بقلم عمر الباهي، عضو المكتب التنفيذي الوطني لاتحاد الفلاحين،
لا تعتبر الأوضاع المتردّية للفلاحة والفلاّحين في تونس مظهرا من ظواهر الاختلال الاقتصادي فحسب ولكنّها أيضا سبب من أسبابه؛ فافتقار الفلاّحين إلى الدخل من خلال كبح أسعار الإنتاج وإلى العوامل الحاضنة للعملية الإنتاجية المربحة يعني أيضا حرمانهم من حقوق أخرى كثيرة كالصحّة والتعليم والحقوق السياسية وغيرها؛ ووجوه الحرمان هذه مترابطة على نحو وثيق في ما بينها.
مع احتفال تونس باليوم الوطني للفلاحة ومرور خمسين عاما عن ذكرى الجلاء الزراعي الموافق ليوم 12 ماي من كل عام تتأكّد معطيات كثيرة أهمّها على الإطلاق أنه على مر العقود الماضية لم تحتل القضية الفلاحية في تونس مركز الصدارة في برامج التنمية العامة ولم يتحقق تغيّر مثير في واقع الفلاّحين نتيجة التزام الأنظمة السياسية المتعاقبة بسلسلة واسعة من الأهداف المناوئة لمصالحهم وهم الذين ظلّوا دوما مطالبين بطرح منتجات لا تتخطى قيمتها السعرية مستوى القدرة الشرائية للسكان؛ ما أدّى بشكل أو بآخر إلى تهميش المناطق الفلاحية وتفقير الأرياف خدمة لمصلحة رأس المال الصناعي ورفاه الحاضرة والمدائن التي تملّكت الأراضي وحوّلت الفلاّحين أداة طيّعة لتوفير احتياجاتها دون اعتراف بحقهم في الدخل وتحصيل رأس المال بعد أن ساد الاعتقاد طويلا أن قطاعات الصناعة والسياحة والخدمات كفيلة لوحدها بتحقيق النمو الاقتصادي وأن حاجة الدولة إلى حماية هذه القطاعات لن تتم إلاّ من خلال مدّها بما تحتاج إليه من يد عاملة منخفضة الأجر تحظى بالقدرة على توفير حاجياتها من المواد الأساسية بكلفة منخفضة مما شرّع سياسة التدخل في أسعار المنتجات الفلاحية حتى تتوافق مع هذه القدرة؛ ولم تكترث الدولة بما يمثله ذلك من أعباء على الفلاحين الذين لعبوا أدوار صندوق الدعم من أجل رفاه وحماية القطاعات الأخرى: ما يفسّر تدخل الدولة في تحديد أسعار اللحوم الحمراء وزيت الزيتون إلى عتبة التسعينات واستمرار هذا التدخل إلى حد الآن في أسعار المنتجات الفلاحية مثل الحليب والطماطم المعدة للتحويل والحبوب ومشتقاتها .
لقد تحالفت عوامل كثيرة لتفقير الفلاحين وإخراجهم من العملية التنموية برمّتها لكن جنوح السياسات الاقتصادية الوطنية إلى عدم تحرير الفلّاحين من هذه العوامل والسير بهم في الاتجاه المعارض لمصلحتهم عمّق إلى حد بعيد تردّي أحوالهم المعيشية والاقتصادية وقاد بشكل أو بآخر إلى حرمانهم من الثروة الوطنية تشهد بذلك الفوارق بين الأرياف والمدن والمشاكل المتراكمة التي فشل الفلاحون في التصدي لها.
ينبغي الاعتراف بحقوق الفلاّحين
إن الاحتفال بالذكرى الخمسين للجلاء الزراعي قد يدفع بالمخيال العام إلى استحضار هذا المنعطف الحاسم في تاريخ تونس بكل أبعاده ومعانيه العميقة؛ لكنه ينبغي أن يكون سببا دافعا لتمثل أوجاع فلاحتنا ومتاعب فلاّحينا وما يجب أن تكون عليه الفلاحة التونسية لكن الأمر يحتاج قبل كل شيء إلى اعتراف رسمي بما للتنمية الفلاحية من فوائد واسعة النطاق وبما يلقى على السلط العامة من واجب ومسؤولية في الاعتراف بحقوق الفلاّحين وتخليصهم من مخلّفات السياسات الخاطئة وتداعياتها المستمرة على أوضاعهم ومحيط عملهم وعيشهم.
إن أكثر ما تحتاج إليه الفلاحة في تونس هو إطلاق مشروع إصلاح هيكلي بعيد المدى يرتكز على جهود مكثفة لتحسين الأداء الشامل للتنمية الفلاحية؛ وما لم تبذل هذه الجهود سوف تظل مشاكل انعدام كفاءة القطاع وعزلة الفلاحين والفوارق بين الجهات وتلاشي فرص العمل والتصدّع الاجتماعي الأكثر إلحاحا على أي نظام سياسي قائم يرفض المراهنة على القطاع الفلاحي.
ويتوقف نجاح هذا المشروع على عوامل عديدة أهمها الإرادة السياسية وتعبئة الموارد المالية الكافية لإنجاز محاوره ومدى القناعة بما تضطلع به الفلاحة من دور حاسم في العملية الإنمائية خاصة عندما يعتمد اقتصاد الجهات الداخلية على هذا القطاع بصفته مصدرا للعمل والدخل.
هذا المشروع قد يستلهم جوهر مضمونه من “مخطط مارشال” الذي أعاد الحياة للاقتصاد الأوروبي إثر مخلفات الحرب العالمية الثانية ونجح إلى حد فائق في تخليص قطاعاته من مظاهر الركود والانحلال لكن ذلك لا يعني إسقاط مخطط مارشال على الواقع التونسي قياسا بالفوارق والاختلافات بقدر ما يعني الإقتداء بتجارب الآخرين ومحاكاة عوامل نجاحها على الأقل من حيث الإرادة الصادقة وقوة العزم والتخطيط والاستجابة لاحتياجات الواقع.
وتتحدد محاور مشروع ” مارشال التونسي ” الذي يهدف إلى النهوض بأوضاع الفلاحة طبقا لبنود أربعة تشكّل مجتمعة قاعدة متينة للنجاح في تحقيق الإصلاحات المطلوبة والابتعاد عن التمييز ضد القطاع الفلاحي في السياسات الوطنية.
هذه البنود الأربعة تشمل :
1 – المعطى العقاري للأراضي الفلاحية.
2- جانب الاستثمار والتمويل والحركة السعرية للمنتجات الفلاحية.
3- المردودية الاقتصادية للمستغلة الفلاحية.
4- البنية التحتية وعلاقتها بمسالك التوزيع والاتجار.
لا بد من إصلاحات عميقة للأوضاع العقارية
تعتبر الأوضاع العقارية للأراضي الفلاحية محددا هاما للعملية الإنتاجية فبفساد هذه الأوضاع وجنوحها للتشتّت والتجزئة تتعقّد عملية الإنتاج وتصبح عديمة الجدوى؛ وتشير معظم الأرقام في تونس إلى انحسار متزايد لحجم المستغلات وتدني معدل مساحتها ما يفرض تخطيط إصلاحات هيكلية عميقة لحماية رصيد الأراضي من التجزئة وترفيع المعدل العام للمستغلة الفلاحية الذي يصل في فرنسا مثلا إلى نحو خمسين هكتارا مقابل 10 هكتارات في تونس .
وتستدعي الحاجة كذلك تمديد فترات اكتراء الأراضي الفلاحية من أجل فتح الحدود أمام الاستثمارات متوسّطة وطويلة المدى إذ لا تتعدى هذه المدة حاليا 3 سنوات فيما تشترط مجلة النهوض بالاستثمارات الفلاحية مدة كراء لا تقل عن تسع سنوات للتمتع بالحوافز والتشجيعات.
في الجهة الأخرى ينبغي أن تتولّد رؤية وطنية لتشجيع ضم الأراضي الفلاحية عبر توفير الأرصدة المالية الملائمة للقيمة العقارية ومنح التسهيلات للقرض العقاري الذي يصل اعتماده الجملي حاليا إلى نحو 7 ملايين دينار حاليا وهي قيمة ضئيلة يستحيل معها إمكانية ضم الأراضي وتسوية تبعات التوريث والنزاعات العائلية حول الأراضي؛ ويقترح في هذا السياق أن يتم تطوير الإعتمادات الموضوعة بذمة القروض العقارية إلى نحو 100 مليون دينار مع منح أولوية الاقتراض لخرّيجي المعاهد العليا الفلاحية وأبناء الفلاّحين هذا دون التغافل عن أهمية تحسين أداء الوكالة العقارية الفلاحية وتوسيع تدخلاتها إلى أبعد مدى ممكن من أجل ضم الأراضي وتسوية أوضاعها العقارية.
التمويل وتضخّم الكلفة
لن تتمكن الفلاحة في تونس من القفز على أوجاعها ما لم تتغير ملامح تمويل أنشطتها والاستثمار فيها وتكفي هنا بعض الإشارات الدقيقة للتدليل على حجم نواقص السياسة التمويلية والاستثمارية ونتائجها العكسية على الفلاحين؛ من ذلك أن إجمالي القروض الموسمية السنوية لا تتخطى سقف الأربعين مليون دينارا لا تمثل إلاّ 10 بالمائة من قيمة الاحتياجات الفعلية للموسم الزراعي وأن 7 بالمائة فقط من الفلاحين يشملهم خط التمويل البنكي.
ويضطر الفلاّحون عادة إلى اللجوء نحو مصادر تمويل أخرى منها الشراءات المؤجلة الدفع لدى المزودين الخواص وبأسعار أكثر ارتفاعا ما يؤدي إلى تضخّم التكلفة واختلال القدرات المالية للفلاحين .
وتحتاج المسألة إلى وضع أطر قانونية وإدارية تدفع عن الفلاحين هذا الاستنزاف المتزايد لقدراتهم وذلك من خلال بعث صندوق تمويلي يلبّي احتياجاتهم في كل القطاعات والمواسم؛ وقد يخضع تمويل هذا الصندوق إلى مقتطعات مباشرة على المحاصيل الفلاحية على أن تتكفّل الدولة بنسبة لا تقل عن 80 بالمائة من مجمل نفقاته التمويلية.
مداخيل الفلاّحين…
القضية المنسيّة سيكون الاعتراف بالمستغلة الفلاحية كمؤسسة اقتصادية في حاجة إلى الربحية والدخل عاملا مؤثّرا في أداء القطاع الفلاحي وتراكم راس المال وتوطينه لخلق الرفاه داخل الجهات الفلاحية.
وينبغي اليوم أن تحسم الجهات الحكومية موقفها من قضية مداخيل الفلاّحين في اتجاه احترام حقهم المشروع في تحقيق عائد مالي يوافق حجم جهدهم وعرقهم دون التدخل بكبح الأسعار وضربهم بعصا القدرة الشرائية وقد يكون التدخل الحكومي في هذا الجانب بسيناريوهين إثنين لا ثالث لهما؛ وذلك إما بالتوافق مع الفلاّحين حول كلفة الإنتاج على الأقل في مستوى المنتوجات الإستراتيجية كاللحوم الحمراء والبيضاء والحبوب والألبان والبطاطا والطماطم وتوظيف هامش ربح لفائدة الفلاحين لا يقل عن 20 بالمائة وإما بتخطيط الأسعار وتحديد ها مع التزام حكومي بتسديد الفوارق باحتساب التكلفة وهامش الربح.
كما ينبغي أيضا في ظل اختلال منظومة الدعم الموجّه للقطاع الفلاحي أن يتجه الدعم بشكل مباشر لفائدة الفلاحين وبقيمة محترمة قصد التوقي من إثقال كاهل القطاع بالدخلاء والهامشيين وتدقيق الدعم نحو مستحقيه من الفلاحين دون سواهم .
البنى التحتية لفك العزلة
وإذا ما ركّزت الإصلاحات المستقبلية بقوة وعزم على وضع الخطط الكفيلة بمد الطرقات والمسالك وتحسين البنى التحتية لفك العزلة عن الفلاحين وعن مواقع الإنتاج خصوصا في ما يتعلق بتوسيع شبكات النقل السككي ذات الفوائد الجمة في تخفيض كلفة النقل وربط مواقع الإنتاج بمواقع الاستهلاك والتصنيع إضافة إلى الاستثمار في كهربة الآبار وتحسين معايير الجودة وغيرها؛ يحتمل أن يجني القطاع مكاسب عديدة ليس أقلّها أفضلية وصول أقل الجهات نموّا إلى الأسواق وزيادة الطلب على المنتجات الأساسية والخدمات غير الفلاحية في مناطق الإنتاج ما يعني إيجاد فرص عمل جديدة مرتبطة بقطاعات الإنتاج الفلاحي والتخفيف من وطأة البطالة.
لقد آن الأوان أن يقع تخطيط برامج طموحة ليس فقط لتحسين نمو دخل الفلاّحين وإنما أيضا لتنظيم مسالك التوزيع والاتجار التي تلتهم جهود الفلاّحين وتطبّق هوامش ربحية مضاعفة تؤكد مفارقات عجيبة وغريبة آن لها أن تنتهي؛ ولن يتسنى ذلك إلاّ من خلال انحناء الأنظمة السياسية لمطلب الاعتراف بالمستغلّة الفلاحيّة مؤسسة اقتصادية وبالفلاّح فاعلا اقتصاديا وليس مجرّد حالة اجتماعية تحتاج المعونة والمساعدات الاجتماعية .
ستخوض تونس خلال المرحلة المقبلة مسار انتخاب حكّامها الجدد : ومهما كانت طبيعة الإفراز الانتخابي فإن رجالات الحكم القادم اللذين لن تتحدّد فترة حكمهم بالمعطى الانتقالي، سيلقى على عاتقهم واجب تاريخي من أجل تقرير مصير القطاع الفلاحي الذي لم تندمل جراحه بعد وقد تكون نجاحات الثورة التونسية في مداها العميق والواسع مرتبطة بقدر كبير بمدى نجاح هؤلاء من خلال مؤسسات وأجهزة حكمهم المستقرّة في رد الاعتبار لهذا القطاع وإرجاع حقوق الفلاّحين المسلوبة.
عمر الباهي، عضو المكتب التنفيذي الوطني لاتحاد الفلاحين
Esperant bien l’arrivee de ces beaux jours que tu disent pour que le grainier recupere son poste de Leader!