بقلم د. محمد المستيري،
لا يمكن أن تختصر مشروعية الثورات في انتفاضة شعوبها أو اهتزاز أنظمتها الاستبدادية، بل لا بد أن تنبعث من وعي جمعي بلحظة التغيير السياسي الفاصلة.
لقد أريد للثورة التونسية أن تكون ثورة ياسمين، لطيفة عطرة وهادئة كروح التونسيين، ظانين بهم الغفلة عن حقوقهم السياسية في الكرامة والعدالة والحرية بعد أن روضوا على الاستبداد لفترة طويلة. فإذا كانت النخب السياسية تحسن قواعد اللعبة السياسية النزيهة والقذرة، فإن الشعوب هي التي تحتكر الإمكان السياسي. يخطئ من يتوهم أن الشعوب هي القواعد الجماهيرية التي لا تصلح إلا للتعبئة والحشد وتأثيث المشهد السياسي. فقد تقع في التآمر عليها أو التوظيف السياسي لها لقلة حنكة أو ثقافة سياسية ولكنها تظل القادرة بمفردها على تحديد مشروعية الفعل السياسي من ثورة واحتجاج ومناظرة وبناء وتنمية.
إن حالة اللاكرامة التي تعاني منها جل الشعوب في العالم سواء كان المعبر عنها الفقر أو البطالة أو العنصرية هي التي تعطي المشروعية للفعل السياسي. فتكون الشعوب هي المشرعة للسياسة وضميرها وحسها من حيث يقتصر دور النخب على توجيهها وتقنينها فلسفيا واستراتيجيا وإجرائيا.
بعد سنوات أربع عجاف من ربع شعب يعيش تحت خط الفقر ونصفه يتكبده يوميا، شعب حلم بالمواطنة الفعلية يشترك فيها مع محترفي السياسة في تقرير مصيره، هل يجوز الحديث عن مشروعية ثورة، مشروعية كرامة مواطنة؟ أفلا يجدر بنا الحديث عن تجديد هذه المشروعية وإعادة سؤال الثورة؟ إن المنطلقات المشروعة للثورة والتي لا تفقهها سوى الشعوب ومن يناصرها من نخب وهي تحرير وجودها من رعايا استبد بها سياسيا إلى مواطنين صانعين للسياسة هي التي تمثل مشروعية “ثورة الكرامة” لا “ثورة الياسمين”.
إن هذه المشروعية هي التي أنجزت مسمى الثورة فتحول هذا المسمى الجديد في حمى معارك السياسة إلى شرعية يتنازعها الجميع ويتنكص الجميع إلى مشروعيتها. سنشهد للسنة الرابعة مسرحية ساخرة احتفالية بشرعية الثورة التي لم تنجز، وتحديدا لم يبتدأ بعد مسارها الثوري لتحقيق أهدافها أو مشروعيتها. بعد سنوات أربع من استعراض المواهب البشرية حديثة العهد بالسياسة، وما نتج عنها من كوارث في مستوى الخطاب والمشاريع “السياسية” نعود إلى نقطة الصفر السياسية وهي التي يجب أن تسائل العقل السياسي عن مشروعه في التنمية وأن تواجه الشعوب حول مشكلاتها الوجودية.
لم يعد مجديا اليوم مخاطبة هذه الشعوب باسم الشرعية الثورية لأنها لم تثبت لها حضورا في الحفاظ على كرامة عيشها بل وجب إحياء مشروعية الثورة لمعالجة حقيقية لمشكلات التنمية في مستوى الشغل والمسكن والصحة والتعليم وغيرها، التي إن تقدمت النخب السياسية باتجاه معالجتها أمكن الحديث من جديد عن شرعية الثورة. ولن يتيسر ذلك إلا إذا توقفت ثقافة استغفال الرأي العام الشعبي والعمل على توثيق الثقة بين النخب وعموم الناس، فعامل الثقة هو ركيزة الفعل السياسي الناجح. كما وجب عدم الاستجابة للدعاوى اللبرالية الجديدة لإذابة الهويات السياسية المختلفة وصهرها في ما يعرف بالتوافقات من أجل بناء منظومة سياسية جديدة تقوم على براغماتية السوق وإملاءات جهاته النقدية الدولية. فالسياسة بما هي موقف من مشكلات تسيير المصالح العامة ورؤية لتوفير شروط السعادة المجتمعية، تفرض مرجعية فلسفية أو فكرية سياسية تنضبط بالمبادئ المعرفية والأخلاقية لها.
ليس قدرنا أن نتجاوز التمزق السياسي الأيديولوجي تحت مسمى التجاذب بالسقوط في التماهي. فالسياسة تفرض تنافسا على المشاريع السياسية وبه تتجذر التعددية ويتحقق التداول على السلطة. فإن تخلى الجميع عن خلفياته الأديولوجية فسنقع بين أحضان الاستعمار اللبرالي الجديد الذي لا يريد لنا سيادة ولا استقرارا، وسنعلن حينئذ عن نهاية السياسة.
في رأيي وقد عبّرت عن هذا مرارا، استعمال لفظة “ثورة” في الحالة التونسية خاطىء ومغرق في المبالغة. ما حدث في البلد لم يكن سوى انتفاضة اجتماعية لجهات هامشية على مركز يحتكر الثروة والسلطة والقوة. هذه الجهات الهامشية ليست وازنة ديموغرافيا ولم يثر فيها سوى بعض الشباب من العاطلين عن العمل والمفقّرين. والدليل على ذلك أن أكثر شيب تلك المناطق صوّتوا لليمين المحافظ (بنسختيه الدينية والمتبرجزة) في المسرحيات الانتخابوية الماضية بما في ذلك انتخابات أكتوبر الأسود (2011). والشعب التونسي بطبيعته شعب محافظ و”عيّاش”، لا تعنيه كثيرا شعارات مثل الكرامة والحرية والديمقراطية! ما يعنيه فقط هو الرفاه والمال والحاجات الاستهلاكية، ولا يهمّه كثيرا إن كانت وسيلة حصوله على تلك الحاجات شريفة وشرعية أم لا. وإن كان تقبيل أيدي الجلادين والتطبيل والتزمير لهم هما الوسيلة الأقل كلفة للحصول على ذلك فلما لا! ذلك هو مستوى وعي شعبنا العظيم بنفاقه وجهله وانبطاحه!
في كل الأحوال، لقد عادت السلطة ل”أصحابها” وكله بفضل شعبنا المتخلف الذي يمارس هو نفسه التمييز والعنصرية ويربّي أجياله على الكراهية وقيم النفاق والتواكل والتخابث. ولا أرى ما الذي يدعو البعض لمواصلة الحديث عن “ثورة” لم ولن تحدث سوى سببين متباعدين: إما الانسياق في الدعاية التخديرية التي يمارسها النظام عبر أذرعه المتعدّدة أو توهّم أشياء ينفيها السياق الواقعي للأحداث. ولعلّ النسبة (أكثر من تسعين في المائة) التي يمثلها اليمين (بتشكيلاته الدينية والأوليغارشية والليبرالية) في مجلس دواب الشعب ونوائب الأمة دليل واقعي ملموس على أنّ “الثورة” وهم، وأنه يجوز مستقبلا اعتقال المتحدثين عنها بتهمة تعاطي “حبوب الهلوسة”، والله المستعان