بقلم إسماعيل دبارة، صحافي تونسي،
في مسيرتنا الشاقة والطويلة نحو التحرّر والانعتاق والتغيير نحو الأفضل والعيش في رفاه وأمن، نرتطم بأحجار الواقع المُعقّد والمتشابك، والتي تكون في أحيان كثيرة، أكثر صلابة من عزيمتنا وإصرارنا وقوتنا وارتفاع منسوب أحلامنا وطموحاتنا.
الناجحون ينتمون إلى الصنف الذي يفضّل تغيير المسار على تحطيم أحلامه على صخور الواقع الصلبة، فتلك الصخور والنتوءات لن تتضرر من الارتطام، ولو أنه سيؤثر فيها ولو قليلا، أما طموحاتنا فقد تُنسف وتتبدّد ونخسرها إلى الأبد.
هنا تأتي الحاجة إلى المراجعة والنقد المستمرين، والتحلي بالقدرة على التعامل مع معطيات الواقع وعناصره المفاجئة والمباغتة والتي تتجاوز قدرتنا على الاحتمال والصبر، وهنا أيضا تأتي الحاجة إلى سلوك مسارات أخرى قد تكون أطول وأكثر إرهاقا لنا، لكنها بالتأكيد أقّل كلفة من الاندفاع سريعا والارتطام ثم التفتت والفناء.
إعلام السابع
طريقة تعاملنا مع (اعلام 7 توفمر) تُثبت الحاجة إلى تغيير المسار، أو لنقل، الاستعداد لمحاولات كثيرة وسلك مسارات متعددة أملا في الوصول إلى اعلام نعتقد أنه يليق بتونس.
نقصد بـ(اعلام 7 نوفمبر) ذلك الاعلام الذي لم يعترف بهامش الحرية الذي اتيح للشعب التونسي ولصحافييه ولمؤسساته منذ التغيير الحاصل بموجب حراك 17 ديسمبر 2010، والذي بلغ مداه وأقصاه، يوم 14 جانفي 2011، تاريخ رحيل زين العابدين بن علي عن تونس، وتصدّع أركان نظامه.
وهو الاعلام الذي يُحمّله قطاع واسع من التونسيين مسؤولية كبرى في إعادتنا إلى ما قبل 17 ديسمبر في ظرف وجيز، وإدخالنا في ورطة إعادة «التجمع الدستوري الديمقراطي» إلى الحكم بعد أن رحل بالكثير من الدماء والتضحيات.
ومن مميزات ذلك الاعلام، هو تناقضه الجوهري، مع الأهداف والوظائف التي لأجلها ينشط الإعلام ويوصف بالسلطة الرابعة، ومن ذلك: تزييف الوقائع، الولاء للمال والمصالح قبل الحقيقة، التلون بألوان الطيف السبع حسب المتاح والمنفعة، ازدراء ذكاء المتلقي، والحنين إلى منظومة الدعاية السوداء.
هذا الاعلام لا يقتصر على أشخاص نعرفهم، أو مؤسسات عايشنا أدوارها سابقا، لأنه شمل بعد رحيل بن علي، وجوها وشخوصا ومؤسسات جديدة، لم تكن موجودة، وبعضها كان يحسب على «المناضلين»، لكنها تعمل جميعا وفق ذات الآليات وتستعمل ذات المفاهيم، وتتقمّص ذات الأدوار، حتى إن اختلفت ولاءاتها وأولياء نعمها، ولذلك هي تستحقّ تصنيفها ضمنها جوقة (اعلام 7 نوفمبر) الذي نعمل على تفكيكه أو الحدّ من تأثيره.
الطريق المسدود
سنتساءل الآن سريعا عن السبب الذي جعل الإعلام التونسي ينال النصيب الأكبر من النقد منذ رحيل زين العابدين بن علي، وعن السبب الذي يجعل سمعة الإعلاميين في الدرك الأسفل، وعن السبب الذي يجعل الصحافة التونسية تعجز عن استغلال الهامش الواسع من حرية التعبير الذي أتيح لها منذ انطلاق المسار التحرري صبيحة 17 ديسمبر 2010؟
من المهم الإشارة والتنصيص على أنّ البحث عن حلول ذات جدوى وقيمة تهمّ مجال الإعلام لوحده، هو حرثٌ في بحر متلاطم، ومحاولات يائسة لاستئصال جزء من ورم تفشى في كامل الجسد، ورم من الصعب أن تهزمه في عضو بعينه والحال أنه استفحل في كامل الجسم، وحتى إن فعلت وهزمته وحاصرت تمدده في عضو بعينه، فلن تستفيد من ذلك طالما أنّه يهتك ما تبقى من أعضاء حيوية للجسم.
لنقل إنّ السبب الرئيس الذي أفشل استراتيجيا إصلاح اعلام، هو محاولة عزلها عن سياق الإصلاح عامة، فهذا القطاع مرتبط بإصلاح أوضاع المؤسسة الأمنية والإدارة والقضاء والثقافة والتعليم وكل مجالات حياتنا، وهو إصلاح لم يبدأ بعد، أو بدأ بتعثّر، أو بدأ بسوء نية فتعثّر، فعدنا إلى نقطة البداية.
نحن نبحث منذ زمن عن حلول «اعلامية» منفردة لتحسين أداء إعلامنا ليصل إلى المستوى العالمي، وهذا هو المستحيل بعينه، فالإعلام التونسي، ليس أكثر من مشروع تونسي كسائر المشاريع الأمنية أو الصناعية أو الفلاحية أو التجارية أو الثقافية أو العمرانية، وهذا المشروع كما لاحظنا يدار بالمناهج ذاتها التي تدار بها بقية المشاريع، وفي المناخات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ذاتها، وبالتالي تتمثل في إعلامنا سلبيات وإيجابيات تلك الظروف التي نعيش على وقعها، وهي ظروف تمثل «حالة فشل عامة» يتخبط فيها المشروع التونسي برمته، ولا نرى له نورًا في نهاية النفق.
وعليه، من غير الممكن عزل مشروع «إصلاح الإعلام» عن كل ما تعيشه تونس من ظروف وإمكانيات ووسائل وثقافة يخضع لها كل ما يقع فوق أرضها وتحت سمائها، وإن كان هذا لا ينفي بتاتا أن للإعلام ظروفا خاصة ينفرد بها، أو «مشاكل خاصة» قد تميزه عن بقية المشاكل التي تواجه قطاع الرياضة مثلا أو الثقافة أو الأمن أو القضاء… إلخ.
بالنتيجة، على كل من يتحلى بالشجاعة للتقدم لإصلاح الإعلام التونسي، أن يكون واعيا بأنّ المسيرة تتطلّب سياق إصلاح شامل، لا معنى للعمل ضمنه إن لم تسر فيه العملية بذات النسق والصدق في كل القطاعات ذات الأهمية القصوى أو الأقل أهمية، بشكل متوازٍ ودقيق ومتزامن، فالإصلاح صيرورة وإرادة قوية قبل كل شيء، ومن الصعب جدا تحقيق الإصلاح في مجالات دون أخرى نظرا لترابط وتكامل وتشابك المصالح والأدوار والأهداف في الدول الحديثة، وما دون ذلك، هو سير في طريق مسدودة بصخور صلبة لا تقهر.
ملامح الانكفاء
يتعامل الصحافيون مع دفقِ أخبار آنية لا وجود لقوة في الأرض تبدو قادرة على حصرها وتحليلها والتثبت من مصداقيتها، ويخلّف هذا السياق الذي يشتغل فيه الصحافيون في تونس -على افتراض حسن النية- ضغطا مضاعفا، يجعل هامش الخطأ يتسع يوما بعد يوم.
لكن، ما يُبذل من جهد ووقت ومال ومداد وموائد تُمد وتُطوى، وتدبيج لمواثيق أشهر المؤسسات الصحافية واسقاطها على ما لدينا، ومؤتمرات وندوات وملتقيات في الفنادق ومقار المنظمات، وفي أروقة الحكومة والأحزاب حول موضوع إصلاح الإعلام منذ أكثر من 4 سنوات، لم يعف بعض الصحافيين من الوقوع فيما يعرف بـ«الأخطاء البدائية».
وما يجري يكشف بوضوح أن طريقة المعالجة السابقة تُحصّل إلى الآن صفرا مستديرا لا يتناغم بتاتا مع كل ذلك الجهد والمال العمومي والخاص المهدور في «إصلاح الإعلام».
الكثير من «الأخطاء البدائية» التي يرتكبها الصحافيون اليوم، هي نتاج عقلية (إعلام 7 نوفمبر) الذي نروم مواجهته بطرائق جديدة، فاجتزاء مقاطع الفيديو وبث الإشاعات أو تقاسمها أو الترويج لها أو التعليق عليها، لا يمكن أن يكون فقط «انعدام كفاءة» أو «ضعف تجربة» حتى نعالجها في سياق «الأخطاء المهنية» المألوفة، ومع تكرر هذا الصنف من التجاوزات، نكون أمام صحوة غير مسبوقة لإعلام 7 نوفمبر الذي انفرد طوال سنين بهذا النوع من العمل.
لم تكن النتائج بكل حال على قدر ما بُذل من جهد من طرف الصحافيين النقابيين، أو الهيئة التعديلية التي تشرف على القطاع السمعي البصري التي تتخبط في مشاكلها، أو مديري الصحف والدوريات أو المنظمات التي تعنى بالصحافة وحرية التعبير، أو من الحكومات المتعاقبة، ونعتقد أن ذلك يعود إلى تناول مسألة «اصلاح الاعلام» من المدخل الخطأ، أي تصور وجود حل منفرد وخاص لكل خطأ من الأخطاء التي يمارسها الصحافيون بمعزل عن السياق العام الذي يتحكم في كل جوانب حياتنا، ونعني تحديدا أفكارنا وأساليب إدارتنا لمشاكلنا، وهي إدارة لم تنتقل بعد إلى العصر ولا تبدو متوافقة مع روحه.
ما العمل إذا ؟
تختلف التقييمات كثيرا حول مسيرة أكثر من 4 سنوات مما يسمى ورشة «إصلاح الإعلام التونسي»، وحتى إن كانت المحصلة هزيلة للغاية، ومازال الإعلام يثير حفيظة السياسيين والمواطنين والعاملين فيه أيضا، فإن ذلك لا يعني ضرورة التوقف عما بدأناه. فكل الجهود التي بذلت هي حلقات من سلسلة تنقصها حلقة مفقودة على غاية من الأهمية، وهي أن عملية إصلاح صاحبة الجلالة تحتاج سياقا متكاملا ينشد الإصلاح ويقتنع به، سياق يعمل جاهدا على الخروج بثقافتنا وسلوكاتنا وانتظاراتنا مما نحن عليه اليوم، ومن ذلك تغيير الصحافي (بثقافته وسلوكه) وتغيير الجمهور أيضا (بثقافته وسلوكه).
يقال على نطاق واسع إنّ «كل شعب يحصل على الحكومة التي يستحقها»، وبقياس بسيط، يمكن القول إنّ «كل شعب يحصل فقط على الاعلام الذي يستحقه».
الإعلام هو خير مرآة لنا، ليس فقط لأن القائمين عليه بعض منا ونحن منهم وإليهم، ولكن لأنه بشكل أو بآخر ينتج ما نستهلكه نحن، وبالتالي لا بد وأن ينتج هذا الاعلام ما يرضينا حتى لا تبقى بضاعته كاسدة، ومن نكد العيش أن نخلص إلى هذه النتيجة، أي أن ما يُبث حاليا هو «ما يرضي جمهورنا» !
هذا المعطى قد يفسر – مع الكثير من الحزن والأسى- كيف امتلكت تونس آخر وكافة منجزات التكنولوجيا الإعلامية، وكادرا بشريا ذكيا، وإمكانات مالية هامة، لكن كل ذلك يوظف للدعاية والتلفيق وتملّق المسؤولين والسياسيين في الحكم والمعارضة، ونشر ثقافة التحايل على القوانين والكذب والارتزاق والتواكل والولاء لمن يدفع أكثر، إلى درجة أن أكبر الفضائح أمام المحاكم حاليا «أبطالها» صحافيون تفترض فيهم الاستقامة ونشر ثقافة المواطنة الصالحة.
الطريق الأسلم
مواجهة (اعلام 7 نوفمبر) بالتعاطي بالشكل الذي اشرنا إليه، أخذ منا خمس سنوات من الجهد والمال والوقت، وهذا الطريق الذي يعتقد كثيرون في صوابه، مكلف للغاية ويصطدم يوميا بانتصارات (اعلام 7 نوفمبر) الذي يتغذى على الرداءة والمال واللوبيات التي لن تجد أي مصلحة في اقامة اعلام ديمقراطي حر ومسؤول وقوي.
وربما حان الوقت لتغيير الوجهة، أو على الأقل، فتح جبهة ثانية ضده تكون بقلب الآية، والعمل وفق منهج «تغيير الجمهور عوضا عن تغيير الاعلام»، أي أن نصل في النهاية إلى تكريس ثقافة متأصلة لدى التونسيين تسمى مثلا «ثقافة التعامل مع وسائل الاعلام»، وبهذه الثقافة، التي تكون ركائزها القدرة على التمييز بين الغث والسمين في ما يبثّ من معلومات والتعاطي النقدي معها، ستنهار منظومة (اعلام 7 نوفمبر) تدريجيا وطوعا لأنها غير مؤهلة على التعامل مع جمهور يملك مقومات معالجة الرسالة الاعلامية بنفسه، ويتحلى بالفكر النقدي ويملك مقومات التمحيص والتثبّت والتساؤل والشك والتفاعل الايجابي، وينظر إلى الوقائع بمنظوره هو كمواطن واع ومسؤول لا من منظار من يتصدرون المشهد حاليا ويدعون الوصاية على الحقيقة وعلى العباد.
حلول ممكنة
ناضل طلاّب معهد الصحافة وعلوم الإخبار كثيرا من أجل فرض مادة «التربية على وسائل الاعلام» منذ الصفوف الابتدائية وحتى الوصول إلى الجامعة، ورغم أن الغاية الأساس من ذلك المقترح كان استيعاب العدد الهائل من الصحافيين العاطلين عن العمل حينها، إلا أن الفكرة مع بعض التطوير قد تكون حلا للتصدي لثقافة التلقي السلبي لرسائل (اعلام 7 نوفمبر) التي استطاعت الانحراف بمسار التحرر الى ما نحن عليه اليوم من عودة غير مسبوقة لوجوه الصفيح في السياسة والاعلام والبوليس والقضاء والمحاماة والإدارة وغيرها من القطاعات.
وهذا الحلّ المتاح، يحتاج كما أشرنا سابقا إلى وجود ورشة مفتوحة حول إصلاح التعليم، تسير بالتوازي مع ورشة إصلاح الاعلام، واقتناعا من أهل الذكر بأنّ إدراج مادة كهذه ضمن المقررات التربوية سينتجُ جيلا قادرا على وقف التلاعب بالعقول والمشاعر من طرف الإعلاميين المرتزقة والمؤسسات الاقتصادية والبوليسية الفاسدة التي تبرز في شكل «ميديا» تتغول يوما بعد يوم مستفيدة من حملة تجهيل وتجريف استهدفت التونسي في عقله وعاطفته ووجدانه.
من الحلول الممكنة الأخرى، التي قد تساعد التونسيين على كبح جماح تغول اعلام «الاجتزاء» و«التلفيق» و«التخويف» و«الدروشة» و«الكنوز»، تشكيل جمعيات تحمي الجمهور من سطوة الاعلام، بعد أن تم تشكيل جمعيات ونقابات تحمي الصحافيين من البوليس والأعراف. ويمكن لهذه الجمعيات أنّ تستفيد من الأخطاء الشائعة التي اقترفها (اعلام 7 نوفمبر) لدراستها وتقديمها في قالب سلس وبسيط للمهتمين بتغيير تعاطيهم مع الرسالة الإعلامية وللمقتنعين أن وقت التغيير قد حان.
يمكن كذلك للمحامين والمهتمين، النضال من أجل تقريع ممارسات يرتكبها صحافيو (اعلام 7 نوفمبر) بشكل يومي وتمضي دون عقاب، كترويج الإشاعة ونقلها والتعليق عليها وإعداد البرامج على أساسها أو التشهير بالمخالفين وهتك أعراضهم والتدخل في خصوياتهم، فالتنديد المستمر بالتجاوزات أمام الرأي وعبر كل منبر متاح، يجعل جمهور (اعلام 7 نوفمبر) يتقلّص باستمرار ويتلمّس طريقه نحو الشكّ في ما يصله من أخبار وأرقام ومعطيات.
يمكن أيضا استغلال المنابر الإعلامية التي لا تُصنف ضمن صحافة 7 نوفمبر للتعليق على مصداقية ما يُنقل، والاستفادة من بعض التجارب على مواقع التواصل الاجتماعي، التي يعود لها الفضل عادة في الكشف عن نقل جزء من الحقيقة وفضح «الاجتزاء» و«التلفيق» و«اخراج الأحداث من سياقها» أو الترويج لأحداث سابقة على أنها وقعت حديثا أو استعمال صور ومقاطع فيديو قديمة في أحداث لا تمت لها بصلة…إلخ.
نحتاج حقا إلى تغيير ثقافة جمهور الصحافة التونسية بشكل ثوري، ونحتاج حقا إلى تكوينه وتدريبه على مواجهة التوجيه والتزييف والتلفيق الذي يتعرّض له منذ عقود، فالوضع لم يعد يحتمل أو يطاق طالما أنّ المواطن البسيط تساوى مع الأستاذ الجامعي والسياسي والنقابي اليوم في التقبل السلبي لرسائل الإعلام، والتورط في الترويج للتزييف والإشاعات، بل والدفاع عنها أحيانا !
ستكون ثورة صحافيينا على ذواتهم وثورة الجمهور على ما يعتقد أنها ثوابت وحقائق، نقطة تحول حقيقية في مسيرة طويلة توقف الانحدار المهني والأخلاقي الذي يعيشه الإعلام التونسي المعادي لحرية شعبه، وتؤسس لصحافة محترمة بديلة تنير دربنا الشائك وتساعد الملايين على تلمّس طريق الرفاه والنهضة والالتحاق بركب العالم السعيد وتطليق الفوضى والعشوائية والتخلّف.
مقال جيد لكنه طويل و قراءته بالكامل تفقده النكهة.
زيدو النكهة يا سمعول
عزيزي الكاتب، لقد قرأت مقالك بكثير من الاهتمام. ويمكنني ملاحظة بعض التناقضات في ثناياه ولعلّ أهمها “موقف هذا الشعب من إعلام الشابع -بالشين- من نوفمبر”، حيث تقول تارة أنّ “الاعلام [النوفمبري هو] الذي يُحمّله قطاع واسع من التونسيين مسؤولية كبرى في إعادتنا إلى ما قبل 17 ديسمبر في ظرف وجيز، وإدخالنا في ورطة إعادة «التجمع الدستوري الديمقراطي» إلى الحكم بعد أن رحل بالكثير من الدماء والتضحيات” و “مازال الإعلام يثير حفيظة السياسيين والمواطنين والعاملين فيه أيضا”، بينما تستدرك لاحقا لتقول “يقال على نطاق واسع إنّ «كل شعب يحصل على الحكومة التي يستحقها»، وبقياس بسيط، يمكن القول إنّ «كل شعب يحصل فقط على الاعلام الذي يستحقه». الإعلام هو خير مرآة لنا، ليس فقط لأن القائمين عليه بعض منا ونحن منهم وإليهم، ولكن لأنه بشكل أو بآخر ينتج ما نستهلكه نحن، وبالتالي لا بد وأن ينتج هذا الاعلام ما يرضينا حتى لا تبقى بضاعته كاسدة، ومن نكد العيش أن نخلص إلى هذه النتيجة، أي أن ما يُبث حاليا هو «ما يرضي جمهورنا» !”. ووجه التناقض في هذين الموقفين أنّك تارة تُحمّل مسؤولية رداءة وانحطاط وفساد الإعلام (النوفمبري) للإعلاميين وتارة أخرى تجعل من المواطنين (الناقدين) أصل تلك الرداءة والانحطاط والفساد. وإن كنت أعتقد أنك تقصد ب”الموطنين الناقدين” قلة قليلة من الشباب الذي يتوفر على حد أدنى من الوعي والثقافة لكنه غير مؤثر وغير ناجز في واقع المجتمع على عكس الأغلبية السوداء من شعبنا المتخلف المغرق في الرداءة والجهل والزبونية. ورأيي المتواضع يتّسق مع موقفك الثاني القاضي بأنّ هذا الإعلام النوفمبري المنحط هو مرآة لمجتمعنا الذي لا يزال يقبع في أسفل درك من الرداءة والتخلف، بل وأقول أنّ واقع الحال يُنْبئنا بوجود دائرة مفرغة تغذّي نفسها بنفسها ويصعب جدا كسرها، حيث أنّ رداءة وتخلف والقيم الهابطة لمجتمعنا المنفصم عن صيرورة التاريخ الإنساني الحديث تغذّي كل مؤسّسات الدولة والمجتمع (ومن بينها الإعلام) بحجم كبير من الرداءة والفساد والزبونية والرذائل الخام التي تقوم لاحقا هذه المؤسّسات -وعلى رأسها الإعلام ووسائل “الترفيه”- بتصنيعها وتعليبها وضمان إستهلاكها من قبل نفس المجتمع ونفس الجمهور فتزيد الطين بلّة وهكذا دواليك. ومع الانهيار المتواصل وغير المسبوق لمناعات المجتمع وعلى رأسها التعليم والوازع الذاتي (الأخلاقي، الديني والقانوني) والأمراض المزمنة التي أصابت مختلف المؤسّسات الأهلية والأساسية في المجتمع (الجامعات، المدارس، المنظمات غير الحكومية، المساجد، الفضاء العام بصفة أشمل، إلخ) فقد كبرت هذه الدائرة المفرغة بسرعة ككرة الثلج وأصبح الوقوف في وجهها أشبه بالانتحار
أما فيما يخصّ الحلول التي قدّمتها فرغم أنها نظريا معقولة إلا أنها عمليا تحتاج إلى كثير من المال والموارد البشرية وتفترض أولا وجود مخطّط علمي لإستهداف “المجتمع الرديء” لإصلاح ما فسد في عقله النقدي المتهافت ووعيه المزيّف، وثانيا، تفترض أنّ نظام الشابع من نوفمبر ومؤسّساته الفاسدة (وفي مقدّمتها إعلام الحجّامة) سيسمحون لأصحاب هذا المخطّط أن يستهدفوا الناس بكل حرية وأريحية. وهذا في رأيي صعب المنال خصوصا مع التراجع الحثيث الذي شهدته البلاد في الأشهر الأخير في منسوب الحرّيات (وعلى رأسها الاستهداف الممنهج والمستمرّ لحرية التنظّم والتعبير)، إضافة إلى حزمة القوانين الضاربة للحريات (بكل ديموكراسية العربان) التي بدأت بقانون المجلس الأعلى للقضاء وستتواصل مع قانون مكافحة الإرهاب وقانون حماية كلاب ليلى ومن يدري ما ستفرزه القريحة الدكتاتورية المريضة لنظام فاسد ومستبدّ -دائما وأبدا- عودنا بإبداعه منقطع النظير في القمع والتشويه. وعلى سبيل المثال، تحتاج فكرة إدراج مادة «التربية على وسائل الاعلام» لتعاون وتفهّم وإرادة سياسية وإدارية من وزارة التربية ومجموع الإطار التربوي الذي يتكتل في نقابات هي آخر من يرغب في إصلاح وضع المدرسة في هذا البلد المنكوب بأهله الجهلة الوقحين. فهل تعتقد أنّ ذلك المأفون المدعو ناجي جلول، وزير “التربية” عن نداء التجمع، والذي لا تعرف له كفاءات أو مؤلفات أو فكر مستنير غير دعواته للانقلاب وحروبه المؤدلجة على خصومه تحت ذريعة “محاربة الإرهاب” في نفس وسائل بروبغندا الشابع من نوفمبر. هل تعقتد أنّ رجلا بهذه المواصفات قد يتجاوب مع فكرة كهذه من أجل حماية وتحصين وعي الأجيال القادمة من خطر التلاعب والدمغجة والأدلجة سواء القادمة من الاستبليشمانت أو من رأس المال أو الجهات الخارجية أو غيرها في زمن أضحى الأمن الإعلامي والتواصلي جزءًا من الأمن القومي لكل بلد؟ هل تعتقد أنّ أحد أزلام نظام الفساد والاستبداد قد يسمح بما يمثل خطرا وتهديدا لسلطة وسطوة وحظوة نظامه وأولياء نعمته؟ مجرّد الأمل في ذلك يعدّ غباءً بيّنًا وهو تماما كالإعتقاد بأنّ بني اخونج قد يتخلّون يوما عن توظيف الدين وتجيير مؤسّساته لخدمة غاياتهم السياسوية الدنيوية الفئوية المقيتة وإشباع شهاوتهم المريضة للسلطة
لست أقول هذا لإحباط عزائمك وعزائم القلة النادرة من الصادقين الذين يرغبون في فعل أي شيء لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ويرفضون الاستسلام للهزيمة الكبرى التي جرّعنا مرارتها شعبنا الجاهل والمتخلف الذي اختار طائعا ذلّ العبودية وعار التبعية على شرف الكفاح من أجل العزّة والاستقلال، وإنّما في وضعية مشابهة لوضعيتنا حيث المجتمع محافظ، رجعي، ويعاني من كل أوجه الانحطاط والرذائل فإنّ أي جهد للإصلاح يحتاج لدارسة عميقة ليس فقط للجهة المستهدفة وإنما أيضا بالواقع المحيط بها، البعيد قبل القريب. وإنني أرى أنّ هناك حاجة ملحّة لدراسة هذا الواقع بعناية على طريقة عبد الرحمان الكواكبي ومالك بن نبي في عصريهما للإحاطة بالمداخل الممكنة لأيّ إصلاح ليس فقط على مستوى إعلام الشابع من نوفمبر (وهو في نظري في حاجة إلى الهدم الكامل لا الإصلاح بأية وجه من الوجوه)، وإنما في كل مناحي الحياة وفي مقدمّتها المواطنة والتعليم وتنظيم العمل والمشروع الحضاري المطلوب لبلدنا المنكوب بالفساد والاستبداد والزبونية والانتهازية. والسلام
في المقال ملاحظات وجيهة عن تردي الإعلام التونسي في مستنقعات أقل ما يقال فيها إنها تكرّس الاستبداد ــ وتثير الغثيان عند بعض المحظوظين من أهل الذوق ـ غير أني أرى في التشخيص وفي الحلول قصورا ألخّصه باقتضاب شديد في إشارة وسؤال
ـ إن تسمية “إعلام ٧ نوفمير” اختزال لا مبرر له والحال أنّ الداء متقادم تقادم ثقافة الاستبداد التي بنيت عليها ثقافتنا العربية الإسلامية برمتها. فقبل الدكتاتور الهارب، كان دكتاتور آخر انبطح له الإعلام واستكان، وقبله كان بايات وكان استعمار انبطح لهم أهل الحلّ والعقد، وقبلهم كان وكان
وفي كل الحقب كانت ثقافة ذلّ واستكانة وصغار للأمير والسلطان والخليفة قوامها جنود، من عساكر ورجال دين ومدّاحين وأنصاف مدّاحين
فالداهية ليست في إعلام طرأ علينا منذ ما يربو عن القرن، بل في بلية ثقافية أساسها السلطة والتسلّط، نتمسّك بقيودها بل نعتدّ بها لأنها في قول المتسلطين ومتسلطي المتسلطين ـ وكلنا متسلّط، وكلّ متسلّط مسؤول عن… ـ “هوّيتنا” و”شخصيتنا” وكلمات بائسة أخرى لا وجود لها في غير تسميتها
وما يقال عن بلدنا الصّغيّر ينجرّ على سائر أصقاع العالم حيث تسود ثقافة العرب والمسلمين
ــ ما العلة في سكوت المقال عن الأثر الجليّ للمال وأصحاب المال في الإعلام ؟
هناك إشارة في المقال، بل ومضة، تذكر الــ “إمكانات [الـ]مالية [الـ]هامة” لكنها لا تربط الأسباب بالنتائج البادية للعيان، بل ترى على العكس من ذلك أنّ في هذه الإمكانات حافز خير وصلاح وصالح مواطنة
لنحلم قليلا : لو قدّر لأعوان الإعلام أن يكونوا مسؤولين عن وسائل إعلامهم على حدّ سواء وأرباب الإعلام، أن تكون كلمة أولئك في وزن أموال هؤلاء، أن يمتلك الصحافيّ مساواة ـ أو مقاسمة كما تقول البنوك الإسلامية ـ صحيفته وإذاعاته ومؤسسات تلفزته ؟ أو أن يكون للدولة هي الأخرى ـ وقد دمقرطت دواليبها و طهّرت مؤسساتها ـ نصيب في الإعلام ومسؤولية فيه وعنه ؟
أفليس الإعلام في النظام الديمقراطيّ السليم من جنس التربية والصحة والأمن والدفاع، مرفقا عامّا متى ما استأثرت فئة قليلة به انقلب محنة ووبالا ؟