بقلم عصام الدين الراجحي، ناشط سياسي،
كانت عندي ومازالت مخاوف جدية من عودة النظام القديم، القوادون أنفسهم وتلاميذهم هنا، جاهزون للإجهاز على النفس الأخير للحريات، تماما كما حدث في 1989، وعندي شهود على أن الحريات كانت أفضل في ذلك العام، وأن القوادين صنعوا الظروف المؤاتية لاستيعابها حتى أكلها الطاغية “بالشوية بالشوية”…. فلتعلم ما يزال فينا الكثير من عبادة الأصنام في البحث عن هبل جديد … كثيرون ينتظرون زعيما لكي يعبدوه، كثيرون يحملون مطريات خوفا من مطر الحرية، أليس من حقي أن أخاف ؟ هكذا أجابني صديقي في سؤالي على تصدر السيد الباجي قايد السبسي لإنتخابات الإعادة الرئاسية.
تستفزني حيرة صديقي و طيف كبير من شعب المواطنين من عودة النظام النوفمبري ! لما التعجب، فمنذ البداية ثمة دلائل كثيرة بينت أننا سنصل إلى هذه اللحظة، لكن مع عدم تمثيله مفاجأة إلّا أنه جاء كصفعة مدوية على وجه كل من شارك في ثورة 17 ديسمبر.
قد يكون جسد الثورة مضرجاً في دمائه؛ تكاد الحياة تنفلت منه، لكن حلمها لا يزال قائماً وراسخاً في الأذهان، خاصة أن الأسباب التي قامت من أجلها لا تزال موجودة؛ ويُضاف إليها المظالم، التي تراكمت على مدى سنوات أربع أخيرة.
لا أمل على الإطلاق في إعادتها إلى مسارها، إلّا بمراجعة خياناتها وأخطائها وتفحصها والعمل على عدم الوقوع فيها مجدداً، لا أمل إلّا بالاعتراف بأنها – ورغم الإصرار على تسميتها بالثورة بمجرد الدعوة لها على شبكات التواصل الاجتماعي- لم تكن ثورية بما يكفي. إذ رغم إعلانها القطيعة مع نظام بن علي والثورة عليه، لجأت إلى مسلك إنبطاحي أكثر منه ثوري إصلاحي بقبولها أن يتولى السيدين الغنوشي ثم السبسي الإشراف على الفترة الانتقالية الأولى، وبقناعة كثير ممن شاركوا بها وصاغوا خطابها بألاّ يشاركوا في السلطة. وبأن يلجأوا إلى كذبة العدالة السفسطائية التي لم تتم إلى الآن .. كي يفصل بينهم وبين من ثاروا عليهم، ورضاهم بأن يتم استدراجهم إلى سلسلة متتالية من المتاهات الدستورية والقانونية.
ورغم أن ظاهر الثورة وعنوانها الأبرز كان الرغبة في قتل الأب والتمرد على الأجيال الأكبر سناً، إلاّ أن هذه الرغبة لم تكن جذرية بما يكفي أو بالأحرى لم تتحقق فعلياً على أرض الواقع، ولا أدل على هذا من أن الأحزاب السياسية التي نشأت بعد الثورة اتسمت، في معظمها، بالهيراركية (Hiérarchie)المعتادة في المشهد التونسي، حيث كبار السن في مواقع القيادة بكل ما يمثلونه من أفكار هي – على تنوعها واختلافها – ابنة مخلصة للدولة الإستبدادية، في حين رضي الشباب ذوو الرؤى المغايرة بدور البيادق في هذه الأحزاب. تاركين الساحة لمن يعبدون فكرة ” رجالات الدولة” ويضحون بالغالي والنفيس من أجلهم ، دون أن يفطنوا إلى أن عنف الدولة وتراكم المظالم وغياب العدالة وتحول الفساد إلى قانون قائم بذاته أمور كفيلة بهدم أي دولة.
صار جلياً أن الخطر الذى واجه تونس ليس فقط من حكم ببلاهة منذ 2012 ولا المعارضة السياسية ولا الأخطار الخارجية المعروفة، بل كان الخطر الأعظم ومنذ البداية ينبع من داخل الدولة العميقة ، ببساطة أخطر ما يحدث فى فترات التحول وتغير الأنظمة أن يتغير رأس النظام فقط بينما يستمر النظام القديم فى الحكم الفعلى، وفى حصر الخيارات أمام السلطة الجديدة وتخويفها من مغبة الاقتراب من مراكز القوى القديمة، التى سرعان ما تصبغ المشهد بلونها وتدير الأوضاع طبقاً لولاءاتها وانحيازاتها المفضلة وثاراتها المتأصلة التى تُكسب السلطة الجديدة مزيداً من العداوات والانفصال عن قوى إصلاحية حقيقية تسير فى مسارات الإصلاح، ودعم الدولة الوطنية، والعمل على تطوير بنيتها ومؤسساتها ونُظمها.
إذن رحل بن علي عن الحكم لكن منظومته تعمل بقوة، وتضرب بعنف، وتأبى أن تدرك أن الزمان قد تغيّر، وأن فلسفة الماضى لن تصلح للحاضر، ولن تقود للمستقبل، بانتقام واضح ورغبة فى الثأر مما نالها قبل أربع سنوات، واعتقادٍ بأنه بفائض التعسف والقمع وركوب موجة حماية الدولة من السقوط واستغلال فزاعات مستهلكة وتوظيف أبواق مأجورة لغسيل دماغ الناس، إنطلقت ماكينة إسقاط الدولة من داخل الدولة نفسها، وبدأت تنهش فى الجميع.
ما غفل عنه ماسكي الحكم أو معارضيهم أن هناك أوقات حاسمة لا تحتمل بطء التحرك ولا خوف عواقبه، فلا توجد مكاسب دون ثمن، ولكن الثمن المدفوع سيكون أقل كثيراً من ثمن التردد ومحاولة إبقاء النار تحت الرماد بلا اشتعال، كل يوم تستمر فيه مراكز القُوى القديمة تُرسخ من أقدامها وتُوسع شبكاتها وتتغول مصالحها وتتوحش أساليبها وتتلاعب فيه بالوافدين الجدد، وتقطع الطريق عليهم لتُجهض أى سعى للإصلاح والتطوير، وبينما تقف هى خلف الستار تنتشى بالفشل تنصب اللعنات على من يقفون أمام الناس مباشرة بحكم مسؤوليتهم.
فى كل تجارب التاريخ لم تستقر سلطة جديدة إلا إذا أزالت الركام والأنقاض، وفتحت نوافذ المستقبل لتطرد عفن الماضى. الأورام السرطانية لا يكفى إزالة جزء منها والإبقاء على أجزاء أخرى، إذ سرعان ما تتمدد وتقتل الجسد وتسيطر عليه بالكامل. سنوات أربع مرَّت والداء يستفحل وكل أصوات الحكمة والرشد تُشير لموقع الخلل وتصرخ: سوف نُؤتى من هنا (بضم النون)، ولكن لم نرى استجابة تليق بحجم الخطر. والنتيجة أننا الأقرب الى عودة المنظومة الشمولية بفوز حزب بكل الاستحقاقات الإنتخابات لسنة 2014 و المدهش أنه مرسكل المنظومة القديمة.
عزيزي الكاتب، لا يوجد شيء إسمه “شعب المواطنين”. تلك نظرية جديدة طلع علينا بها الرئيس الطرطور ليذكّرنا من خلالها بماضيه “الحقوقي” وهو الذي لم يحرّك ساكنا عندما تمّ استباحة الحقوق تحت حكم سيّده الغنوشي، ففُقئت الأعين بالرش وقُتل الناس تحت التعذيب وسُجن شباب المدن الداخلية وأُطلق سراح كبار سدنة الزعبع وأكثر أعوان بطشه من القتلة والسفاحين. هي عبارة أخرى من عبارات المغالطة والديماغوجيا والإستغباء يُراد بها الفوز بسلطة لم يدافع عنها كالرجال ويبكي عليها اليوم كالطفل المدلّل الذي فقد لعبته المحبّبة. أما فيما يخصّ “الشعب” فلعلّي أذكّر بالمفهوم الذي اخترعه له باني الدكتاتورية والدولة الفاسدة (بورقيبة) حيث قال عن التونسيّين أنهم ليسوا سوى “غبار من البشر” و”صُبعين وألحق الطين”. وقد أثبت هؤلاء بعد انتخابهم من جديد نفس النظام المجرم الذي حكمهم ستة عقود أنهم فعلا يستحقون كل تلك الألفاظ المهينة. وربما أعبّر أيضا عن عمق مأساة هذا البلد وحجم نكبته في أهله بتلك النكتة التي كنت أعتبرها فيما مضى عنصرية، حيث تقول أنّ ما يفصل الإنسان عن القرد ليس سوى البحر الأبيض المتوسط! والواقع لا يكذّب هذه النظرية
أما “الدولة العميقة” فلم تكن سوى مصطلحا أنيقا اخترعه بنو اخونج (سواء في تونس أو مصر) لتبرير محاولة اختراقهم لمفاصل الدولة وشرعنة سيطرتهم عليها وتركيعها لأنهم أولا يؤمنون بنظرية “التمكين” وثانيا بأنهم ورثة شرعيّون لإرث الدكتاتورية، ولعل مساومتهم لرجال الأعمال الفاسدين ومحاولة استعمالهم للأرشيف ومحاولة ضربهم للإعلام (العام والخاص) دليل جزئي على هذا الأمر. في المقابل، لو كان هؤلاء يرغبون حقا في بناء دولة جديدة بقيم ومبادىء وطرق عمل جديدة لكان لهم ذلك، فقانون العدالة الانتقالية كان جاهزا منذ جويلية 2012 وترك لهم كمال العبيدي مخطّطا كاملا لإصلاح الإعلام واقترحت خبرات تونسية وأجنبية ألف وسيلة ووسيلة لمكافحة الفساد وكانت هيئة الجندوبي جاهزة لتنظيم انتخابات بلدية، الخ إلخ إلخ. لكن كان من الواضح ومنذ البداية أنهم جاؤوا ليرثوا الدنيا وما عليها لكن كانت اللقمة أكبر كثيرا من حلوقهم فاختنقوا بها عند محاولة ابتلاعها، واضطرّوا أخيرا لشرعنة عودة دولة الاستبداد والفساد بوكالائها الداخليّين وغزاتها الخارجيّين مقابل تحرير حلوقهم من اللقمة التي تكاد تقتلهم، وذلك ما كان! إنّ مشهد تسليم طرطور الغنوشي السلطة للباجي قايد الطبابلية (طرطور وسيلة بن عمار وصانع بورقيبة/بن علي) على قسوته وعنفه لدليل واضح على أنّ هذا الشيء الرومنسي الجميل المسمّى “ثورة” لا يوجد سوى في خيالات بعض الشباب الحالم، بينما يكاد الواقع أن ينهرنا صائحا: عن أية ثورة وأية قيم وأي شعب وأية ديمقراطية تتحدثون أيها البلهاء؟
كنت اشاهد حفل القسم للسبسي وما شد انتباهي هو الاختيارات التي قام بها فريقه والتي لا ارى انها تبشر بخير. اوعزوا للمقرئ تلاوة سورة (انا فتحنا لك فتحا مبينا) وهي سورة نزلت في الرسول ولا يجب تشبيه انتصار انتخابي للسبسي بفتوحات الرسول صلى الله عليه وسلم. جاء بعده السبسي واستشهد بلاية (قل جاء الحق وزهق الباطل) فهل يريد القول انه هو الحق وان منافسه هو الباطل. نرجو منه الابتعاد عن استعمال الدين في المنافسة السياسية كما كان يطلب من النهضة ان تفعل.
تضحكني صفحة الصباح نيوز بنشرها اخبار صحافة البترودولار من عبرية وميدل ايست اونلاين وهي بذلك تدعو للفتنة والفرقة ولكن البترودولار لا يقاوم خاصة من كان لحاسا طول حياته وكانها مازالت مملوكة لضخر الماطري.