بقلم احمد الرحموني، رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
هل حان وقت الحساب بعد أن أعلنت هيئة الحقيقة والكرامة في 01 ديسمبر الجاري أنها ستشرع في قبول جميع الملفات والشكاوى ومطالب الصلح يوم الخميس 11 ديسمبر 2014؟ أم أن ذلك قد يكون إيذانا بدخول هيئة الحقيقة والكرامة مفارقة تاريخية باعتبار أن المرحلة الحالية التي تشهدها البلاد هي مرحلة التوافقات ونسيان الماضي، وأن التحولات التي أثّرت على الأوضاع السياسية والاجتماعية لم تعد تسمح بمعالجة ماضي الانتهاكات وكشف حقيقتها ومساءلة المسؤولين عنها بنفس الرؤية التي أدت الى إرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها؟
مسار العدالة الانتقالية بين المبادئ والمفارقة التاريخية
ويمكن أن يضيف بعضهم أن المفارقة التاريخية ربما تكمن في ان التطلع لبناء الجمهورية الثانية وتطبيق الدستور الجديد وخوض انتخابات ديمقراطية حقيقية قد تزامنت مع الشروع في تطبيق قانون في العدالة الانتقالية يختلف في أهدافه ووسائله عن مقتضيات هذه المرحلة ويفترض القطع مع ممارسات الماضي ومحاسبة رموز نظام بن علي وبالأساس التجمعيين عن الجرائم والانتهاكات التي اقترفوها.
وربما يشكك البعض الآخر في استجابة الوضع الحالي للبلاد لشروط العدالة الانتقالية التي تتميز باتخاذ التدابير وتطبيق الآليات والوسائل القانونية والقضائية لمواجهة الانتهاكات والجرائم السابقة والاعتراف للضحايا بما تكبّدوه من آلام وأضرار.
فهل يبدو فعلا أن البلاد في وضعها الحالي متهيئة لتطبيق العدالة الانتقالية خصوصا بعد صعود تيارات سياسية قوية في الانتخابات التشريعية الأخيرة (كحزب نداء تونس) غير متحمسة إن لم نقل معادية للمنهج الذي وقع اقراره لتطبيق العدالة الانتقالية بمقتضى القانون المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 ؟!
وهل يمكن ان تجد العدالة الانتقالية مجالا لتطبيقها بصفة ناجعة وسط جدل لا ينتهي حول تركيبة هيئة الحقيقة والكرامة وإثارة الالتباسات بشأنها وافتعال الخصومات مع أعضائها والعمل على التقليل من اعتبارهم بما يؤدي الى المساس من مصداقيتهم واهتزاز الثقة فيهم؟!
مسار العدالة الانتقالية وعوامل الإضعاف
وإضافة لذلك فهل كانت الإجراءات المتخذة منذ قيام الثورة وخصوصا بعد انتخاب المجلس الوطني التأسيسي متجهة الى تحسيس المجتمع برهان العدالة الانتقالية وتهيئة السبل لتطبيق آلياتها والاستعداد لها ببرامج جدّية لإصلاح المؤسسات ومراجعة التشريعات المرتبطة بمسارها؟!
وإن كان من الثابت أن الإرادة السياسية لم تتجه بأي وجه الى تحقيق ذلك فإن الفترة السابقة قد تميزت بخطوات محدودة غير منسقة – إن لم نقل مفككة – في مجالات مرتبطة بالعدالة الانتقالية كالعفو العام ولجان تقصي الحقائق والمصادرة والتشريع المتعلق بشهداء الثورة ومصابيها ومناهضة التعذيب وآليات الوقاية منه والإجراءات الخاصة بالحوكمة الرشيدة ومقاومة الفساد.
غير أن تلك الخطوات – التي مازالت تواجه صعوبات تطبيقية جمّة – لم تكن إلاّ محاولات جزئية غير قادرة على بناء منهج متكامل للعدالة الانتقالية.
لكن تلك الظواهر لم تكن إلاّ جزءا من العوامل الأقل شأنا التي ساهمت في إضعاف مسار العدالة الانتقالية، وتبرز الى جانبها عوامل أخرى أكثر أهمية من بينها أساسا:
● التخلي عن البدائل الثورية – منهجا وممارسة – والاستعاضة عن ذلك بسياسة براغماتية نفعيّة منزوعة من القيم والأفكار والمثل لفائدة مصالح عملية ذات أهداف حزبية أو شخصية.
● استعمال البدائل الديمقراطية كحرية تكوين الأحزاب والانتخابات وحتى الحوار الوطني لإعادة إنتاج النظام السابق وإرساء ما يمكن تسميته “بالتحصين السياسي” لهذا النظام.
● إضعاف المؤسسة القضائية وتأجيل إصلاحها والعمل على تحجيم دورها سواء على مستوى التتبع أو المحاكمة إضافة الى الاعتماد في إدارة القضاء على بعض وجوه النظام السابق والاستناد في الأبحاث القضائية الى بعض الأجهزة الامنية المرتبطة بالنظام السابق والمتهمة بانتهاكات حقوق الانسان.
النتائج المنتظرة للتحصين السياسي للنظام السابق
ومن الطبيعي أن تؤدي تلك الأوضاع الى نتائج منتظرة لعلّ من أبرزها:
● استعادة التجمع الدستوري الديمقراطي لوجوده ونشاطه بعد القرار القضائي بحله في 09 مارس 2011 تبعا لاعتراف السلطة السياسية بالأحزاب التجمعية المنبثقة عن ذلك الحزب واستئناف رموزه سواء بالديوان السياسي أو اللجنة المركزية أو بمختلف هياكله لأنشطتهم السياسية دون قيد أو شرط.
● مشاركة قادة التجمع الدستوري الديمقراطي وأعضائه ورموز الحكم السابق في العملية السياسية الوطنية بعد إسقاط المشاريع الهادفة الى عزلهم سياسيا وقد وفّر ذلك مشاركة عامة لرموز التجمع والأحزاب المنبثقة عنه في الحوار الوطني وفي المحادثات الواسعة بين الأحزاب ثم في الانتخابات التشريعية والرئاسية وما رافقها من حملات دعائية إضافة الى ضمان حضورهم بصفة ملحوظة في الفضاءات العامة ووسائل الاعلام المختلفة.
● إصدار القضاء المدني والعسكري لأحكام مخففة بحق المتهمين من رموز النظام السابق وتبرئة بعضهم من جرائم اقتصادية متعلقة بقضايا فساد إضافة لبعض الأحكام المثيرة للجدل التي أصدرها القضاء العسكري في قضايا شهداء الثورة وجرحاها وأبرزها الأحكام الصادرة عن الدائرة الجنائية بمحكمة الاستئناف العسكرية بتونس بتاريخ 11 أفريل 2014 التي اتجهت الى التخفيف من العقوبات الصادرة في حق عدد من رموز النظام السابق والموظفين السامين والقيادات الأمنية وتبرئة بعضهم في عدد من القضايا المتعلقة بقتل متظاهرين أو محاولة قتلهم.
● تمكين التجمعيين ورموز النظام السابق من النجاح في الانتخابات التشريعية تحت مظلة أحزاب مختلفة وبالأساس حزب نداء تونس ويؤكد بعضهم أن الانتخابات الأخيرة التي تقدم فيها حزب نداء تونس على حزب حركة النهضة قد أعطت 50 من مقاعد البرلمان الجديد للتجمعيين (أنظر تصريح السيد منذر الزنايدي ببرنامج “لمن يجرؤ فقط” بتاريخ 02 نوفمبر 2014 على قناة الحوار التونسي) وهو ما يمثل 58,14 % من جملة المقاعد التي تحصل عليها حزب حركة نداء تونس (86 مقعدا) و 23,04 % من كامل مقاعد مجلس نواب الشعب (217 مقعدا).
● الفشل الانتخابي لعدد من الأحزاب المنسوبة للثورة أو الداعية للمحاسبة او تلك التي دعّمت استثناء رموز النظام السابق من العملية السياسية وهو استثناء أمكن تطبيقه بمناسبة انتخاب المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011 .
ويمكن ان نلاحظ بشأن الوضع التونسي أن استبعاد العزل السياسي قانونا وقضاء قد ارتبط كذلك بعدم ممارسة المؤسسة القضائية لدور أساسي في محاكمة المسؤولين عن جرائم الماضي فضلا عن غياب أية إجراءات خاصة للعزل الوظيفي وهو ما ساهم في الابقاء على بنية النظام السابق دون عقاب وأثر بصفة محسوسة على ثقة المواطن في مؤسسات الدولة.
مسار العدالة الانتقالية ومحاسبة النظام السابق
لكن كيف تبدو الحلول بشأن ذلك في قانون العدالة الانتقالية الجديد؟
القانون الأساسي المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 والمتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها كان وفيّا لمضمون هذه العدالة باعتبارها – على الأقل فيما نحن بصدده – مسارا متكاملا لمساءلة ومحاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الانسان وجبر ضرر الضحايا وردّ الاعتبار لهم (الفصل الأول) وقد اقتضى ذلك من المشرع توضيح المبادئ المتعلقة بالمساءلة والمحاسبة وبيان هياكلها المختصة والآليات المعتمدة في ذلك:
● فمن جهة المبادئ يؤكد القانون على أن المساءلة والمحاسبة تتمثل في مجموع الآليات التي تحول دون الإفلات من العقاب أو التفصّي من المسؤولية (الفصل 06) وأن تلك المساءلة والمحاسبة هي من اختصاص الهيئات والسلطات القضائية والإدارية حسب التشريعات الجاري بها العمل (الفصل 07) وأن الانتهاك على معنى هذا القانون هو كل اعتداء جسيم او ممنهج على حق من حقوق الانسان صادر عن أجهزة الدولة أو مجموعات أو أفراد تصرفوا باسمها أو تحت حمايتها (الفصل 03).
● أمّا من جهة الهياكل فقد أوكل القانون هذه المساءلة والمحاسبة الى جهتين:
الأولى: هيئة مستقلة هي هيئة الحقيقة والكرامة (الفصل 16) وقد اورد القانون بصفة خاصة أنه يحجّر على المترشح لعضوية الهيئة ان يكون قد تحمل مسؤولية حزبية وطنية أو جهوية او محلية في الداخل أو الخارج صلب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل أو أن يكون ممّن ثبتت مناشدته للرئيس السابق قصد الترشح للانتخابات الرئاسية او أن يكون قاضيا قد شارك في محاكمات ذات صبغة سياسية (الفصل 22)
الثانية: دوائر قضائية متخصصة بالمحاكم الابتدائية المنتصبة بمقارّ محاكم الاستئناف مع الإشارة الى أن تلك الدوائر تتكون من قضاة يقع اختيارهم من بين من لم يشاركوا في محاكمات ذات صبغة سياسية وأنّ تلك الدوائر تتعهد بالنظر في القضايا المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان (الفصل 08).
● أمّا من جهة الآليات: فيمكن الإشارة بصفة عامة الى نظر الدوائر القضائية في الانتهاكات الجسيمة على معنى الاتفاقيات الدولية المصادق عليها وعلى معنى أحكام قانون العدالة الانتقالية (الفصل 08).
كما يمكن الإشارة أيضا بصفة خاصة الى أن من مهامّ هيئة الحقيقة والكرامة تحديد مسؤوليات أجهزة الدولة او أيّ أطراف في الانتهاكات المشمولة بأحكام هذا القانون وتوضيح أسبابها واقتراح المعالجات التي تحول دون تكرارها مستقبلا (الفصل 59).
وفي نفس السياق يقتضي القانون إحداث لجنة يطلق عليها “لجنة الفحص الوظيفي وإصلاح المؤسسات” تتولى – من بين مهامها – تقديم مقترحات لغربلة الإدارة وكل القطاعات التي تستوجب ذلك ويمكن للجنة ان تصدر للجهات المختصة توصيات بالإعفاء أو الإقالة أو الإحالة على التقاعد الوجوبي في حق كل شخص يشغل احدى الوظائف العليا بالدولة بما في ذلك الوظائف القضائية إذا تبين أنه قدّم تقارير او معلومات للتجمع الدستوري الديمقراطي المنحل او البوليس السياسي نتج عنها ضرر أو انتهاك على معنى قانون العدالة الانتقالية (الفصل 43).
ولإنجاز هذه المهمة او غيرها يقرّ القانون لهيئة الحقيقة والكرامة صلاحية استدعاء كلّ شخص ترى فائدة في سماع شهادته او التحقيق معه وأنّه لا يجوز مجابهة الهيئة بالحصانة (الفصل 40) ويشمل ذلك بطبيعة الحال الحصانة البرلمانية والقضائية وحتى الرئاسية.
الشروط الضرورية لتحقيق العدالة الانتقالية
وفي ضوء ذلك يمكن القول أن مسار العدالة الانتقالية هو في جزء منه مساءلة للتجمع الدستوري الديمقراطي وكشف عن حقيقة الانتهاكات الصادرة عنه وتحديد لمسؤوليته بخصوص ذلك وهو ما يدعو بالنظر الى الواقع السياسي الجديد الى استعادة الحديث عن المفارقة التاريخية بين هذا الواقع الذي ضمن التحصين السياسي لمسؤولي النظام السابق ورموز التجمع الدستوري الديمقراطي من جهة وبين السلطات الواسعة التي أسندها القانون للهيئات القضائية وهيئة الحقيقة والكرامة للتقصّي والتحقيق في كلّ الانتهاكات وطلب المعلومات من جميع الجهات والالتجاء الى أي إجراء أو آلية من شأنها كشف الحقيقة من جهة أخرى.
ودون التوقف عند نصوص القانون وما توفره من إمكانات لتطبيق مقتضيات العدالة الانتقالية فمن الواضح أنّ تحقيقها يبدو محفوفا بمصاعب كثيرة سبقت الإشارة الى بعضها إلاّ أنّه يبقى التأكيد على أنّ تحقيق العدالة الانتقالية يستوجب توفّر ثلاثة شروط أساسية:
أوّلها الإرادة السياسية ممثلة في السلطتين التنفيذية والتشريعية بالنظر الى أنّ القوانين والتدابير والإجراءات لا يمكن تفعيلها وضمان تنفيذها خارج الإرادة السياسية التي تبقى المحرك الرئيسي لمسار العدالة الانتقالية، وهو ما يطرح تساؤلات جدّية حول الإرادة السياسية لمجلس نواب الشعب المنتخب أخيرا والحكومة المزمع تكوينها قريبا في انتظار نتيجة الانتخابات الرئاسية ؟!
ثانيها علوية القانون بمعنى الخضوع لأحكامه سواء من قبل الحكومة أو موظفيها وهو ما يطرح أيضا الاشكالات المرتبطة بتعاون مصالح الدولة والهيئات العمومية واللجان والجماعات المحلية والمؤسسات والمنشآت العمومية وجميع الموظفين العموميين وتنفيذ ما يوجبه القانون من مدّ الهيئة بكل ما بلغ إليهم وما أمكن لهم الحصول عليه في قيامهم أو بمناسبة قيامهم بمهامهم من معلومات ومعطيات تندرج ضمن مهام الهيئة (الفصل 51).
ثالثها استقلال القضاء وذلك اعتبارا لدور القضاء المستقل بمختلف مكوناته في ضمان معايير المحاكمة العادلة والمساواة امام القضاء بعيدا عن مظاهر التشفي والانتقام.
باردو في 08 ديسمبر 2014
iThere are no comments
Add yours