بقلم شكري بن عيسى،
مع حصول تَشَكّل ائتلاف نيابي واسع، حول حكومة الحبيب الصيد، التي نالت ثقة البرلمان بأغلبية 167 نائبا يمثلون خمسة احزاب، أَضْعَفَ وضع المعارضة التي استقرت في حدود 33 نائبا فقط مشتتين بين مستقلين وتسعة احزاب، تَعَمَّقت من جديد هشاشة مركز الاقلية النيابية بعد احتداد الخلاف القائم بين المكونين الرئيسين داخلها المتنافسين على رئاسة لجنة المالية وخطة مقرر اللجنة المكلفة بالشؤون الخارجية خصوصا مع تسجيل استنجاد من كلا الطرفين باحزاب الاكثرية الحكومية للحصول على السند لمغالبة الشق المقابل.
الشرخ العميق الذي شق المجموعة المكونة للمعارضة، اساسا بين كتلة الجبهة الشعبية التي تضم 15 عضوا و الكتلة الاجتماعية الديمقراطية المشكلة من 8 نواب مشتركة مع 10 نواب غير منتمين لكتل، لئن كانت تحركه رهانات داخلية سياسية لكل من مُكَوَّنَيْ الاقلية النيابية لتحقيق مكاسب من اضعاف الطرف المقابل والاستئثار بموقع متميّز خاصة في لجنة المالية التي تمثل العصب في ضبط الخيارات الاقتصادية المحورية المحددة للتوجهات الاجتماعية الكبرى للحكومة، فان رهانات اخرى لا تقل اهمية من احزاب الاكثرية كانت واضحة سواء لاضعاف المعارضة ككل وشقها او تهميش احد او عدد من احزابها او تقديم “النجدة” وكسب احد مكوناتها في مقابل الحصول على تنازلات معينة آنية ومستقبلية منه.
حيرة عميقة؟
الحقيقة ان الانشغال بات كبيرا والحيرة صارت عميقة حول التنازع والتشرذم الذي آلت اليه المعارضة في خصوص أدائها المنتظر لوظيفتها السياسية الحساسة والخطيرة داخل المجلس النيابي وفي تحقيق التوازنات الكبرى داخل النظام السياسي في مقابل الاغلبية الواسعة المسندة للحكومة التي قد لا تجد سلطة مضادة قوية بالشكل المطلوب فتتحول الى سلطة متجذرة وتكون بذلك مفسدة كبيرة تحول دون التعددية الحقيقية وتعيق والتداول السلمي على السلطة وتحقيق الحكم الرشيد، وضمان الحقوق والحريات واستقلال القضاء الركائز الاساسية للديمقراطية.
التنازع.. المنطلق والظهور
منطلق التنازع العميق الحاصل كان على اساس الاستفادة من الحقوق والمركز الذي خصه الدستور للمعارضة في الفصل 60، الذي اسند لها رئاسة لجنة المالية وخطة مقرر اللجنة المكلفة بالشؤون الخارجية والحق في تكوين لجنة تحقيق كل سنة وترؤسها، وبشكل عام ضمن لها ما يمكنها من النهوض بمهامها في العمل النيابي وامّن لها تمثيلية مناسبة وفاعلة في كل هياكل المجلس وانشطته الداخلية والخارجية، وهو على ما يبدو ما استثمرته بحنكة بعض احزاب الحكم لتغذية التناقض بين مكونات الاقلية.
التنازع ظهر بجلاء في مرحلة اولى، انطلاقا من تنزيل الفصل 60 من الدستور في النظام الداخلي عند تحديد مفهوم المعارضة في الفصل 46 منه، بين عديد مكونات المعارضة والاغلبية المساندة للحكومة التي رغبت في البداية في وضع مفهوم فضفاض تستفيد منه قبل ان يستقر المطاف على تحديد نهائي حمل في طياته لبسا كبيرا برغم تبنيه مفهوم ضيّق شكلي للانتماء للمعارضة يعتمد اضافة الى “علاقة” المعارضة للسلطة على “حالة” التموقع في المعارضة عبر التسجيل بالانتماء لها، كان له اجرائيا الاثر في نشوب الخلاف بين شقي المعارضة في الواقع عند التطبيق الذي هو في الاصل خلاف سياسي حول من سيكون له احقية الاستئثار بما اسنده الدستور من حقوق وبالتالي تزعم المعارضة بما له من رمزية.
انحصار الخلاف
لن نخوض بالتدقيق في الخلاف القانوني الاجرائي الذي انحصر بين من له الاحقية في التمتع بصفة المعارضة، هل هي الكتلة النيابية الاكبر فقط وهو ما تبنته الجبهة الشعبية ام الكتل النيابية والنواب غير المنتمين لكتل معا وهو ما تبناه بقية الشق المعارض المكون من 18 نائبا، وهو ما تم تخصيص جلسة عامة يوم الجمعة 27 فيفري 2015 لحسمه دون الوصول لنتيجة، عبثا بعد ان صوتت كتل نداء تونس والوطني الحر وافاق تونس لصالح الجبهة الشعبية دون الحصول على الاغلبية المطلقة المستوجبة. ما يستحق التمحيص هو اساسا الجانب السياسي والاستحقاقات المرتبة عنه.
امتيازات المعارضة في القانون المقارن
ما يجب الاشارة اليه بدءا هو ان الحقوق والضمانات التي اسندها الدستور في فصله 60 للمعارضة ليست بالنظر للقانون المقارن انجازا “خارقا” يستحق التباهي به كما يغالي البعض، فقوانين دول افريقية مثل بوركينا فاسو تسند امتيازات للمعارضة تضمن لها المشاركة في هياكل مجلس النواب بما فيها مكتب المجلس واللجان العامة او ترؤسها والمشاركة في لجان التحقيق واللجان الخاصة والحق في التمويل العمومي وفي الاعلام وامكانية استشارة رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة لها في القضايا المتعلقة بالمصلحة الوطنية او الشؤون الخارجية، وتمنح مركز “زعيم المعارضة” الذي يتمتع صاحبه بامتيازات واسبقية ووضعية خاصة في البروتوكولات الرسمية. وحتى مالي فتضمن قوانينها حقوقا معتبرة للمعارضة، اما بريطانيا فتخصص مركزا خاصا للمعارضة وتمنح لزعيم المعارضة صفة مرموقة “chef de l’opposition à Sa Majesté”، وتتميز فرنسا بتخصيص يوم في الشهر لحصة تحدد فيه مجموعات المعارضة والاقليات جدول اعمال اضافة الى تساوي التوقيت في الكلام خلال الاسئلة الموجهة للحكومة فضلا عن خطط رئاسة ومقرر في الهياكل البرلمانية.
تقصير في تنزيل امتيازات المعارضة الدستورية!
زيادة على ذلك فما اقره الدستور التونسي من حقوق وضمانات، العامة منها، والتي اشار اليها بـ”التمثيلية المناسبة والفاعلة في كل هياكل المجلس وانشطته الداخلية والخارجية” لم يقع ترجمتها فعليا في النظام الداخلي، بتخصيص امتيازات محددة منها تخصيص توقيت مساو للاغلبية عند توجيه الاسئلة للحكومة، الذي ضبط توزيع الخطط داخل هياكل مجلس نواب الشعب على اساس التمثيلية النسبية باستثناء لجنة المالية واللجنة المكلفة بالشؤون الخارجية ولجنة تحقيق في السنة.
الجبهة الشعبية الحقيقة ربما كانت عيناها على الحقوق والضمانات الخاصة المحددة في الفصل 60 من الدستور، لغنم “شرعية منبرية”، ولم تحرص على تفعيل الحقوق والضمانات العامة الواردة صلبه في النظام الداخلي التي اغفلتها، زيادة على انها كانت ثقتها في فوزها بقيادة المعارضة كانت زائدة على اللزوم وكانت في شبه قطيعة مع بقية مكونات المعارضة بل كانت تتعامل معهم بشيء من التعالي باعتبار الفارق الشاسع في عدد النواب بينها وبين بقية الاحزاب التي لا يفوق احسنها 4 نواب، وباعتبار الخلاف السياسي السابق بينها وبين المؤتمر من جل الجمهورية والتيار الديمقراطي، ولم تكن تنتظر حصول تكتل لبقية مكونات المعارضة جميعها في اسناد النائب اياد الدهماني.
الحزب الاكثري يعيد توزيع الاوراق؟
النائب المذكور تم ايضا التصديق على اختياره من مكتب المجلس باغلبية ساحقة، بما فيها ممثلي النهضة والوطني الحر وحركة نداء تونس، الذين رغبوا في تحاشي الجبهة خاصة في لجنة المالية خشية تعطيلها لنشاطها بشكل او بآخر، قبل ان تتراجع الاخيرة وتقرر مساندة ممثل الجبهة منجي الرحوي، وقد يكون الامر لغايات سياسية تكتيكية اهمها سحب البساط من تحت ممثل الكتلة الديمقراطية الاجتماعية الذي اسندته النهضة وتبني الخصم الايديولوجي لشريك الحكم لغايات متعددة ليس اقلها مسك ورقة قوية قد تكون رابحة في المستقبل وكسب الجبهة الشعبية لفائدتها وتحاشي كل امكانية لتعطيل المجلس من قبلها او ارباك استقرار الحكومة بالطرق المختلفة، زيادة عن امكانيات حصول ضمانات بعدم عرقلة لجنة المالية.
النداء بذلك يكون سعى وخطط وشرع في تنفيذ “اختيار” المعارضة التي “يجب” دعمها، واوقعها بالتالي في شراكه، ولو ان الامور اخذت منحى معقدا بعد حصول تصويت مكرر من نائب عن افاق تونس انور لعذار لفائدة خيار الجبهة اعلن اثره رئيس المجلس عن فوز الجبهة برئاسة لجنة المالية بعد تسجيل اغلبية مطلقة (109) تسمح بتمرير الخيار قبل كشف المصلحة التقنية بالمجلس للخلل الحاصل والغاء النتيجة، وفي كل الحالات فقد تم تسجيل دعم نداء تونس للجبهة الشعبية في سابقة تتعارض والاخلاق السياسية التي لا تقبل باختيار السلطة لمعارضتها، التي تخالفها في الموقع والرؤية والمشروع والبرنامج والغايات وتناوؤها من اجل افتكاك السلطة منها سلميا.
تعمق التصارع وطغيان اعتبارات التموقع السياسي
المعارضة البرلمانية المشتتة والمتصارعة يبدو انها لم تكن واعية بما يكفي بوظيفتها الوطنية الدقية، وسبّقت على الاغلب اعتبارات التمركز المستقبلي في المشهد السياسي والانتخابات المحلية القادمة بعد اشهر، مع ميلاد تشكيلين سياسين جديدين، الاول في شكل “حراك” سياسي ثقافي اجتماعي يقوده المرزوقي سينطلق في ذكرى 20 مارس يحتوي على المؤتمر من اجل الجمهورية وبشكل غير مؤكد التيار الديمقراطي وعديد الاحزاب غير الممثلة في البرلمان منها البناء الوطني وقد تنضم له حركة وفاء زيادة على عديد الجمعيات، سيعتمد اساسا على القاعدة الانتخابية التي اسندت الرئيس الشرفي للمؤتمر في الانتخابات الرئاسية.
اما الثاني فسيكون في شكل “ائتلاف” سياسي اجتماعي ديمقراطي سينطلق في ذكرى 9 افريل سيضم مبدئيا احزاب الجمهوري والتحالف الديمقراطي وحركة الشعب زيادة على التكتل وحزب العمل التونسي من خارج البرلمان وقد يشمل التيار الديمقراطي ان اختار عدم الالتحاق بحراك شعب المواطنين وينفتح على احزاب اخرى وشخصيات مستقلة.
الالتجاء للتسويات.. اغفال الوظيفة المركزية.. المخاطر
وهذا ما اجج التصارع ورفع الرهانات حول قيادة المعارضة وجعلها تسقط خاصة البرلمانية منها في شقها الواسع في تسويات مع احزاب الحكم متناسية موقعها الاصلي في مواجهتها كسلطة مضادة تمنع نزوع السلطة للاستبداد والفساد والتجاوز كهياكل او كأفراد، وتمثل بديلا ذا مصداقية يضم مشروعا مختلفا عن الذي تحمله احزاب السلطة تسعى لاقناع الناس به عبر مختلف ادوات المعارضة بما فيها النقد في البرلمان وفي الاعلام ورقابة الحكومة والادارة عبر الاسئلة المختلفة ولوائح اللوم وسحب الثقة ولجان التحقيق والاحتجاجات الميدانية السلمية وتضمن بذلك بالتوازي الشفافية والسلامة والفاعلية في ادارة الشأن العام وحماية المصلحة العامة والمال العام والثروات الطبيعية المختلفة.
والمعارضة في هذا الصدد لها دور محوري في حماية السيادة الوطنية وتوازن السلط وحفظ الديمقراطية وحق المواطن في معرفة ما يحدث في الشأن العام بكل شفافية وحقه في وجود تعددية حقيقية تمثل التيارات والافكار والاراء المختلفة يختار منها ما يشاء في الانتخابات التي تشكل عماد الديمقراطية وتجعله بالتالي فاعلا ومشاركا بكثافة في الشأن العام، وتحول بالتالي دون العزوف المتصاعد عن الانتخاب الذي وصل حدا مفزعا في انتخابات 2014 التي قاربت المقاطعة فيها 60% من جملة الذين يحق لهم التصويت نتيجة فقدان الثقة في نزاهتها بطغيان المال السياسي والتوجيه الاعلامي الحاد وغياب الجدوى من وجود خيارات حقيقة تحقق تطلعات وانتظارت المواطن وتستجيب لحاجياته.
ومن هذا المنطلق يكون تنازعها الحاد داخلها بين مكوناتها او الاتجاهات نحو تهميشها او تطويعها او تدجينها من احزاب السلطة من شأنه ان يقوّض المنظومة الديمقراطية ويقتل الامل نحو المشاركة في الحكم عبر التداول السلمي للسلطة ويخلق ارضية للفساد، ويفقد النجاعة والجدوى على عمل السلطة ذاتها في ظل تضاءل الرقابة، وقد يفضي الى العنف وينتج الارهاب، والواقع ان المعارضة البرلمانية الحالية في حالتها هذه وبعددها الذي لا يفوق 33 عضوا لا يمكن حتى ان تطلب انعقاد جلسة عامة لتوجيه لا ئحة لوم التي تفترض وجود 73 عضو ناهيك عن سحب الثقة من الحكومة، وبالتالي فهي في خط الفقر السياسي.
ضعف المعارضة.. الفراغ!
واذا ما اضفنا ضعف اغلب مكوناتها: كتلتين فقط و9 احزاب منها اربعة بنائب وحيد (الجمهوري، التحاف الديمقراطي، صوت الفلاحين، الديمقراطيين الاجتماعيين) وثلاثة (التيار الديمقراطي وحركة الشعب والمبادرة) بثلاثة نواب وحزب المؤتمر باربعة نواب والجبهة الشعبية بـ15 نائبا، بتمثيلية شعبية ضعيفة لاغلبها وافتقاد واسع للكفاءات وغياب كبير للبرامج المتكاملة والبدائل الحقيقية وطغيان الاعتبارات الايديولوجية و”النمط المجتمعي” خاصة بالنسبة للجبهة الشعبية التي غرقت في التركيز على قضية بلعيد والبراهمي ونقد الترويكا الى حد الانغلاق عليها، اذا ما اضفنا ذلك تصبح وضعيتها تحت خط الفقر السياسي.
غياب المعارضة تاريخيا قبل الثورة او تدجينها او منعها دفع بالمنظمات النقابية والحقوقية والنخب الفكرية والسياسية الى مناوءة السلطة ومعارضتها والقيام بدور السلطة المضادة في ظل اعلام عمومي وخاص متمترس في خندق النظام في معظمه، واليوم المعارضة بمفهومها الواسع تشمل المجتمع المدني والنخب المتنوعة والاعلام وهي تتمتع في عمومها بحيوية وادوات فعالة للضغط والتصدي للتجاوزات المؤسساتية والشخصية ولكن في المقابل تغلغل مراكز النفوذ المالية وشبكات التحكم الدولية في السلطة وامتداده داخل مختلف هذه القطاعات المدنية قد لا يعطي الضمان الكافي في ظل معارضة برلمانية تتنازع طرفيها احزاب الحكم.
ضرورة التفاهم داخل المعارضة في حسم الخلاف
كان لزاما الحقيقة فض الخلاف القائم حول تزعم المعارضة داخل مجمل مكوناتها دون اللجوء الى “الخارج”، وان كان النظام الانقلوساكسوني في المملكة المتحدة يسند المعارضة “الرسمية” للحزب الأول ضمن المعارضة البرلمانية، فهذا هو الاقرب للمنطق، اذ لا يمكن تصور معارضة دون مشروع سياسي متكامل متناسق مفصّل في برنامج محدد المحاور وكفاءات حزبية مشهود بجدارتها ومصداقيتها، وهو ما لا يمكن توفره عموما في احزاب متشظية تفرقها الاختلافات اكثر مما تجمعها المشتركات، لا تجمع سوى 17 نائبا منهم اثنان صوّتا لفائدة منح الثقة للحكومة (مهدي بن غربية عن التحالف الديمقراطي ولطفي علي عن المبادرة) وواحد احتفظ بصوته (الناصر الشنوفي عن المبادرة)، والاهم هو غياب التجانس المستوجب بينها، ولكن المشكل ان تعامل الجبهة بسلبية معهم ما جعلهم على الاغلب يناصبونها المعارضة الحادة، التي غذتها بقوة احزاب الحكم.
ولكن كان ضروريا في المقابل، حتى في ظل وجود مآرب مختلفة بين مجموعتي النزاع، ان تمد الجبهة الشعبية يدها وتحاور الطرف المقابل بعيدا عن النرجسية المفرطة وبعيدا عن المغالبة والاستقواء بالسلطة والوصول الى حل عبر تقاسم الامتيازات الخصوصية التي يضمنها الدستور للمعارضة او التداول على التمتع بها دون اهمال للاقليات الحزبية و النائب المستقل الوحيد عدنان الحاجي، وتكون بذلك حققت حدا ادنى من التفاهم بين المعارضة وضمنت تمثيلية كل الاطراف وحققت المشاركة والتداول بين مختلف مكوناتها وحالت دون تدخل اطراف السلطة في المعارضة الذي يخرق استقلاليتها وسبب وجودها اصلا، فالتحديات المطروحة اكبر من ان يقع استنزاف كل الطاقة في التطاحن والتناحر السياسي الهدام.
iThere are no comments
Add yours