justice-viol

بقلم احمد الرحموني،

لم اكن لاكتب هذا التعليق لولا عثوري صدفة على بلاغ صادر عن مجلس امناء الجبهة الشعبية في 4 افريل الجاري تعرض في سياق تعليقه على جملة من النقاط السياسية الى الحكم الذي اصدرته احدى الدوائر الجنائية بالمحكمة الابتدائية بتونس في 31 مارس 2014 بشان قضية اثارت صخبا كبيرا بسبب تورط اعوان من الامن العمومي في الاعتداء الجنسي على فتاة خلال شهر سبتمبر2012.

ودون الدخول في تفاصيل كثيرة حول الوقائع وتكييفها والاحكام المنطبقة عليها والعقوبات المقررة فقد ظهر لي ان الملفت هو موقف الائتلاف السياسي للجبهة الذي اورد في البلاغ المذكور انه يستنكر “تساهل القضاء مع اعوان الدولة الذين ارتكبوا جريمة اغتصاب الفتاة مريم وتسليط احكام مخففة عليهم” كما يستنكر “التبريرات التي قدمتها المحكمة لاصدار مثل هذا الحكم والتي تعكس استهانة بالمراة و بكرامتها وحرمتها الجسدية وتعديا على المبادئ الدستورية الجديدة التي تضمن للمراة كرامتها و تجرم كل اشكال العنف المسلطعليها بما في ذلك العنف الجنسي” وللتذكير في هذا الصدد نشير الى ان الدائرة الجنائية المتعهدة بالقضية قد قضت بادانة الاعوان الثلاثة وذلك بعقاب اثنين منهم بسبع سنوات لكل واحد منهما بتهمة مواقعة انثى دون رضاها على معنى احكام الفقرة الثانية من الفصل 227 من المجلة الجزائية وعقاب ثالث المتهمين بالسجن مدة عامين مع الخطية من اجل جريمة محاولة ارتشاء من قبل موظف عمومي وهو الباعث على ذلك طبق احكام الفصول 59و82و83 من نفس المجلة.

ونضيف الى ذلك ان دائرة الاتهام قد سبق لها ان اقرت حفظ تهمة التجاهر عمدا بفحش على معنى الفصل 226 من المجلة الجزائية المنسوبة للمتضررة وصديقها استنادا الى ان المكان الذي حصلت به الافعال المسندة لهما هو مكان خال من المارة ومظلم ومقتضى ذلك ان اركان الجريمة على فرض حصول الفعل لم تكتمل لعدم توفر ركن العلانية.

ومهما كان فان الجرائم المقترفة من الاعوان المذكورين تكتسي في كل الاحوال خطورة بالغة سواء على الصعيد الانساني المتمثل في الاعتداء الجنسي على الفتاة -البالغة زمن الواقعة 28 سنة-او على الصعيد الوظيفي بالنظر الى صفة المذنبين اللذين استعملوا خصائص السلطة وامتيازاتها للاعتداء على الغير.

و من الطبيعي ان يعبر الكثير عن وجهات نظرهم ازاء هذا الحكم وان تجد المحكمة من يناقشها في اعتماد الفقرة الثانية بدل الاولى من احكام الفصل 227 من المجلة الجزائية و في تكييف الوقائع على انها من قبيل المواقعة دون رضاء بدل المواقعة غصبا باستعمال التهديد.

ومن المتوقع ان يناقش المعنيون بالقضية جميع تلك العناصر امام محكمة الاستئناف التي لم تنظر في القضية بعدوفي الحكم الصادر فيها.

لكن هل يبدو من الطبيعي ان يعقب اي طرف سياسي على الحكم الابتدائي المتعلق بالقضية او يستبق القرار الاستئنافي الذي يمكن ان يصدر فيها ؟ و على فرض ان ذلك ممكن او في صورة حصوله فهل يجب الرد على من يتولى التعليق على الحكم او يهاجمه ؟ من الثابت ان الاراءفي هذا الشان ستكون بالضرورة متعارضة بحسب مصالح كل طرف لكن يبقى التاكيد على عدد من المبادئ الاساسية المتعلقة بانتقاد الاحكام وشروط ذلك في كل نظام ديمقراطي فمن جهة اولى -يتضح ان تطور الحريات في النظم الحديثة وبالاساس حرية التعبير قد ادى الى التخلي عن النزعة الحمائية المفرطة التي تستبعد كل انتقاد للقضاة او الاحكام القضائية من قبل الافراد او وسائل الاعلام و بالاحرى من السياسيين والمجموعات و الاحزاب السياسية بهدف الحيلولة دون التاثيرات الخارجية بمختلف مصادرها او بسبب ما يؤدي اليه الانتقاد من المساس بموقع القضاء و بالثقة العامة فيه .ولذلك فقد اصبح من المسلم به ان التعليق على الاعمال القضائية ومن ضمنها الاحكام يكتسي اهمية كبرى بالنظر الى دوافع عديدة من بينها تمكين افراد المجتمع من المشاركة في الجدل الدائر حول القضاء وتطوير مؤسساته والمساهمة في ترسيخ مسؤولية القضاة وتمكينهم من مراجعة وجهات نظرهم و اصلاح اخطائهم.

وبناء على ذلك فان انتقاد القضاء او عمل القضاة يبقى ضروريا لتجسيم حرية التعبير كحق دستوري وايجابيا لدعم منظومة الحكم الرشيد ومفيدا لاشاعة الثقافة القانونية والوعي بدولة القانون.

اما من جهة ثانية -فمن الواضح ان مقتضيات المحافظة على استقلالية القضاء و توطيد الثقة في الهيئات القضائية لا يمكن ان تغيب عن ادارة العدالة في كل الانظمة الديمقراطية ولهذا كان من الضروري الاعتراف بان النقد المتعسف للقضاء والمحاكم عند نظرها في القضايا الفردية لا يمكن ان يجد له تبريرا بسبب ما يؤدي له من ارتياب و شك في النظام القضائي .وعلى هذا الاعتبار فمن الضروري حماية ثقة العموم في القضاء ضد الهجومات غير المبررة ومن ضمنها خصوصا الانتقاد السياسي للاحكام القضائية .وهو ما يدعو الى الاخذ بمصطلح “الانتقاد النزيه للاحكام القضائية” الذي يستهدف بالاساس تطوير اداء السلطة القضائية.

وفي ضوء تلك المبادئ يبدو من المستغرب ماورد في بلاغ الجبهة الشعبية من صيغة مباشرة وهجوم صريح على القضاء و الحكم المتعلق بالقضية المذكورة اضافة للمحكمة التي اصدرت الحكم .ويظهر ذلك في استهداف الهيئة القضائية بشتى الاتهامات العامة وغير المبررة كالتساهل ومحاباة الامنيين والاستهانة بالمراة وكرامتها والتعدي على احكام الدستور ..الخ اما من جهة اخيرة- فان الرد على الهجوم غير المبرر الذي تتولاه عموما الهيئات المهنية ومنظمات المجتمع المدني يجب ان ياخذ في الاعتبار جملة من المعطيات الاساسية من ضمنها

  1. ان الرد يجب ان يكون سريعا ودقيقا و ملائما
  2. ان الرد لا يجب ان يستعمل الا عند الضرورة حتى لايؤدي الى سجال يتنافى مع موقع القضاء
  3. ان لايهدف الرد بالاساس الى حماية القضاة بل الى التاكيد على حق المواطن في قضاء مستقل.