بقلم محمد علي القارصي،
الإهداء : إلى سي عبد الحميد الزموري
يَرْوِي لكَ العمُّ عبدُ الحَميد الزَّمُّورِي، وهُوَ واقفٌ عنْدَ بابِ مكتبَتِهِ بدايَاتِهِ مَطْلَعَ الخمْسينَات مِنَ القَرْنِ الماضِي : بَائِعُ صُحُفٍ متجَوِّلٍ يَجُوبُ شوارِعَ المدينَةِ ومَا جاوَرَها يُزَوِّدُ حرَفَاءَهُ بأخْبَارِ السَّاعَةِ : مَحْمَلٌ مِنَ الكاغِذِ المُقَوَّى يتدَلَّى منْ علَى الكَتِفِ حتَّى الخِصْرِ يحْوِي الجرائِدَ السَّيَّارَةَ (الصّباح – العمل – La Déphêche – La Presse). أَلِفَتْ خُطَاهُ الوَاسِعَةَ وحِذَاءَهُ الخَفِيفَ الأنْهُجُ والطُّرُقاَتُ والمَحَلَّاتُ زمَنًا كَسَبَ خِلَالَهُ صدَاقَاتٍ عدِيدةٍ، هوَ الوَافِدُ، معَ قُرَّائِهِ المُقِيمِين بالمَدينَةِ.
تَطَوَّرَتْ علاقَاتُهُ بالحِرْفَةِ وبِالمدِينَةِ وأَهْلِهَا وبِحُبِّ المَعْرِفَةِ فَأَقْدَمَ عَلَى بَعْثِ مكْتَبَةٍ فِي قَلْبِ المَدِينَةِ الصَّغِيرَةِ بِسَاحِةِ صلاحِ الدِّين بُوشُوشَة (البِيَاصَةَ) حَوْلَ السُّوقِ وَالجَامِعِ ومَقَرِّ “الحِزْبِ الحُرِّ الدُّسْتُورِي” والكَشَّافَةِ ومَقْهَى “السّافِي” و”سِكْمَةَ” وتُجَّارِ الفَخَّارِ والقُمَاشِ مِن أهْلِ الجنُوبِ الطَّيِّبِينَ القَرِيبِينَ مِنْهُ جَغْرَافِيًّا.
مَا مِنْ قَلَمٍ أوْ كُرَّاسٍ أوْ كتَابٍ أوْ مِسْطَرَةٍ أوْ غِلافٍ يُبَاع في هذِه الجِهة الشَّرقيَّةِ منَ المَدينة إلَّا وكانَ مصدَرُهُ “مَكتَبَة الزَّمُّوري”، حيْث يُزَوِّدُكَ، رجُلٌ وَدُودٌ، واضِحُ البِشْرِ والدُّعَابَةِ أحيَانًا، بكُلِّ ما تُرِيدُ غضِيض الطَّرف عنْ بعْضِ ملِّيمَاتٍ تَخُونُ جَيْبَ حُرفائِهِ.
ساهَمَ سِي عبد الحَمِيد فِي تشْجِيعِ أجَيْالٍ عدِيدَةٍ على اقْتِحَامِ عالَمِ الكُتُبِ ؛ يَعْرِف مِن العائِلاتِ بالأسْمَاء، الابن البِكْر والَّذِي يَلِيهِ والأُخْتَ الصُّغْرَى وأبْنَاءَ العَمِّ والجِيرَانِ…ويُنَزِّلِهُمْ مَقامَ ابْنَيْهِ “مُحمّد وحَشَّاد الزَّمُّورِي”.
ازْدَهَرَتْ تِجارَتُهُ وَلاَقَتْ مكْتَبَتُهُ رِيَاحًا مُواتِيَةً وَقَرَّتْ عَيْنُهُ بمَا يَعْتَبِرُهُ رِسَالَةً ثقافِيَّةً يُؤَدِّيهَا لا تَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ التِّجَارَةِ المَادِّيَّةِ، حِينَهَا اقْتَحَمَ فَضَاءً جَدِيدًا منَ المَدينَةِ الأُورُوبِيَّة وفَتَحَ “مَكْتَبَةَ الجُمْهُوريّةّ في مَوْقِعٍ مُمْتَازٍ قُبَالَةَ مَدرَسَة شارِع الجزَائِرِ وغَيْرَ بَعِيدٍ عنْ مدَارِسِ نهْج اليُونان ونهج القُسطنْطينِيَّة ونهْج غُرَّة ماي حيْثُ زاوَلْتُ جُزْءًا منْ تعْلِيمِي الابتدَائِي بعْدَمَا غادَرْتُ مدْرَسَة “فرَانْكُورَابْ”.
“مكتبَةُ الجُمهوريَّة”، هذَا المَوْقِعُ الثَّقَافِيُّ منْ بنْزرت الشَّعْبِيَّة يَمُرُّ بِهِ العَابِرُ إلَى “العَزِيزة عُثْمَانَة” و”البَطَّاح” و”البُوسْطَة” وغيْرِها مِنْ شرَايِين مدِينة بِنْزرت الكُبْرَى ويَرْتَادُهَا التِّلْميذُ والطَّالبُ والأستاذ والمُحامي والطَّبيبُ أحيَانًا والمِيكانِيكِي وابنُ السَّبِيلِ يوْمَ الجُمُعَةِ.
عرِفَتْ “مكتَبَةُ الجمهوريّة” أَوْجَ نشَاطِهَا وَوَاسِعَ إشْعَاعِهَا ثمَانِيناتِ القرْن الماضِي وبعْدَهَا بِقليلٍ. حرَاكٌ اجتمَاعِيٌّ كَثِيفٌ وفِي ميَادِينَ متعَدِّدَةٍ وخاصَّةٍ في قِطاع التَّعليمِ تَدَعَّمَ بنَقْل “دارِ المُعلِّمِين العُلْيَا” مِن تونِسَ إلى بنزَرْت، صارَتْ نُقْطَةَ تقَاطُعِ الطَّلَبَةِ وكَثيرٍ مِن رِجال التّعليم النَّشيطِينَ حوْلَ صُحُفِ تلْكَ الفتْرَةِ: “الرَّأي”، Démocratie، “الحَبِيب”، “الفَجْرُ”، “المُستقبَل” وخاصَّة في 1981 و1989. يُشْرِفُ عمّ عبد الحميد الزَّمُّوري بنَفْسِهِ علَى بَيْع هذِه الجرَائِدِ سرِيعَةِ الرَّوَاجِ كمَا كانَ يُشْرِفُ علَى بَيْعِ جريدَة “الشَّعْبِ” قبْل أحدَاثِ 26 جانفي 1978. كانَ يفْخَرُ أنْ تُبَاعَ هَذِهِ الجرَائِدُ فِي مكْتَبِهِ ويُصِرُّ على عدَمِ الامتِثَالِ لأوَامِرِ “لجْنة التَّنْسِيقِ” والبُولِيسِ السِّياسي. يُقَارِعُ هذَا السِّلْكَ الحَرِيصَ علَى مُراقَبَةِ المُدْمِنِينَ على شِرَاءِ هذهِ الجرَائِدِ ويُقَيِّدُ أسْمَاءَهُمْ. بيْنَ صاحِبِ المَحلِّ وحُرفائِه اتِّفاقٌ ضِمْنِيٌّ “أنْتَ تُزَوِّدُنَا بالجَرَائِد” ونحْنُ نتَحَدَّى الرَّقَابَةَ.
صمَدَتْ المَكتَبَةُ للبُولِيس. ولا نُغالِي إنْ قُلْنَا إنَّهَا صارَتْ علامَةً ثقافِيَّةً مُعارِضةً “للنِّظَام” أدَارَهَا صاحِبُهَا بعزيمَةِ مَنْ كابَدَ السُّجُونَ و”الكَرَّاكَةَ” سِنِينَ طَوِيلَةٍ جَرَّاءَ اخْتِيَارِهِ السِّيَاسِيِّ المُعَارِضِ لسِيَاسَةِ مَا بعْد الاسْتِقلالِ.
استمَرَّ حضُورُ المكْتَبَة وعَطاءُهَا وترْوِيجُها الكُتُبَ الثَّقافيَّة الكلاسِيكيَّة والعصْرِيَّة باللُّغَتَيْن العربيّة والأجنبِيَّة وكُتُب الأطفالِ وكذلِك الكتُبَ المدرَسيَّة وَراءَهَا عينٌ ساهِرَةٌ، عيْنُ الأبِ، تُوَجِّهُ الإبْن البِكْر “محمّد الزَّمُّوري” في تجْويد المُقتَنَيَاتِ ودعْمِ صُمُود المكْتَبَةِ في وجْهِ العُزُوفِ عَنِ الكِتابِ وتقلُّصِ عدَدِ الحُرَفَاءِ جرَّاءَ إهْمَالِ مدرسَةِ شارع الجزائِر ثُمَّ غلْقِها ونتيجَةَ تحوُّلِ مدرَسَة “السِّرْسِي” و”غُرَّةَ ماي” إلى مُؤسّسات إدَارِيَّةٍ.
لم يدَّخِرِ الإبْن حِيلةً يُجَرِّبُها، بعْدَ وفَاةِ المُؤسِّس، لإنْقاذِ توازُن المَعْلَمِ الثَّقافِيِّ الَّذِي تسَارَعَ إليْهِ الفُتُورُ وضَعُفِ فِيه الإقبَالُ على الكِتاب الوَرَقِيِّ، فرَاغٌ هائِلٌ صارَ يَعِيشُهُ رُكْنُ نهْج القُسطنْطِينيَّةِ وشارعُ الجزائرِ بعدَ إشعَاعٍ ثقَافِيِّ طويلٍ حمِيدٍ.
أغلقَتِ المَكتبةُ أبوابَها، خبَّأتْ عِطْرَهَا، طَوَتْ صفْحَتَهَا، بزَغَتْ في نفْسِ المكَانِ تِجارَةٌ جديدةٌ : “بيْعُ الموَادِ الإلكْترُونيَّة”، مَرحبًا بالمَوْلُودِ الجدِيدِ.
بنزرت، ماي 2015
استاذي العزيز سي محمد علي
لكم مني جزيل الشكر و الامتنان للّفتة الكريمة لمكتبة الجمهورية و لمؤسسها المناضل البطل، المرحوم سي عبد الحميد الزموري
لن افوّت الفرصة للتعبير لكم عن جزيل شكري و اعترافي بالجميل لدوركم الفعّال في تكوين جيل من التلاميذ، نشأ بفضل رعايتكم، على حب المعرفة و الاحترام للاستاذ، الذي يكاد أن يكون رسولا
je remercie mr garci qui à travers cet article a rescussité un passé que beaucoup de bizertins ont vecu .un artile qui rend hommage à si abdelhamid zammouri ,un monsieur tres chaleureux accueillant proprietaire de la librairie “”al joumhouria “”lieu ou beaucoup d eleves ,etudiants ,corps enseignant y trouvaient de quoi s approprier en livres ,meme rares soit ils,en journaux et autres articles scolaires et parascolaires .Que dieu lui reserve sa misericorde dans l au dela
شكرا سي محمد علي على هذا المقال الذي عرفنا على جانب مضيء في حياة مدينة بنزت وهو في نفس الوقت لفتة وفاء لرجل احب الثقافة والكتاب خاصة واحب مدينته واهلها
je connais très bien cette librairie, une partie de mon enfance passée à bizerte et cotoyant la librairie el joulhourya. malheureusement la librairie n’a pas su évoluer et se développer pour être à l’aire du temps je pense que si elle serait evoluer comme la culturelle par exemple, elle existerait encore…
شكرا سي محمد على كل هذه المعطيات التي قدمتها في هذه المذكرة حول أهم مؤسسة سقافية خاصة و عن صاحبها المرحوم عبدالحميدالزموري .لقد كانت من أهم المكتبات التي عرفناها في بداية النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين ، حينما كنا تلاميذ بالمعهد الفني ببنزرت . و إلى حد هذا التاريخ مازلت أحتفظ بمكتبتي الخاصة ببعض الكتب التي أشتريها من هذه المكتبة في أوائل السبعينيات . و أذكر بالخصوص أعدادا كثيرة من ساسلة عالم المعرفة الكويتية ، حينما كان سعر العدد الواحد خمس مائةمليما . و من المؤسف أن تندثر هذه المكتبة العريقة بمثل هذه السهولة .
Ya Hassra indeed, this brings back fond memories from my childhood at Bizerte. It was certainly influential to my education and was a focal point during my primary and secondary years. You take it for granted that it will be there forever. 1000 tahiyya and thank you for the post.
فعلا لفتة جميلة من سي القارصي، لست من بنزرت ولكنني أعرف نظائر لهذه المكتبة في عدد من المدن التونسية ويمكن القول بدون أي مبالغة أنها شكلت بطريقة أو بأخرى عقول وخميرة النشطاء والمناضلين الذين نجحوا في النهاية في الإطاحة بنظام القهر وسياسات التكميم. تحية لهم جميعا