّة الفكر والتعبير، المكسب الذي تحقّق بعد الثورة. وفي هذا السياق، طلب عياض بن عاشور إلغاء تلك الفصول لأنّ تجريم الاعتداء على المقدّسات فيه تهديد للمثقفين وأهل الفنّ. والطريف أنّ خوفه على المبدعين لم يتعلّق بالمعاصرين لنا فحسب، بل شمل الأموات أيضا، (ثلّة من الأوّلين وثلّة من الآخرين)، فقال في تصريح مثير للجدل: “إنّ دستورا كهذا خطرعلى بشار بن برد وأبي نوّاس وأبي العلاء المعرّي، فكلّ هؤلاء سيحاسبون”!!… والحلّ عنده أنّ: ‘ المقدّسات ليست في حاجة للتنصيص عليها صراحة كمقدّسات لأنّ المسّ بالشعور الجماعي لشعب معيّن أو حساسيّاته الدينية والثقافية يجرّمها القانون الجزائي الحالي’.
واللافت في ما يسوقه من الحجج أنّه انتصب حكَما ليقرّر ما يحتاجه التونسيّون في دستورهم وما ينبغي الاستغناء عنه، كالتنصيص على المقدّسات، أو تجذير الناشئة في هويّتها لأنّ : “التونسي لا يحتاج إلى تعريف ذاته وهويّته في الدستور، باعتبار أنه يعيش ذاته بشكل طبيعي ويوميّ … وإذا احتجنا إلى التنصيص على ذلك في الدستور فهذا يعني أنّ لدينا إشكالية مع أنفسنا”.
ولعلّ أصدق ما نطق به ابن عاشور يتعلّق بحجّة “الإشكاليّة مع أنفسنا”، فهي حقيقة تقلب السحر على الساحر، وتتجلّى بوضوح، عندما نرى بعض التونسيّين من “أصحاب الخبرة” يقيمون الدنيا ولا يقعدونها كلّما تصدّوْا إلى مسائل الهويّة في علاقتها بلغتنا العربيّة وشريعتنا الاسلاميّة، فيتسلّحون بمقولة “الحداثة” ومشتقّاتها من تقدّم وانفتاح على القيم الكونيّة إلى حدّ التطرّف الذي يحوّل بعضهم إلى دعاة لاعتناقها وكأنّها دين جديد بديل…. حداثيّون لا يعترفون بالمقدّس ولكنّهم يقدّسون عقيدتهم الفكريّة ويكفّرون الذين يخالفونهم وينعتونهم بأقبح الصفات فيتهّمونهم بالتخلّف والرجعيّة والإرهاب، ويسودّون أيّامهم، ويبشّرونهم بالكوارث وسوء المصير، .. فإذا كان الحداثيّون بهذا الانحطاط فإنّي أوّل الكافرين بما اعتنقوه من زيف الحداثة باعتبارها مجرّد شعار رنّان يردّده المتكلّمون في الشأن السياسيّ دون إدراك لكنهه الفلسفيّ ومفهومه الحضاريّ الشامل.
إنّنا في أمسّ الحاجة لتمثّل المفهوم العمليّ للحداثة حتّى لا تحتكرها بعض النخب أو الأحزاب السياسيّة لصالحها. فعندما نعي أنّها منهج للرقيّ ومسلك للتعارف مع الآخر من حيث هويّته وثقافته ورصيده في عمليّة البناء الحضاريّ ، سندرك أنّ تلك الحداثة ليست وليدة هذا الزمان، بل هي نزعة إنسانيّة شملت جميع العصور بدرجات متفاوتة. وقد ظهرت منذ قرون لدى المسلمين عندما أسّسوا بيت الحكمة في بغداد، وترجموا آلاف الكتب التي جلبت من مشارق الأرض ومغاربها، وعملوا على نقد محتوياتها بعقولهم ومداركهم ومناهجهم حتّى تيسّر لهم أن يصلحوا ما في علوم السابقين من أخطاء، ويكملوا ما فيها من النقص ويضيفوا إليها الجديد ويؤسّسوا نهضة علميّة وحضاريّة امتدّت على مئات السنين، وجعلتهم متقدّمين على غيرهم من الأمم، ومهّدت للثورة التكنولوجيّة الحاليّة التي لا تعرف التوقّف. فهي عابرة للزمان والمكان، سائرة نحو المستقبل بخطى أسرع من المتوقّع. وقريبا ستتجاوزنا وتتجاوز بعض المعايير التي اتّفقت عليها عقولنا، فلنتواضع إذن أمام التاريخ بماضيه ومستقبله، حتّى نهتدي إلى صراط الحداثة المستقيم.
إنّ اختيارنا لمفهوم “التعارف”ـ الصيغة التي تدلّ لغويّا على المشاركة في القيام بالفعل ـ نابع من تراثنا النقليّ، ومن وعينا بأنّ جميع الحضارات والثقافات مدعوّة إلى الحوار المتكافئ في سبيل النهوض بمستقبل البشريّة، دون وصاية أو هيمنة من ثقافة على أخرى كما يُفهم من المواثيق الدوليّة، وكما دلّت عليه الآية الكريمة:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.”
فحريّ بنا أن نتأمّل الآية بتعبيرها البليغ عن المساواة بين النّاس ودعوتها إلى بناء العلاقات مع الآخر على أساس الفعل المعرفيّ بكلّ مشتقّاته وبما سيثمره من التعاون وتبادل الخبرات بين الشعوب. وفي ذلك دليل على حداثيّة القرآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
الكريمة بمقومات انسانية رائعة بحجم من كتبها ………….شكرا لمن مازالوا على عهدهم يلقنونا ادب العيش والحياة
كلّما تصدّوْا إلى مسائل الهويّة في علاقتها بلغتنا العربيّة وشريعتنا الاسلاميّة…..هذه الجملة نسفت بها كل المسوغات التي أردت بها دحض رأي بن عاشور لأنّك بإختصار لم تضع نفسك في موقع الناقد الموضوعي ولأنك وضعت نفسك في حلبة الصراع بين جماعة الهوية وجماعة الحداثة كفارس من فرسان الدفاع عن الهويّة المختزلة لتاريخ تونس في الثقافة العربية الإسلاميّة فقط
@jamel
الموضوعيّة أخ جمال لا تمنع أي كاتب من إبداء رأيه في مرحلة من مراحل المقال…والردّ على بن عاشور الذي يتضايق من الهوية العرية الاسلامية يستدعي بالضرورة الخوض في تلك المسألة دون أن بنسف شيئا من موضوعيّة المقالة… مع العلم انها مقالة فكريّة تتصارع فيها المواقف …ولو كانت تحليلا علميّا لفيروس أو ظاهرة علميّة معيّنة لأمكن الحديث عندها عن معيار الموضوعيّة بالمفهوم الذي عبّرت عنه.
شكرا.
مشكلتي ليست مع رأيك بخصوص الهويّة أخ عبد الرزاق لكن ما استثاريني فعلا هو كلمة الشريعة الإسلاميّة التي تنتمي إلى الحقل اللغوي للإسلاميين وهي كلمة مطاطة وفضفاضة لايتسع الوقت للخوض في حدودها ومعانيها المختلفة من مذهب إلى آخر ومن فرقة إلى اخرى …
السلام عليكم
شكرا لكم على المقال
ما ذكره المتدخل بقناة نسمة يعبر عن رأي شخصي رغم استعماله لضمير الجمع بين الحين والآخر أمر لا يتعارض ونقده بأسلوب حضاري
إن لم يكن هناك مشكل مع الهوية العربية الإسلامية مثلما ذكر ما الضرر في أن يدون هذا الشعور في وثيقة ما دام المتدخل نفسه يقر بذلك
ثم ما هي العلاقة بين ما ذكر في الفصل ٣٨ والرغبة في التقدم والإطلاع على ما تقدمه المجتمعات الأخرى من علوم ولغات وأفكار وفنون
كيف يمكن الحديث عن التقدم والحال وأن مثقفينا لا يزالون منقسمين حول مسائل بديهية تؤسس لمشاريع مستقبلية ضخمة مسائل تتعلق بالهوية
لم أرى حتى الساعة مثقفين ومفكرين يتناولون بجدية الكثير من المشاكل التي تعيشها البلاد كل ما رأيته هو تسلط ورغبة تملك الحقيقة
Ben Achour n’a pas un probleme avec l’identité ou il a un jugement sur les intentions mais je croit qu’il veut pas que le doustour soit statique moyennant il veut qu’il soit plus ouvert sur le monde exterieur comme l’aspect geographique de la tunisie pays ouvert en méditerrannée
السلام عليكم
أكرر مرة أخرى إن التفتح على الثقافات المجاورة أمر لا تضبطه الدساتير بل يتعلق بعقلية كل فرد وما وصل من مستوى علمي
وأدبي وأخلاقي فتقدم الشعوب يقاس بمدى احترامهم لثقافتهم ولغتهم وتقبلهم لثقافات الشعوب الأخرى
أضرب مثالا حتى لا يطغى على موقفي البعد النظري لو تأملت موقف المجتمعات اللآسيوية كاليابان والصين وسنغافورة لوجدت لديهم اعتزاز وتشبث بلغتهم وثقافتهم غير معهود لدى الشعوب الأخرى لكن ذلك لا ينفي أنهم من أكثر الشعوب انفتاحا
هام جدا أن يتخاطب المرى بأكثر من لغة لكن عندما يتعلق الأمر بسيادة الدول فالأمر يختلف بطبيعة الحال تونس ليست الدولة العربية الوحيدة المعنية فكل ساسة هذه الدول يمثلون شعوبهم بلغات أجنبية وهو أمر مثير للدهشة والإشتغراب
ما دونه المشرع التونسي وأعني بذلك أعضاء الجمعية التأسيسية لم يطن وليد الصفة بل كان استجابة لمطالب أغلبية الشعب التونسي لا استجابة لمطالبهم الشخصية لو كان الأمر كذلك لما ترددوا في وضع اللغة الفرنسية في المقام الأول لما لأن تقافتهم فرنسية بها يتخاطبون في حياتهم اليومي