jomaa-asociation

يبدو أنّ مكافحة الإرهاب في تونس أصبح “الشماعة” التي تعلّق عليها الحكومات المتعاقبة قرارات وتصدر على أساسها قوانين تصب أغلبها في خانة خنق الحقوق والحريات والتضييق قدر الإمكان على كل الجهات التي يمكن أن تتسرب من خلالها حرية الرأي والتعبير.

ويبدو أن قانون الإرهاب الذي تتمّ مناقشته بالمجلس التأسيسي حاليا غير شامل بما يكفي مما دفع الحكومة إنشاء مؤسسة لمراقبة جرائم الانترنت ومشروع قانون لذات الغرض إضافة إلى اتخاذ قرارات ارتجالية من بينها إغلاق جمعيات دينية دون سند قانوني.

منذ إلغاء قانون الجمعيات القديم وسنّ مرسوم جديد بتاريخ سبتمبر 2011، ارتفع عدد الجمعيات في تونس بشكل ملفت نظرا لأن المرسوم الجديد وضع شروطا تتعلق فقط ببعض الإجراءات القانونية وإعداد الوثائق وتحديد أهداف الجمعية مما دفع بالمئات إلى بعث جمعيات ذات أهداف مختلفة ومتنوّعة.
وقد تعالت أصوات ناشطين حقوقيين وسياسيين نادت خلال حكم الترويكا بضرورة الحد من المنح العشوائي لتراخيص الجمعيات وتسليط الرقابة على مصادر تمويلها لكن هذه التحذيرات لم تؤخذ مأخذ الجدّ وتواصل منح التأشيرات مما أفرز مئات الجمعيات ذات المرجعيات الدينية والدعوية التي تحوّلت فيما بعد إلى مصدر تهديد وإزعاج. هذا الامر دفع بحكومة المهدي جمعة إلى إصدار قرار بتجميد نشاط 157 جمعية دينية.

وجاء هذا القرار بدافع “مقاومة الأرهاب” حسب حكومة جمعة وقد أصدرته يوم 18 أوت الفارط إثر اجتماع خلية أزمة تكونت من وزراء ومستشارين مكلفين بمتابعة الملف الأمني وتطويق ظاهرة الإرهاب والتصدي لها. وقد اجتمعت خلية الأزمة على خلفية الأحداث الإرهابية العديدة التي ضربت البلاد حيث ارتأت “حكومة التكنوقراط” أن بعض الجمعيات الدينية أصبحت “مصدرا لتمويل الارهاب” ووجب تجميدها إلى حين التثبت من مصادر تمويلها وكيفية صرفه.
ونظرا لأن حكومة جمعة لم تقدّم أية توضيحات أو سند قانوني بخصوص هذا الإجراء فقد عرف ردود فعل متباينة من مختلف الأطراف ناقشت أساسا عدم قانونية هذا الإجراء من جهة وأهميته في هذا الظرف الأمني الصعب من جهة ثانية.

إجراء غير قانوني يثير استياء “الاسلاميين”

قال إيريك غولدستين، نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمنظّمة هيومن رابتس ووتش في بلاغ للمنظمة، تعليقا على قرار الحكومة التونسيّة تجميد أكثر من 150 جمعيّة: “توجد أسباب وجيهة تدفع بالسلطات التونسية إلى مكافحة الإرهاب، ولكن لا يجب أن يكون ذلك بالتعدي على الحقوق التي يكفلها الدستور والقانون، أو بتجاوز السلطة القضائية”. و أضاف غولدستن: “لقد تمادت السلطات التونسية عندما اتخذت قرارات تجميد النشاط، وعليها إعادة النظر في ما قامت به، ورفع هذه القرارات بشكل فوري، وتبني الإجراءات المناسبة التي ينص عليها القانون والمتعلقة بملاحقة جميع المنظمات التي تكون فعلا متورطة في التحريض على العنف”.

وقد اعتبرت منظمة هيومن راتس قرار تجميد الجمعيات المذكورة مخالفا للقانون وذلك استنادا على ما جاء في المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المؤرخ في 24 سبتمبر 2011 ويتعلق بتنظيم الجمعيات. وفيما يلي نص الفصل 33 من هذا القانون والذي يثبت عدم قانونية إجراء حكومة جمعة بخصوص تجميد نشاط الجمعيات المذكورة:

الفصل 33
أولا – يكون حل الجمعية إما اختيارياً بقرار من أعضائها وفق نظامها الأساسي، أو قضائيا بمقتضى قرار من المحكمة.
ثانياً – إذا اتخذت الجمعية قرارها بالحل فعليها إبلاغ الكاتب العام للحكومة به عن طريق مكتوب مضمون الوصول مع الإعلام بالبلوغ، خلال ثلاثين (30) يوما من تاريخ صدوره وتعيين مصفي قضائي.
ثالثاً – في حالة صدور قرار قضائي بالحل تقوم المحكمة بتعيين المصفي.
رابعاً – تقدم الجمعية لأغراض التصفية بياناً بأموالها المنقولة وغير المنقولة ويعتمد هذا البيان في الوفاء بالتزاماتها ويوزع المتبقي منها وفق النظام الأساسي للجمعية، إلا إذا كانت تلك الأموال متأتية من المساعدات والتبرعات والهبات والوصايا فتؤول إلى جمعية أخرى تماثلها في الأهداف تحددها الهيئة المختصة للجمعية.

المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المؤرخ في 24 سبتمبر 2011 المتعلق بتنظيم الجمعيات

وإضافة إلى عدم تقديم خلية الأزمة لتفاصيل مقنعة للأسباب التي تم على إثرها تجميد الجمعيات الدينية أو تقديم أمثلة عن التجاوزات المرتكبة من طرف هذه الجمعيات فإنّ المصالح المختصّة بالوزارة الأولى اعتمدت أسلوب المماطلة والتأجيل في تعاملها مع “نواة” للتملّص من تقديم أية معلومات مفصّلة حول الجمعيات المذكورة. ويبقى هذا الأسلوب معتمدا بالوزارات التونسية كطريقة يعتمدها بعض المسؤولين لتجنب تقديم تصريحات هم مطالبون بتقديمها للرأي العام من أجل التوضيح وفي إطار الشفافية.
وكان عدد من المسؤولين والمسيرين لهذه الجمعيات الدينية قد نفّذوا وقفات احتجاجية أمام قصر الحكومة بالقصبة للمطالبة بوقف هذا القرار. كما توجه عدد من أعضاء المجلس التأسيسي منتمين لحزبي حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية بطلب لمقابلة رئيس الحكومة المهدي جمعة من أجل التفاوض معه حول قرار تجميد نشاط الجمعيات إلا أن طلبهم جوبه بالرفض من طرف ديوان رئيس الحكومة.

وقد اعتبر النائب بالمجلس التأسيسي عن حركة النهضة الحبيب اللوز في تصريح لنواة أنّ ” ما قامت به حكومة المهدي جمعة عقوبة جماعية خصوصا أنها لم تقدّم أية تبريرات تثبت صحة إدّعاءها بأن هذه الجمعيات تمثل تهديدا إرهابيا. كما أنّ قيام حكومة مهمّتها تسيير البلاد بصفة وقتية باختراق القانون وتنفيذ قرارات كان من الضروري أن تصدر عن القضاء أمر مرفوض وفيه تحدّ للتونسيين وعودة لممارسات نظام بن علي.”

كما عبّر عدد من أعضاء التأسيسي عن أحزاب المؤتمر من أجل الجمهورية وحركة النهضة وحركة وفاء لنواة عن استيائهم الشديد من تجاوز حكومة جمعة لصلاحياتها ورفضها التحاور مع ممثلين من السلطة الأعلى في البلاد أي المجلس التأسيسي، حسب تصريحهم. وطالبو إما بإعادة اعتبار هذه الجمعيات عبر إيقاف قرار التجميد أو بمحاسبة المسؤولين فيها عبر القضاء وتقديم قرائن تثبت صحّة مزاعم الحكومة بدعم هؤلاء المسؤولين للإرهاب.

إجراء غير قانوني ضروري لمكافحة الإرهاب

لئن كان ردّ فعل بعض الناشطين السياسيين والحقوقيين من ذوي التوجهات الدينية على قيام حكومة التكنوقراط بتجميد بعض الجمعيات الدينية مفهوما فإنّ ترحيب جهات حقوقية وسياسية أخرى بهذا القرار له ما يبرره أيضا رغم الإتفاق المبدئي على عدم قانونية هذا الإجراء.

كان الحزب الجمهوري قد طالب منذ أشهر بحل الجمعيات المشابهة في أهدافها وممارساتها ل”منظمة حماية الثورة”. وقد كان لحل هذه المنظمة أثرا جيدا لدى عدد هام من التونسيين كما لقي ترحيبا من أحزاب المعارضة نظرا للسلوكات العدائية التي عرف بها أنصارها. وحول أهمية قرار حكومة جمعة أكد النائب عن حزب التيار الشعبي مراد العمدوني أن هذا القرار رغم أنه غير مدعّم بمؤيدات هام وضروري بحكم قيام هذه الجمعيات بتوفير دعم مالي للإرهاب إضافة إلى الممارسات اليومية لممثليها والبعيدة كل البعد عن النشاط الدعوي السلمي والتي أصبحت مزعجة للمواطن التونسي كاحتلال المساجد ونشر خطابات تحريضية ودعم الجهاد في سوريا وغيره من النشاطات التي تساهم في تنمية الإرهاب واستقطاب الشباب وغسل أدمغتهم، غير أن تقصير الحكومة في ذكر كل هذه الأسباب أثناء اتخاذها لقرارها جعل من هذه الجمعيات في موقف الضحية وكان على حكومة جمعة إيجاد صيغ أفضل والتصرف بطريقة أسلم.”

كما أكد النائب المستقل بالتأسيسي رابح الخرايفي لنواة أن قرار الحكومة جاء في إطار عدّة إجراءات اتخذت من أجل محاربة الإرهاب خصوصا وأن الرقابة على تمويل هذه الجمعيات أصبح صعبا ومعقدا بالنظر إلى العدد الكبير للجمعيات الجديدة التي أنشأت على إثر تسهيل الإجراءات القانونية. وأضاف الخرايفي أنّه من حق هذه الجمعيات الطعن في قرار الحكومة وإثبات سلامة معاملاتها المالية واسئتناف نشاطها مؤكّدا أن خلية الازمة تصرّفت على أساس معلومات “استخباراتية” واختار هذا الحل الجماعي الفوري نظرا لما تعرفه البلاد من تهديدات إرهابية في هذه الفترة.

وفي تصريح إعلامي مخالف لموقف أغلب أعضاء حركة النهضة أكد القيادي في حركة النهضة ووزير العدل السابق نور الدين البحيري أنّ ” الحكومة يجب أن لا تتردد في معاقبة كل من يخالف قواعد العمل المدني أو الحزبي خصوصا وأن هناك تجاوزات واضحة قامت بها بعض الجمعيات و الأحزاب شرط أن يتم هذا في إطار القانون.”

بين مطرقة القانون وسندان الإرهاب ؟
كانت نواة قد نشرت سابقا مقالا حول ارتباك السلطات التونسية أمام الضربات الإرهابية وقيامها باتخاذ إجراءات عاجلة وتقديم تصريحات متضاربة، إلا أنّ الإجراء الخاص بتجميد جماعي لنشاط 157 جمعية دون سند قانوني ودون تقديم مبررات واضحة تجاوز مجرّد الإرتباك إلى خرق واضح للقانون. ورغم أن انتقادات عدد من الناشطين السياسيين وصلت إلى حد التهديد بتمرير عريضة لمساءلة رئيس الحكومة المهدي جمعة وهو ما قام به النائب سليم بن حميدان عن حزب المؤتمر الحليف السابق لحركة النهضة فإنّ ناشطين على المواقع الإجتماعية باركوا هذا القرار معلنين نفاذ صبرهم من ممارسات الجمعيات الدعوية وأهمية اتخاذ قرارات عاجلة ونافذة في هذا الظرف الامني السيء. فحسب رأي البعض لا يمكن التصدي للإرهاب الذي يضرب البلاد بين الفينة والأخرى من خلال رفع شكاواى قضائية يدوم البت فيها أشهرا أو سنوات.

وبين ممارسة الديمقراطية في تونس ما بعد الثورة وحمايتها من الإرهاب الذي يتهددها يصبح الإختيار أحيانا مستحيلا خصوصا لمن سعى إلى تكريس حرية النشاط المدني والحقوقي. ولأنّ الحل الوحيد يتمثّل في تطبيق القانون ورفع كل من يثبت ضدّه ممارسة الإرهاب أو مساندته إلى القضاء ونظرا لأن الحرب على الإرهاب تتطلب السرعة في اتخاذ الإجراءات فقد وجد المواطن التونسي نفسه في حيرة أمام ما يجب القيام به فعلا وخصوصا أمام ضرورة تطبيق القانون من عدمه في ظل الظرف الأمني المتردي الذي تعرفه البلاد. ويبقى المخرج الوحيد والأخير في هذه القضية هو قيام الجمعيات التي أجبرت ظلما على تجميد نشاطها الطعن في قرار الحكومة قضائيا واثبات نزاهتها واسترجاع حقوقها.