بقلم محمد سميح الباجي عكّاز،
ربّما هي ساعات قليلة قبل أن يتمّ تأكيد إسم الرئيس القادم لتونس بعد معركة انتخابيّة كان عنوانها الأبرز “استعراض الرداءة” والمزايدة بكلّ ما تطاله يد القائمين على الحملات الانتخابيّة. الدين والانتماء الجهوي واستثمار الخوف والجوع والأمل والنكتة والدم، كلّها كانت أدوات عمليّة الاستقطاب لشعب يتم استدراجه نحو الخلوة كي ينتزع منه صوته ويمنح راغبا أو مكرها شرعيّة تكتمل بها مراسم تنصيب ساكن قرطاج الجديد.
عندما اندلعت انتفاضة 17 ديسمبر، كانت المطالب الرئيسيّة واضحة وحاسمة؛ الشغل والحريّة والكرامة الوطنيّة، وعندما هرب بن عليّ كانت الرؤى موحدّة، على الأقلّ لدى الذّين كانوا في الشارع يخوضون معاركهم اليوميّة ضدّ أدوات القمع وهدفهم اقتلاع النظام السابق والقطع مع ما رسّخته منظومته من فساد وظلم.
لكن، خلال أربع سنوات، غابت الأسماء وتداخلت الحسابات وسقطت المطالب الكبرى ليدخل الشعب في متاهة من المواقف والتصريحات والأسماء الجديدة التي طغت على المشهد وكانت بمثابة قنابل الدخان التي حجبت الكثير من المطالب الرئيسية للثورة وذرّت الرماد على العيون.
تتالى الأيام وتغيب عن الصورة شيئا فشيئا حقوق الجرحى والشهداء، يخرج رجال النظام السابق تباعا من سجونهم المريحة، تُغسل الذاكرة الجماعيّة من صور الأسابيع الثلاثة السابقة لهروب بن عليّ، تُشوّه صورة البوعزيزي لتصل حدّ التحقير، تفقد الثورة رمزيّتها، وفي المقابل تختلق قضايا جديدة يزدحم بها المشهد العام، فتصبح تصريحات نكرات حول المطالبة بتعدّد الزوجات، أو إباحة الزواج بقاصر أو مسألة النقاب وعنتريات بعض “نوّاب الشعب” في المجلس التأسيسي وشطحات السياسيّين وغيرها من “المشاكل” الوهميّة محور اهتمام وسائل الإعلام، وتخفي صور وزيرة السياحة مشاهد التنكيل بعائلات الشهداء في اعتصامهم اليائس، يُحاكم شباب الثورة ويعتقل آخرون، ويذوب الخبر أمام زيارة رئيس الحكومة لبيت العجّز أو وجبة لحم مشويّ مع سفير ألمانيا في تونس.
أمّا الجوع، فدواءه الإرهاب، ليس الإرهاب بمعناه المعروف وبعنفه الماديّ، بل ترهيب وهرسلة نفسيّة خضع لها الشعب التونسيّ طيلة الفترة السابقة وكأنّ هذا الشعب يُعاقب على “جُرم” الرفض ومقاومة القمع والخنوع. في مقاربة غريبة تربط الاستقرار بالقمع والذلّ برغد العيش.
في تونس، ودون أن نغرق في نظريّة المؤامرة وأنّ الثورة كانت تدبيرا خارجيّا، عرفت البلاد سلسلة من الضغوطات والإغراءات المتواصلة التي تهدف إلى إغراق البلاد أكثر فأكثر في مستنقع العجز والمديونيّة حتّى لا تجد ملاذا سوى هيئات النقد الدوليّة التي لا تقرض ولا تساعد إلاّ وفقا لشروطها الخاصّة وبعد إعادة هيكلة الإقتصاد المحليّ وفقا لمتطّلبات النظام العالميّ الجديد القائم على الإنفتاح التّام والتسليم بالإرتباط العضويّ الكامل مع الخارج، في تماهي مع ما يعرف بعقيدة الصدمة التي بلورها فريدمان بقسم العلوم الإقتصادية بجامعة شيكاغو والتي لعبت دوراً يتجاوز دورها كجامعة، بل كان هذا القسم مدرسة للفكر المحافظ، وللتدخل الأمريكيّ في شؤون الدول الأخرى، والداعين لحرية مطلقة للأسواق.
إنّ إستراتيجية الصدمة وهي تعني بشكل آخر، فلسفة القوة أو التكتيك الذي يهدف إلى فرض النظريات الليبرالية المتطرفة التي طورها الإقتصاديون المؤيدون لنظرية السوق الحر بهدف التغلب على الحواجز الديمقراطية وكسرها. تقوم هذه العقيدة الإقتصاديّة على إلغاء القطاع العام، منح الحرية الكاملة للشركات، الحد الكبير للإنفاق الإجتماعي، عبر وسائل كارثية تعتمد الإضطرابات السياسية والكوارث الطبيعية والذرائع القسرية لتمرير “إصلاحات” السوق الحرة المرفوضة شعبيًا و اجتماعيا وذلك باستغلال حالة الخوف والصدمة والفراغ التي يعيشها النّاس في تلك اللحظة. ونجاح هذه الإستراتيجية يعتمد على عمق الأزمة، وكلما كانت أكثر خطورة، فإن التحولات تكون جذرية أكثر، وهي لا تلتفت إلا إلى المكاسب التي تجنيها الشركات الخاصة من الأزمات، ومدى امتثال البلد المستهدف لتعليمات البنك الدوليّ ولوائح العولمة.
وقد عرف التاريخ أمثلة كثيرة طُبّقت خلالها هذه التقنية كانقلاب بينوشيه في تشيلي (1973) وحرب جزر فوكلاند (1982) التي انتهت بهزيمة الأرجنتين أو كما حدث خلال أزمة الإقتصاد الأسيوي سنة 1997، والتّي مهدت الطريق لصندوق النقد الدولي لفرض مجموعة من البرامج الإقتصادية في المنطقة والتي بموجبها تمت عملية خصخصة عدد من الشركات المملوكة للدولة من خلال بيعها إلى بنوك غربية و شركات متعددة الجنسيات كما مكن “التسونامي” الذي ضرب سيريلانكا سنة 2004 الحكومة السيريلانكية من التخلص من الصيادين الذي كانوا يشتغلون في الواجهات البحرية و قامت ببيع تلك الواجهات إلى المستثمرين في قطاع الفنادق، كما مكنت أحداث 11 سبتمبر الرئيس جورج بوش من شن هجوم على العراق بهدف خلق عراق خاضع لنظام السوق الحر.
المثال التونسي وإن لم يكن عنيفا في تطبيق تلك العقيدة، إلاّ أنّه وبعد أربع سنوات من سياسة الترهيب الإقتصاديّ والإرهاب المسلّح وتشتيت المطالب الكبرى، يسير بخطى سريعة نحو الإمتثال لقواعد اللعبة العالميّة، وإلاّ كيف تُفسّر التصريحات المتتالية للمسؤولين الحكوميّين بخصوص الإصلاحات المنظرة للقطاع العموميّ، وهيكلة الإقتصاد المحليّ وتعديل التشريعات المتعلّقة بالإستثمار والجباية والتغطية الإجتماعيّة والصحيّة؟
هل نيأس؟
يقول المفكّر والشاعر الفلسطينيّ مريد البرغوثي:
لا تنجح الثورات إلاّ بعد استكمال خيبات الأمل كلّها.
بهذا المنطق يجب أن يفكّر كلّ من آمن بإمكانيّة التغيير الجذريّ. ثورة التونسيّين ذات شتاء خذلتها الحسابات السياسيّة الضيّقة ومفاهمات الفنادق والغرف المغلقة، والمتاجرة بشعارات الثورة وشهداءها والمؤمنين بها.
المطالب التي رُفعت يوم 17 ديسمبر في سيدي بوزيد وقبلها في الرديّف، هي البوصلة الحقيقيّة للتغيير المنشود، فلا ديمقراطيّة التخيير ولا الإستقرار المبطّن بالخوف والترهيب ولا الدكاكين الحزبيّة ولا إقتصاد نصير فيه أجراء على أرضنا كان مطمح من صرخ وجُرح واستشهد ذات شتاء.
ولن تكون نهاية المرحلة الإنتقاليّة سوى نقطة البداية لنفض الغبار من جديد عن المطالب الرئيسيّة التي غُيّبت قسرا طوال الفترة الماضيّة.
فحتّى تحقيق الشغل والحريّة والكرامة الوطنيّة؛ فليسقط الرئيس القادم وأبواقه ومريدوه.
هذا التحليل لا يجب ان ان يدفع للوقوف على الاطلال. هذا درس لنعرف اكثر عن انفسنا وقدراتنا، هذه فرصة من اجل ممارسة السياسة الحقيقية لا سياسة البهتان والذل والهوان
لقد ذاب الثلج وظهر المرج وهذه رسالتي إلى
الشعب التونسي المتخلف: لقد انتهت الفسحة أيها الأبله! كل دكتاتورية وأنتم عبيد مناكيد
حركة النكبة وأذيالها التكتل من أجل الكراسي والمؤامرة ضد الجمهورية (وقطعان أتباعهم ومريديهم): لقد استؤمنتم يوم 23 أكتوبر 2011 على دم شهداء (أصبحوا اليوم بُفْ بُفْ!) وعلى دموع وآهات المهمّشين فتكبّرتم وعاندتم وظلمتهم واستكبرتم وتآمرتم وخنتم وجزاء الخائن مقصلة، وأعدكم أنني سأشرب نخب الدبابات التي ستسير قريبا فوق جثثكم القذرة جزاء عادلا لكل خائن عميل
المدعو نجيب الشابي: لقد عملت تيّاسا قوّادا (بالمعنى الفصيح للكلمة) عند عجوز خرف اعترفت بنفسك أنه جلد ظهرك بلا رحمة وأحنيت مؤخرتك ليصعد عليها المستبدّون والفاسدون بعد أن كنت أيام القمع رمزا للحرية وبذلك ساهمت بكل فخر في النكبة والنكسة التي نعيشها اليوم. فتبوّأ أقذر منزلة في مزبلة التاريخ غير مأسوف عليك رفقة من صفّق لك ودعمك على طريق السقوط إلى الهاوية
المدعو حمّة الهمامي: إنّ الرجل شرف وغيرة ونظافة يد. وأنت لم تدافع عن شرف زوجتك الذي انتهكه جلادك ولم تغرْ على سمعتها التي خدشها عجوزهم بذيء اللسان وأكلت من قصاعهم حالما بالسلطة. وكفى بالمرء أن يفقد شرفه ويمرّغ كرامته بوحل الدماء والسرقات. رافق إذن زميلك المدعو نجيب أحمد الشابي إلى أقذر ركن في مزبلة التاريخ غير مأسوف عليك
إلى أهلي وعشيرتي في سيدي بوزيد مسقط رأسي: لقد انقلبتم على تضحيات أبنائكم في انتفاضة المهمّشين وعاد معدنكم التجمّعي الصميم إلى أصله. أنا منكم ولكنني أشعر بالعار.. الكثير من العار. أعطيتم أصواتكم لمن يعتبركم “جوْعى” تشترون ب”دبوزة زيت وخبزة وزوز سواقر”. ألا تبّت أيديكم.. ألا تبّت أيديكم.. ألا تبّت أيديكم
إلى العجوز الخرف الباجي قايد الطبابلية: يا رئيس العبيد، أنا لا أطلب منك تنمية ولا ديمقراطية فالتجمّعي إنسان مفسد بطبعه، لا يهمّه سوى المال والسلطة. ولو فلحتم لفلحتم طيلة ستة عقود سوداء من الاستبداد والتخلف والفساد. لكنني أهنّئك بصدق لنيْلك رقاب شعب من العبيد والجواري. هم منذ اليوم ملك يمين لك ولحاشيتك وأتباعك فاقض وطرك منهم صباحا، مساء ويوم الأحد، ولا يسأل مالك عمّا يفعل في ملكه. ولتعلم أنّني كافر بك وبشعبك وملكك وقوانينك إلى يوم الدين وأن الموت أقرب إلى رقبتي منك يا زعيم المافيا
القلّة القليلة من الأحرار والشرفاء في شعب من البغايا والدهماء: عش بعزّ أو مت وأنت تقاوم. ولا يوحشنّكم طريق التحرّر على قلّة سالكيه. وكفى بالمرء أن يذكره أحفاده بخير
جفّت الصحف ورفعت الأقلام. سكّر علينا البرنامج سي مرزوق
تونس الأمل المفقود ، أم تونس صنع الأمل ؟ إلى أين نتجه ؟
أمام معطيات عدة اجتماعية/إقتصادية ،
– مع ضعف الطاقة الشرائية للمواطن ،
– أزمة الديون السيادتة التي تحصر الحكومة في خيارات التقشف ،
– هل ستكون هناك تهدئة إجتماعية ، أم لا ؟
كذلك معطيات سياسية غير واضحة،
– فيما يخص لون الحكومة القادمة و برنامجها و هل ستكون وعود الحزب الفائز على رأس الأولويات “عمل ، تشغيل ، تفعيل اليات جديدة لتشجيع الاسثمار و تحسين البنية التحتية،
– موقف الحكومة القادمة من هيئة الحوار الوطني ، و مدى التشاركية في صنع الاصلاحات العميقة و الجوهرية التي تترقبها البلاد خاصة في ميداني التعليم و الصحة ،
– الأداء الأمني و إمكانية إنزلاق البلاد في دوامة تقليص الحريات ،
– السياسة الخارجية ، و موقع السيادة الوطنية ، كذلك على حساب ماذا ستفعل الدبلوماسية الاقتصادية ، و على أي أسس ؟ و نحو أي وجهات ؟
– تسليح و تطوير الجيش الوطني (…) كثير من الأسئلة تطرح نفسها ، و هل الأداء الأمني سيقتصر على تفعيل السياسات ، الخيارات البوليسية القديمة ؟
– التونيسيون في المهجر ، تفعيل دورهم في بناء المشروع الوطني ، و مشاركتهم في التنمية … مامدى شفافية السياسات التي ستنظم هذا الدور ؟
– الهجرة القسرية عبر البحر نحو المجهول ، نتيجة فقدان الأمل داخل الوطن . هل من جديد في نوعية تعاطي حكومي “أكثر إهتمام” فعال و أكثر نفع في الداخل و في الدول “الحاضنة”؟
– كذالك ، مسألة الشباب الذين التحقوا بجماعات ارهابية تخدم مصالح خبيثة و إمبريالية. هم أيضا نتيجة إنسداد الأفق في تونس ، و المسؤلية يتحملها الجميع . ما ذا ستبذل الحكومة الجديدة من مجهود تجاه الذين هم لا يزالون في الداخل ، و مرشحين “وهو صعب تحديدهم ” مسبقا ؟ ما ستكون سياسات اللحكومة المقبلة تجاه الذين ذهبوا و هم اليوم في قبضة الارهاب ، عن طواعية أو عن إغراء ؟ الملف شائك ، كغيره من الملفات الحارقة ،
– مسار العدالة الانتقالية، و كيف ستنهي تونس هذا الملف الحساس (الشركات المصادرة ، و كيف سيقع تفعيلها في الدورة الاقتصادية ؟ رجال الأعمال المتهمين بالفساد ؟ الأموال المهربة ؟ ملف بن علي و كيف سيكون التعاطي معه ؟ …) كثير من الملفات الأخرى في صلب هذا الملف الكبير العميق ، حيث التونسي يريد الانتهاء منه ، و تتويجه بمصالحة وطنية دائمة و مستدامة ، حتى لا يبقى ملف العدالة الانتقالية يحدد نوعيات التحالفات السياسية ، كما هو حادث منذ الثورة . ملف العدالة
الانتقالية ، الذي هو استحقاق من استحقاقات الثورة لما يكون على أساسه قواعد التحالفات السياسية ، يعتبر حالة غير سليمة ، و حتى مرضية ، إذا طال العهد . فعلى تونس أن تكون شجاعة تطوي هذا الملف في أقرب وقت ، حتى لا تبقى الحياة السياسية ترقص على أنغام العدالة ، الخوف ، التهديد ، للبعض الأمل، الترقب … للبعض الأخر . تونس مفروض عليها الدخول في مدينة السياسة من بابها العريض على أساس البرامج و الأفق المفتوح من أجل التألق في عالم الكبار ، في عالم الفاعلين
بكل
إجابية و نجاعة.
اليوم ، و أمام كل هكذا معطيات و غيرها “نقص للشفافية في العملية الانتخابية ، و التعاطي الاعلامي السلبي الفارض نفسه على الساحة ” يمكن أن نجزم بأن تونس تجد نفسها في أحسن الأحوال على مفترق طرق ، و تترقب من ابنائها إتخاذ الموقف الملائم لتطلعات الشعب في الحرية و الكرامة ، التي من أجلها قامت الثورة .