بقلم طارق الكحلاوي، المدير العام السابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية،
تكثف التطورات في ملف الارهاب في الاسبوعين الاخيرين يستوجب وقتا لاستيعاب خلاصاته الكاملة. يمكن في الاثناء ابداء الخلاصات الأولية التالية:
● تفاصيل عملية “سيدي عيش” ليست واضحة بعد لكن يبدو ان الطريق الى كشف ومحاصرة وتصفية المجموعة كان عملية استخبارية لعبت فيها عملية التنصت وربما الكشف عن “البصمة الصوتية” لقائد المجموعة خالد الشايب (لقمان ابو صخر) وايضا مساعدة دول صديقة دورا اساسيا. ان الاستعلامات التكنولوجية كانت وستكون احد مفاتيح حسم الصراع ومحاصرة المجموعات الارهابية. عوض الحديث عن “العودة” لنظام الاستعلامات القديم فان دولة حديثة وديمقراطية يجب ان تعزز مناهج الاستعلامات التي تركز على التجديد التكنولوجي وهو ما يتطلب تطوير التعاون مع دول صديقة وايضا توجيه الشراءات العسكرية اكثر في هذا الاتجاه. وهو ما اقترحناه في مساهمتنا من خلال عمل المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية في اعداد استراتيجيا مكافحة الارهاب بالتعاون مع مصالح حكومة مختلفة في اطار رئاسة الحكومة والتي سلمتها حكومة المهدي جمعة لحكومة الحبيب الصيد. وكنا فصلنا بعضا منها في مقدمة الكتاب الذي نشره المعهد والمتوفر للاطلاع والتنزيل مجانا على الانترنت1.
● من المؤشرات التي اكدتها عملية “سيدي عيش” هو تعمد الارهابيين استعمال تقنيات وسيارات وطرقات المهربين. التقنيات تتمثل في استعمال طرق خلفية (بين الشعانبي وسيدي عيش مرورا بماجل بلعباس) واستعمال سيارات استطلاع تسبق السيارة الرئيسية. استعمال شاحنة خفيفة “تويوتا هيلوكس” (Hilux) لنقل الاشخاص والاسلحة والمؤونة والمعروفة بسرعتها الكبيرة في الطرقات الوعرة وهي مع الشاحنة “ايسيزو ديماكس” مستعملة بكثرة من قبل المهربين (للتذكير تم حجز شاحنة خفيفة “ديماكس” كانت ستستعمل كسيارة مفخخة في عملية سيدي علي بن عون). تحليل العلاقة بين الارهابيين والمهربين حساسة. اذ لا يمكن بطبيعة الحال الانزلاق الى التعميم ووضع شبهة اطلاقية على شبكات المهربين الذين يهتمون اساسا بالربح وآخر ما يريدونه التورط في شبكات ارهابية. لكن من الاضح ان هناك اختراقا من قبل الارهابيين لشبكات المهربين ومن المؤكد مثلا ان مراد الغرسلي ابو براءة والذي يعتبر القيادي التونسي الاساسي في “كتيبة عقبة بن نافع” وهو مهرب سابق يستعمل خبرته في التهريب في تأمين تنقل وعمليات المجموعة2. هذا يطرح اسئلة جدية على الاختراق خاصة بطبيعة شبهات الفساد المطروحة في علاقة شبكات التهريب باجهزة الدولة على المناطق الحدودية. فمن غير الواضح ان كان تنقل قيادات رئيسية في شاحنة واحدة و في الطرقات والسهول بعيدا عن الجبل هل هو لثقة في النفس وانعكاس لاختراق ام هو مؤشر على حالة حصار وملاحقة، خاصة انه سبق لهم النزول للسهول والتحرك باريحية في السابق (استهداف منزل لطفي بن جدو، عملية سيدي علي بنعون، استهداف ثكنة في سبيطلة… الخ).
● العملية تمثل ضربة موجعة للشبكة تنظيم القاعدة في تونس (“كتيبة عقبة بن نافع” هي الجناح التونسي الرسمي لـ”تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي” مثلما تؤكده بيانات رسمية للتنظيم) لكن ليس لكل المجموعات الارهابية. اذ لا يجب الاستغراق في وهم انه سيتم القضاء على الارهاب بمجرد القضاء على قائد شبكة القاعدة في تونس . الارجح ان ما سيحدث هو توفر مساحة اكبر للمجموعات والخلايا النائمة المرتبطة والموالية لتنظيم الدولة “داعش”. الدعم اللوجيستي والمادي سيتجه بشكل متزايد نحو العمق الليبي مقابل تراجع نسبي لنفوذ القاعدة من خلال الحدود التونسية الجزائرية، اذ ان تركز “كتيبة عقبة بن نافع” بقيادة خالد الشايب على الحدود الجزائرية وتحديدا في جبال الشعانبي ليس مصادفة وانما يمثل امتداد طبيعيا لخلية كان يقودها الاخير في ولاية تبسة المجاورة للقصرين. يبقى انه لا يمكن الحديث عن القضاء النهائي على “كتيبة عقبة بن نافع” اذ ان اهم عناصرها التونسيين مراد الغرسلي لايزال طليقا ومن الواضح انه مرشح ليكون خليفة خالد الشايب.
● تغريدات حساب “افريقية للاعلام” على شبكة تويتر تستوجب وقفة خاصة لانه المنبر الاعلامي الاقرب على ما يبدو للمجموعات الارهابية في تونس. الحساب اعلن بوضوح اكثر من مرة بما في ذلك في نص نشره يوم الاحد 29 مارس الجاري بعنوان “ليلة سعيدة في الدنيا” ان المشرفين عليه لا يدعمون فقط بل يبايعون تنظيم الدولة و”الخليفة البغدادي” وانهم مقيمون في الاراضي التي تسيطر عليها “داعش” بل انهم يعملون في “وزارة” الاعلام التابع لها.
وان تواصلهم مع تونس يتم عبر “مندوبين” تم تدريبهم على “الامنيات”. النصوص الاخيرة التي نشرها “افريقية للاعلام” تطرح جدية ارتباطهم المباشربـ”كتيبة عقبة بن نافع” خاصة عندما طرحوا رواية غير مقنعة لعملية “سيدي عيش” من تفاصيلها “المباغتة” بالصدفة البحتة للمجموعة وفي نفس النص يتحدثون عن “كمين” قوات الامن. اهم ما في نصوص “افريقية للاعلام” انه يعكس انقسام المجموعات الارهابية خاصة على قاعدة البيعة لداعش. لكنه ربما يعكس ايضا ان ان عناصر من “كتيبة عقبة بن نافع” غيرت ولاءاتها في السنة الاخيرة وانتقلت من الانضواء للقاعدة الى الانضواء لشبكة تنظيمية جديدة بصدد التشكل داخل تونس تتبع داعش. و”افريقية للاعلام” وتغير ولاءاتها تعكس تحديدا هذا المسار. ادى ذلك لردود على تويتر من قبل مناصرين لـ”القاعدة” (حساب باسم “مداد الكلاش” مثلا) تشكك في مدى امتلاك “افريقية للاعلام” اي معطيات حقيقية عن عمل “كتيبة عقبة بن نافع”.
● آخر النصوص التي نشرتها “أفريقية للاعلام” ربما هي الاقرب للدقة رغم انها تكشف بشكل غير ضروري عن تفاصيل تنظيمية سرية. لكن يبدو ان ذلك اتى من باب رد الفعل على نجاح كمين “سيدي عيش” وطمأنة الموالين ان الضربة التي تلقتها “كتيبة عقبة بن نافع” لن تضعف المجموعات الارهابية. النص الذي نشر تحت عنوان “توضيح” في الصباح الباكر للاثنين 30 مارس يقدم خريطة مختصرة للتنظيمات الارهابية في تونس ونقاط الاختلاف والاشتراك بينها.
تقسيم المجموعات تنظيميا الى اربعة: “كتيبة عقبة نافع” تتبع القاعدة، مجموعتان “جماعة جند الخلافة بتونس” و”طلائع جند الخلافة بتونس” تتبعان “داعش” ويتم نسبة عملية باردو للاخيرة، واخيرا جماعة اخرى مستقلة لا تتبع اي من الشبكتين الاقليمتين باسم “جماعة التوحيد والجهاد”. ما يثير الانتباه في هذا “التوضيح” هو التأكيد على “تعاون” هذه المجموعات وهو ما يحيل على ما تم في فرنسا من خلال تعاون “ذئاب منفردة” تتبع القاعدة مع اخرى تتبع داعش. الانقسام مع التنسيق، او التنافس مع التعاون صيغة صعبة التحقيق في الواقع خاصة عندما يكون الجهاديون التونسيون في سوريا في وضع صراع دموي مثلما هو الحال بين تنظيم الدولة “داعش” و”جبهة النصرة”. لكن لا يعني ذلك ان عدم امكانية هذا السيناريو خاصة في اطار وضع المحاصرة لهذه المجموعات جميعا وحالة التضامن بينها خاصة ان عناصرها نشطت في الاغلب بشكل مشترك في اطار تنظيم “انصار الشريعة”.
ايضا من الملفت طبيعة الاختلاف في التكتيك العملياتي بينها. يبدو ذلك دقيقا اذ ان عمل القاعدة يتركز في الجبال والارياف وباستهداف القوات العسكرية والامنية المرابطة هناك في حين يبدو ان “داعش” في تونس مهتمة اكثر بالعمليات الاستعراضية داخل المدن والاغتيالات.
● لم يكن كمين “سيدي عيش” اول عملية امنية ناجحة بعد الثورة. يجب ان التأكيد هنا على أنه رغم الاخفاقات والشهداء فإن النجاحات العسكرية والامنية في تصفية وتفكيك شبكات الارهاب تواصلت منذ الثورة بمعزل عن تغير الحكومات. من ذلك مواجهات الروحية في ماي 2011 التي اسفرت عن القبض على عناصر ارهابية والكشف عن وثائق تؤكد نوايا استهداف مواقع سياحية ومواجهات وادي الزاوي في معتمدية بئر علي بن خليفة في فيفري 2012 بعد استرابة مواطنين في وضع احد السيارات وتصفية عنصرين واكتشاف شبكة من مهربي السلاح الى الاراضي التونسية. وكشف مخازن اسلحة هامة في مدنين والمنيهلة بين شهري جانفي وفيفري 2013. واحباط العملية الانتحارية في المنستير في أكتوبر 2013.
وكمين “سيدي عيش” ليس اول كمين ناجح ينتهي باعتقال او تصفية قيادات ارهابية في تونس. منها عملية الوردية في 4 اوت 2013 التي تم فيها الكشف عن مخبأ ارهابيين وايقاف احد اهم عناصر خلية الاغتيالات السياسية في الجناح العسكري لتنظيم أنصار الشريعة اي عزالدين عبد اللاوي. هذه العملية ساهمت في الكشف بشكل اوضح عن الجناح العسكري من خلال اعترافات العناصر الموقوفة. وهذا ما ادى بعد ايام قليلة الى عملية السيجومي في العاصمة في 9 اوت 2013 تم فيها ايقاف اهم عناصر الجناح العسكري للتنظيم اي محمد العوادي المعروف بـ”الطويل” وتصفية احد اهم مساعديه عادل السعيدي. ايضا عملية 17 اكتوبر 2013 في قبلاط والتي اسفرت عن تصفية تسعة عناصر ارهابية من بينها لطفي الزين احد اهم عناصر خلية الاغتيالات وحجز كمية هامة من المواد المستعملة في اعداد التفجيرات. العمليات التي تمت بين 23 و24 اكتوبر 2013 والتي اسفرت عن تصفية واعتقال عنصار قيادية منشقة عن ارهابيي الشعانبي وحجز شاحنات مفخخة بما ادى على الارجح لاحباط عملية انتحارية ضخمة ضد مقر اقليم الحرس الوطني في سيدي بوزيد. القضاء في فيفري 2014 بين عمليتي رواد وحي النسيم في اريانة على عناصر ارهابية مختبئة قرب العاصمة من بينهم اخطر عناصر خلية الاغتيالات السياسية كمال القضقاضي. اردت استعراض هذه التفاصيل للتأكيد على ان الاجهزة الامنية والعسكرية كانت في حرب متواصلة ضد الارهاب بما يعني ان الارادة السياسية لم تبدأ الان وكانت دائما متواجدة عبر مختلف هذه الحكومات مثلما كانت هناك خسائر. المشكل كان دائما في التجهيزات والخبرة العملياتية الميدانية الخاصة بمواجهة هذا النوع من المجموعات (counter-terrorism tactics) التي لا يمكن اكتسابها الا بالتدرب مع اجهزة دول صديقة والعمل الحربي الميداني.
هوامش
1- يمكن الاطلاع على ملخص مع رابط للدراسة “السلفية الجهادي في تونس” والتي تم نشرها في ديسمبر 2014 اثر عمل استمر سنتين ونصف على الرابط التالي: السلفية الجهادية في تونس: الواقع والمآلات.
2- انظر مقالي حول مراد الغرسلي في جريدة “العربي الجديد” : الجهاديون في تونس … مراد الغرسلي وجهاً ونموذجاً.
iThere are no comments
Add yours