بقلم محمد سميح الباجي عكاز،
ماذا يعنيني من السفن الفينيقية التي كانت تعبر المحيطات وتشق عباب الموج، وأنا لا استطيع أن اعبر زقاقا موحلا طوله متران ؟محمد الماغوط
أربع سنوات مضت، منذ أن سرى خبر تناقلته الألسن بتوجّس وخوف وغبطة كبتتها عيون النظام وآذانه المنتشرة في كلّ ركن من البلاد؛ سيدي بوزيد تنتفض ضدّ السلطة بعد أن أقدم شاب على إحراق نفسه احتجاجا على إهانته وصفعه من قبل عون مراقبة بلديّة. ربّما ظنّ الكثيرون أو اغلبنا حينها أنّ ما حدث سيحاصر كما حدث في الرديّف وسليانة ترهيبا أو ترغيبا، وستتواصل “الحالة عاديّة” في وطن تعوّد النسيان أو التناسي.
صور
بين ديسمبر 2010 وديسمبر 2014، تتالت آلاف الصور التي اختزنتها الذاكرة؛ صور أدمعتنا فرحا كتلك المقترنة بانتفاضة الشعب ضدّ بن عليّ وإصراره على تحدّي القمع ودفع ضريبة الدمّ. صور أدمعتنا حزنا لمّا صبغت دماء الشهداء الأرصفة و الشوارع التّي لم تُغسل بعد… صور أحرجتنا و أجبرتنا على الانحناء إجلالا لنضالات من خاطروا بحمل الحلم حتّى نهايته أو نهايتهم.. وصور أخجلتنا حين تحوّلت السياسة إلى دعارة فكريّة و إلى متاجرة بعواطف النّاس و بأحلامهم …
وسط هذا المشهد المزدحم بآلاف الصور والأسماء والشعارات، تزيّنت الثورة بعشرات القضايا والسجالات وحمّلوها عشرات العناوين المغرية بدءا بالديمقراطيّة والإسلاميّة والقوميّة والشعبيّة والعفويّة وصولا إلى المؤامرة ومشروع الشرق الأوسط الجديد وانقلاب التجمّع على التجمّع، حتّى غاب عنوان بسيط كان وجه الثورة الخّام في إطلالته الأولى ذات ديسمبر مضى.
أمّا نحن فقد غرقنا في التفاصيل و الأسماء والأحداث العابرة والمتتالية يجرفنا وهم بأنّ التاريخ يمضي بسرعة وأنّ كلّ ما من حولنا يتغيّر. بينما الحقيقة أنّ نفس الضلال تدير البلاد منذ عقود وتحرّك دمى ظنّت نفسها تملك الحكم وهي لا تملك سوى أسمائها، دمى يُلبسونها كما يشاؤون فلا بأس إن تصنّعت التقوى وحملت عنوان الأصالة يوما أو رفعت تحديّات الحداثة وضرورات الحرب على الإرهاب طورا آخر.
لقد كنّا أشبه بجمل الناعورة الذّي يظنّ نفسه قد قطع العالم جيئة و ذهابا بينما يُقضّي عمره في الدوران طيلة حياته في نفس المكان، يتغيّر العالم من حوله، يتغيّر السائسون وتفاصيل يومه واحدة، خطواته تتكرّر بتكرار أنفاسه حتّى تنقطع أنفاسه.
في بلادي
في بلادي وفي كثير من بلدان الشوك الممتدّة من الأطلسيّ غربا حتّى المحيط الهنديّ شرقا، الصمت هو سيّد المواقف، لضرورات إقليميّة وأمنيّة ووطنيّة وأحيانا ميكانيكيّة، فوضع العصا في عجلة اقتصادهم كارثة، وتعطيل تنامي ثرواتهم جريمة، وإقلاق أحلامهم السعيدة بتأوّهات الجوع والبرد والغضب خطأ لا يغتفر.
في بلادي يستكثر البعض على أولئك المنسيّين أن يصرخوا و أن يتألّموا و أن يطالبوا بحدّ أدنى من الكرامة…
في بلادي يكره البعض أن يرى الأوساخ في الشارع و لا يبالي إن جفّت دماء الشهداء على الأرصفة و في الشوارع دون قصاص…
في بلادي حتّى الأموات لا يتساوون …أموات ما زالوا يصلحون للمضاربة السياسيّة وآخرون وجب نسيانهم واسقاطهم من الذاكرة…
في بلادي مطلوب منك أن تصبر و تصبر و تصبر و تتعفّن ثم تموت…. ليصبر من بعدك و يصبر و يصبر و يتعفّن…. ثمّ يموت…
في بلادي يريدون للثورة أن تكون مجرّد نشوة عابرة، لحظات يُخيّل فيها للمنتشي أنّ أحلامه صارت حقيقة فيستفيق بعد حين ليجرّ عربته و يجترّ من جديد أحلامه.
في بلادي، سؤال الساعة اليوم، من سيكون رئيس البلاد القادم؟ السبسي أو المرزوقي؟ أو بمعنى آخر، هل سنشهد لونا واحد في القصبة وقرطاج وباردو أو سنكسر السواد السياسيّ برماديّ غامق لن يغيّر الكثير من مشهد تحدّه خطوط حمراء لن يجرأ سياسيّ على تجاوزها؛ كونها ضامنة الحكم وقواعد اللعبة الكبرى، فمن سيحاول المسّ من الاختيارات الاقتصاديّة التي تجعل من تونس مجرّد سوق مفتوح و”كارتيلات” مقسّمة بعناية بين لوبيات القطط السمان.
أو من سيفكّر في تقويض نظام سياسيّ تابع وهشّ يستمدّ قوتّه من رضا المؤسّسة الأمنيّة والمباركة الخارجيّة، ومن سيسعى للثورة على منظومة ثقافيّة تقوم على تسطيح الوعي الجماعيّ وثقافة الإسفاف أو الترهيب والجزر إذا ما تعاظمت الأسئلة؟
ولكن السؤال المغيّب قبل أن تلملم هذه الحكومة حقائبها، وقبل أن يفتح قصر قرطاج أبوابه لساكنه الجديد هو من سيُحاسب عن الأرواح التي أزهقت تحت التعذيب خلال “المرحلة الانتقاميّة” أو التي قُتلت على “وجه الخطأ” ؟؟
ومتى سيحاسب من أمر ومن نفّد عمليات القمع بالرشّ “الآمن” في سليانة واقتحام المساكن في الملاّحة والتنكيل بالمتظاهرين في أكثر من مناسبة؟؟
ومن سيُساءل عن مئات الملايين المهدورة والتعيينات “المنتقاة” والاختيارات الاقتصاديّة والتعديلات القانونيّة؟؟ وما دام هذا السؤال غائبا، فسيظلّ الأحياء مجرّد أرقام في لائحة انتظار طويلة ينتظرون تسجيل أسماءهم في تقارير الطب الشرعيّ الجاهزة مسبقا بجميع أسباب الوفاة “الشرعيّة”.
في بلادي، بعد أربع سنوات من “الثورة”، الكلّ أبرياء والموت “إشاعة”.
في بلادي… رُفعت الثورة.
العدالة الانتقالية تمثل الإستحقاق الأول لثورتنا المجيدة ، ثورة الحرية و الكرامة .
و على التوانسة أن يكونوا على قدر كبير من الشجاعة و الاستفاقة ، لإنهاء هذا الإستحقاق ، ثم السير بتونس إلى مصالحة وطنية تنمى في إطارها مواهب العمل و الإنتاج و الاستثمار في الإنسان المتعلم .