بقلم عبد الرزاق قيراط،
أصبحت أخبار الاضرابات في ميدان التعليم مسألة روتينيّة خلال السنوات الأخيرة، ورغم الحوافز التي أقرّت لهذا القطاع، مازال التململ سيّد الموقف بسبب انفلات الوضع الاقتصاديّ الذي مسّ جميع الميادين وما رافقه من تخبّط الحكومات التي تعاقبت بعد الثورة فسمحت بزيادات عشوائيّة لا تخضع لأبسط قواعد التنسيق بين الوزارات ولا تراعي مبدأ التناغم الذي يخصّ أسلاك الموظّفين. وهكذا ساهمت في تغذية المزيد من الاضطرابات والمطالبات بمنح أقرّتها الحكومة هنا ورفضتها هناك..
المعلّمون يطالبون في إضرابهم الجديد بحقّهم في منحة المشقّة التي صرفت لأساتذة المدارس الإعداديّة والثانويّة مع بداية السنة الجارية.. وقد طالبت بها نقابة الثانوي وحصلت عليها بعنوان آخر يتجنّب ذكر المشقّة (المزعومة) لذلك سمّيت منحة خصوصيّة..
والمتأمّل في سلّم الرواتب الذي يتقاضاها المدرّسون سواء كانوا معلّمين أو أساتذة سيلاحظ تعدّد المنح وتنوّعها وأهمّها:المنحة الكيلومتريّة والمنحة البيداغوجيّة ومنحة العودة المدرسيّة ومنحة الانتاج ومنحة (المشقّة) ومنحة الريف… ولكنّ تلك الوفرة لا تدلّ بالضرورة على راتب محترم يضمن العيش الكريم للمربّين ويحثّهم على القيام بواجبهم على الوجه المطلوب خاصّة بعد موجة الغلاء التي شملت جميع الضرورات من مسكن ومأكل وملبس وصحّة…
لقد تأثّرت صورة المربّي في بلادنا بسياسات قديمة خطّطت لإذلاله على المدى البعيد. فكان بن علي (بالتعاون والتآمر) مع اتحاد الشغل يأذن كل ثلاث سنوات بزيادات محدودة في الأجور لا تنسجم مع الارتفاع الصاروخي للأسعار، وأدّى ذلك الحيف إلى إلحاق المدرّسين بشريحة الفقراء بابتعادهم شيئا فشيئا عن الطبقة المتوسّطة. وساهمت تلك الوضعيّة في بروز حالات مرضيّة تفاقمت على مرّ السنين فأساءت أكثر فأكثر إلى صورة المدرّس الذي صار يلجأ إلى حلول جانبيّة لضمان مداخيل إضافيّة… فاستغلّ سلطته المعنويّة لابتزاز التلاميذ وأوليائهم بواسطة الدروس الخصوصيّة.
ظاهرة خطيرة
إنّ أكثر ما يسيء لصورة المربّي اليوم ما تشهده سوق الدروس الخصوصيّة من رواج ومضاربات هي أشبه بالعمليّات التجاريّة القذرة… ملفّ شائك ومعقّد، ولكنّه يظلّ بدون حلول ما أدّى إلى استفحال الظاهرة وانتشارها في جميع مراحل التعليم من الأقسام الدنيا إلى مدرّجات الجامعة حيث يشمل الابتزاز المال والجسد.
يمكن الحديث كالعادة عن ضرورة التقنين الجيّد لتلك الدروس وعن الحاجة إلى الحدّ منها، بالتعويل على وعي المربّي حينا والوليّ حينا آخر، ولكنّ كلّ ذلك لا يتناول الجزء الأخطر والمسكوت عنه من ذلك الفساد الذي أدخل الرشوة إلى مدارسنا. فوُضعت أطراف العمليّة التربويّة في علاقة مشبوهة قوامها مقايضة العدد الجيّد والنجاح في الامتحان بما يدفعه الوليّ لشراء الامتحانات إمّا بشكل مقنّع من خلال تلقّي الدروس الخصوصية لدى نفس المربّي الذي يدرس التلميذ عنده في القسم (وهذا الأمر ممنوع قانونا ولكنّه الأكثر رواجا)، وإمّا بشكل مفضوح أي بيع الامتحانات مباشرة بإنجازها قبل موعدها خارج القسم، وهي ممارسة خطيرة غذّتها عوامل كثيرة منها الجشع لدى بعض المدرّسين الذين باعوا ضمائرهم في سبيل الربح المادّيّ، وجشع مثله لدى بعض الأولياء الذين قبلوا الدخول في تلك اللعبة القذرة لضمان نجاح أبنائهم وأيّ نجاح! إنّ تلك الممارسات التي تعكس سقوطا أخلاقيا مؤسفا في وسط تربويّ لا تشمل لحسن الحظّ كافّة المربّين، فأكثر المربّبن ينأون بأنفسهم عن ذلك الانهيار الأخلاقيّ ولكنّ آخرين لا يُنكر وجودهم أحد، تحوّلوا إلى مصّاصي (أموال) ومجرمين حقيقيّين لأنّهم يعاقبون التلميذ الذي يرفض الدرس خارج إطار المدرسة بالأعداد الرديئة ويحرمونه من الفهم الجيّد في القسم طالبين منه بوقاحة أن ينضمّ إلى مجموعات الدروس الخصوصيّة إن أراد الفهم والنجاح. والمؤسف أنّ تلك القلّة أساءت إلى صورة المدرّسين جميعا ولطّختها بأبشع النعوت.
الغيابات
المرض الآخر الذي ينخر مدرستنا يتمثّل في نزيف الغيابات وقد شهدت بعد الثورة تطوّرا رهيبا، أعجز المدراء والوزراء فلم يجرؤ أحد على معالجته بما يتاح من الحلول ترهيبا وترغيبا. وقد كشف سالم لبيض وزير التربية في حكومة على العريّض أرقاما مفزعة عن تلك الآفة، عندما تحدّث لوسائل الإعلام عن غياب أكثر من خمسة آلاف أستاذ بصفة غير شرعيّة بعد شهر فقط من العودة المدرسيّة. ولاحظ أنّ تلك الأرقام تتصاعد باستمرار بمرور الأسابيع ممّا يؤثر سلبًا على مستوى التلاميذ.
لم بكن وزير التربية آنذاك مبالغا ولا كاذبا، ومع ذلك انزعجت نقابة التعليم من تلك التصريحات، ودعت منظوريها إلى وقفة احتجاجيّة… ويعرف العقلاء من هؤلاء المحتجّين أنهم على خطإ ونقابتهم تساهم في تضليلهم بالدفاع عن الباطل… ولا يشعر بتلك المفارقة بين الحقّ والباطل إلاّ الذين هم مدرّسون وآباء في نفس الوقت ولهم أبناء متضررون من تلك الغيابات… وأنا منهم، ويزعجني أن يجبر أبناؤنا على قضاء أيامهم في الشوارع والمحاضن… ومن الطرائف أني ذهبت يوما لأسأل عن زميلة تتغيب باستمرار وابنتي تدرس في فصلها مادّة رئيسية فقالت لي المديرة ببساطة : ” إنها زوجة الوالي!”.. حدث هذا بعد الثورة للأسف..وهي الفترة التي أباحت جميع التجاوزات.. إنّ ما يحدث منذ سنوات في مدارسنا العموميّة خطير جدا، ونتائجه كانت مدمّرة لكلّ القيم الجميلة ولصورة المربّي الذي يحمل أمانة غرسها في سلوك تلاميذه.
ونقابات التعليم مطالبة بإدراك أنّها لا تحسن التفاوض، ولا تحسن تقديم المقترحات، وهي شريكة في سرقة عرق الأساتذة قبل الثورة، ومسؤولة عن تدمير العمل النقابيّ بعد الثورة حين سيطر على حراكها الابتزاز الفوضويّ لتحقيق أهداف سياسيّة، فجاء كل ذلك بالوبال على قطاع التعليم وساهم في تشتيت مطالب المربّين وإفراغها من محتواها.
لابدّ من إدراك حقيقة واحدة هي أنّ المربّي لا يحتاج إلى منح جديدة بأسماء لا يستسيغها الرأي العام في أحيان كثيرة.. يحتاج المربّي لزيادة عادلة في راتبه بالقدر الذي يعيد له كرامته ويقيه من الوقوع في البحث عن موارد أخرى بوسائل ملتوية…وبذلك فقط نأمل ربما في عودته )فرحا مسروراّ( إلى مدرسته وطلابه بعزّة وشموخ. ولن يتحقق ذلك إلا بإرادة حقيقيّة من وزارة الاشراف لإصلاح جميع العلل التي تعاني منها منظومة التربية والتعليم. ولذلك نحتاج إلى لجان تتوفّر فيها التجربة والشجاعة لطرح الأسئلة الحقيقيّة حتّى نصلح الأوضاع المزرية التي تعصف بالتعليم العموميّ من أجل تكوين سليم لأجيال المستقبل وحتّى لا نضحك بعد اليوم من قول الشاعر المصريّ: قف للمعلّم ووفه التبجيلا.. كاد المعلّم أن يكون رسولا.
iThere are no comments
Add yours