لم نكن نقصد الكتابة عن السجون ولا عن السيد الوزير لولا الزيارة الفجئية التي أدّاها السيد محمد صالح بن عيسى تحت الأضواء الى سجن صغير لا يتعدى عدد السجناء المودعين به العشرات – حسب ما أفادت به الوزارة – وهو سجن الرابطة بالعاصمة.
دامت الزيارة الاستثنائية يومين حيث لم يكد الوزير يغادر مقر السجن يوم 26 أوت الجاري حتى عاد اليه بعد يوم.
في البداية ظهرت الصور الحية التي تركّز على “البالوعة ” و “أواني الطبخ ” والوزير الغاضب وسط المسؤولين والأعوان بالسجن وهم يهرولون في حالة اندهاش. “جايين ناخذو في الشهاري متاعنا والدنيا امسخه بكلها ” – هكذا قالها الوزير – قبل أن يضيف وهو ينظر الى البالوعة “وهذا محلول لتوا يحبلو قداش باش يتقد شهر زاده” ثم تسلط الكاميرا أضواءها على أواني المطبخ ليطلق الوزير قولته التي أصبحت شهيرة “هاذي مش كوجينة أنا نسميها.. هاذي مزبلة… قاعدين ادورو في صوابعكم والوسخ والدنيا عافنة …”
اثر ذلك صدر البيان الأوّل عن وزارة العدل متضمّنا ان وزير العدل السيد محمد صالح بن عيسى أدّى صباح اليوم” زيارة فجئية إلى سجن الرابطة بالعاصمة، وقد عاين الوزير ظروف إيداع السجناء و الخدمات الصحية والغذائية المقدمة إليهم.
وقد عبّر الوزير عن شديد استيائه من حالة المطبخ الذي تُعد فيه الوجبات الغذائية ودعا القائمين على السجن إلى تحمل مسؤولياتهم في أداء واجبهم تجاه السجناء وبذل قصارى جهدهم لتحسين الوضعية القائمة، مؤكدا أنه سيقوم بزيارة تفقّد ثانية لمعاينة مدى الاستجابة لتجاوز النقائص المسجلة في هذه الزيارة “.
ويلاحظ تعليقا على هذا البيان أنّ القول بأنّ المطبخ ” تعدّ فيه الوجبات الغذائية” هو من باب الحشو فضلا عن أنّ البيان قد سها عن ذكر البالوعة كما حاول نفس البيان التخفيف بلغة فصيحة من الصيغ المستعملة في الخطاب المتشنج للوزير كذكر المزبلة وتدوير الاصابع والعفونة العامة الموجودة بالسجن…الخ
لكن التزاما بما تعهد به وزير العدل السيد محمد صالح بن عيسى بالعودة إلى سجن الرابطة زار عصر يوم 27 اوت الجاري السجن المذكور – حسبما ورد في البيان الثاني الصادر عن وزارة العدل في نفس التاريخ – وحرص السيد الوزير “على متابعة مدى تدخل إدارة السجن للحدّ من الحالة المتردّية لوضعية المطبخ الذي يتم فيه إعداد الوجبات الغذائية (كذا) لكل من السجناء وأعوان السجن على حد سواء”
وجدير بالذكر- حسب البيان – أن السيد الوزير ” قام ..بمعاينة التدخلات العاجلة والتي كانت ناجعة لتجاوز النقائص فيما يتعلق بالنظافة داخل السجن، لافتا نظر مسؤولي إدارة السجن أنهم ليسوا في حاجة لانتظار الوزير للزيارة والتدخل، معبّرا لهم في ذات الوقت عن رضائه على سرعة التجاوب والتفاعل لتدارك النقائص.”
ويلاحظ أنّ التنويه من قبل وزارة العدل قد طال في ظرف ساعات اولا مسؤولي ادارة السجن عن التدخل العاجل والناجع وسرعة التجاوب والتفاعل وثانيا السجن الذي استعاد وضعيته الطبيعية بعد تجاوز النقائص فيما يتعلق أساسا بالنظافة وأخيرا التنويه بالوزارة التي تسعى حسب البيان المذكور “إلى تطوير المنظومة السجنية وتحسين الأوضاع بالوحدات السجنية التونسية”.
غير أنّ هذه الزيارة التي تناقلت أخبارها وسائل الاتصال – صوتا وصورة – لم تقنع بالأساس المدافعين على المنظومة السجنية وكذلك نقابة السجون رغم أنّ حصة حوارية بأحد البرامج المنقولة بإذاعة الشباب قد أعدّت للحديث عن النقائص في المؤسسات السجنية خاصة بعد زيارة وزير العدل محمد صالح بن عيسى إلى سجن الرابطة بالعاصمة والإجراءات المطلوبة لإصلاح المنظومة السجنية في تونس.
وفي هذا الخصوص يمكن أن نقرأ في بعض التدوينات الخاصة أنّ “وزير العدل يتوجّه إلى السجن المدني بالرابطة وينتقد مطبخ السجن ويفلم (وهو لفظ عامي يفيد الاستعراض على طريقة الافلام) ويلقي اللوم على الأعوان العاملين بالوحدة. والحقيقة أن لا لوم على الإطارات والأعوان العاملين بالسجن بل اللوم على الإدارة العامة للسجون والإصلاح وخاصة مصلحة البنايات ومدير المصالح المشتركة بالإدارة العامة ومستشار وزير العدل المكلف بالسجون والإصلاح. “(وليد زروق) وكذلك يمكن ان نسمع أنّ وزير العدل أهان أعوان سجن الرابطة بالعاصمة و عليه أن يعتذر وأنّ ذلك “عيب مايتقالش” (اذاعة الشباب من حوار مع الفة العياري الكاتبة العامة لنقابة السجون والإصلاح).
غير أنّ هذه المواقف قد تكون متوقّعة ممّن دأب على متابعة أوضاع السجون أو نذر نفسه للدفاع عن زملائه لكن على خلاف ذلك يبدو مستغربا تداخل احد الوزراء السابقين – وهو السيد نضال الورفلي الذي شغل في حكومة السيد مهدي جمعة منصب وزير لدى رئيس الحكومة مكلف بتنسيق ومتابعة الشؤون الإقتصادية والناطق الرسمي للحكومة – الذي علّق في صفحته الخاصة بالفايسبوك وفي نفس يوم الزيارة على سلوك وزير العدل قائلا – في عبارات شديدة وبلغة فرنسية مباشرة – “لماذا نأتي خلال الزيارات الميدانية أو المنظمة بالات الكاميرا ونشرع في اهانة المسؤولين ؟ كما لو اننا نكتشف اليوم وتحت تاثير المفاجاة حجم الكارثة و/او وضعية “مطبخنا الداخلي” و نوعية الخدمات. هي نظرية شعبوية تعتمد على مبدأ “العقوبة و الخوف”. أنا أؤيد تماما القيام بزيارات ميدانية لكني أرى أنّ الملحوظات وتحميل المسؤوليات وكذلك الحلول لتحسين الاوضاع يجب أن تتمّ بمعزل عن الات التصوير”.
لا شك أنّ السيد وزير العدل قد أصيب بالدهشة عند قراءته لهذا التعليق وبطبيعة الحال لم يكن مسرورا بأن يتجرّأ عليه أحد المسؤولين السابقين ويصف زيارته “المفاجاة” بنعوت لا تليق وهو ما يبرّر الردّ العنيف الذي صدر عن وزارة العدل بتاريخ 27 أوت الجاري في صيغة ” توضيح من وزير العدل حول زيارته الى سجن الرابطة”.
ويتّضح أنّ هذا الردّ الغريب لم يكن موجّها فقط للوزير السابق – الذي تمّت الاشارة اليه – بل استهدف أيضا الردّ على غيره من “المشككين” دون أن يسمّيهم إن لم يكن قد تجاهلهم.
فرغم أنّ صدور التعليق لا شك فيه يورد الوزير في توضيحه ” ردّا على بعض التعاليق وخاصة ما يبدو أنها صدرت عن الوزير المكلف بالملفات الاقتصادية في حكومة مهدي جمعة.. أنّ الزيارة التي أدّاها إلى سجن الرابطة وما صدر عنه من غضب واستياء إزاء الأوساخ المتراكمة خاصة في مطبخ السجن ليس فيها أي إهانة لأعوان السجون، الذين يكنّ لهم كل التقدير والاحترام،.. وأنّ تصرفه لا يمت بصلة للشعبوية و أنّه لا يتلقى دروسا أخلاقية من أي كان. وأنّ ما قام به يتنزل في إطار السعي إلى تحسين واقع المنظومة السجنية وضمان الحد الأدنى من احترام كرامة الإنسان في معاملة السجناء. وخير شاهد على ذلك انه بعد الزيارة الثانية التي تمّت عصر اليوم(27-8-2015) ومعاينة التدخلات العاجلة والناجعة شكر الأعوان وعبّر لهم عن عميق تقديرهم لتحمّل مسؤوليتهم في تدارك النقائص ونبّههم مجدّدا إلى عدم انتظار الزيارات الوزارية الفجئية لتدارك النقائص التي تشوب تسيير الوحدات السجنية”.
ومن الواضح أنّ هذا التوضيح لم يشر الى غضب الوزير على المسؤولين – الذي ورد في كلام الوزير السابق – وأكد في المقابل على براءة وزير العدل من اهانة الاعوان الذين يكنّ لهم كل الاحترام. لكن يبدو من الثابت بمكان ان نفي الشعبوية و رفض الدروس الاخلاقية كانا موجهين بصفة مباشرة الى السيد نضال الورفلي الذي طالب الوزير ضمنيا بأن يتجنب تحميل المسؤوليات و استعراض الحلول تحت ضوء آلات التصوير.
لكن يمكن لنا – في هذا السياق – أن نتساءل هل كان السيد الوزير مضطرا الى الردّ في كل مرة عن التعاليق المختلفة طالما كان واثقا من أهمية الزيارة ونجاعتها؟ .
وهل كان من المناسب أن يؤكد “أنّ زيارته الميدانية إلى سجن الرابطة لا تصب في خانة الدعاية السياسية كما يروج لذلك البعض، و أنه لا يمارس السياسة ولا ينتمي لأي طرف حزبي وأن هدفه إصلاح أوضاع السجون” (في حوار لصحيفة التونسية بتاريخ 27-8-2015)؟.
وبعيدا عن كل اتهام هل يمكن القول أنّ الزيارة – سواء كانت فجئية أو منظمة – قد حققت أهدافها المرجوة؟
يظهر ان الاهداف نفسها لم تكن في مستوى ما يرجى من تطوير المنظومة السجنية وان تشخيص الوضع الصعب للمؤسسات السجنية يبدو هدفا بعيد المنال.
ربما يكون من الضروري الوقوف على الاخلالات المرتبطة بخدمات النظافة و الصحة لكن واقع السجون يبقى اكثر تعقيدا.
وبالمناسبة لا شك ان السيد الوزير يعلم اكثر من غيره ان ذلك السجن – كغيره من السجون – يخضع لرقابة قاضي تنفيذ العقوبات الذي يتولّى طبق القانون مراقبة ظروف تنفيذ العقوبات السالبة للحرية المقضّاة بالمؤسسات السجنية (الفصل 342 مكرر من مجلة الاجراءات الجزائية). وأنّ قاضي تنفيذ العقوبات يزور السجن مرة في الشهرين على الأقل للإطلاع على أوضاع المساجين (الفصل 342 ثالثا من نفس المجلة ) وأنّ لقاضي تنفيذ العقوبات أن يطلب من إدارة السجن القيام ببعض الأعمال التي تقتضيها الرعاية الاجتماعية للسجين(نفس الفصل السابق).
كما يحرّر القاضي تقارير يحيلها على وزير العدل تتضمن ملاحظاته واستنتاجاته ومقترحاته (الفصل 343 من نفس المجلة).
فهل تفطن الوزير الى وجود القاضي؟ وهل قرأ قبل أن يخرج الى زيارة السجن التقارير التي وجّهها اليه قاضي تنفيذ العقوبات بسجن الرابطة؟
وهل تأمّل السيد الوزير في النتائج التفصيلية للزيارات الدورية التي قام بها القاضي في المدة الأخيرة؟ وهل توقف عند ملاحظاته واستنتاجاته ومقترحاته العامة و الخاصة؟
وهل نسي أن يراجع القاضي قبل أن يبدأ زيارته الفجئية ؟
ربما كان من المحتمل أن يعثر بتلك التقارير – بل من الأكيد أن يعثر – على تشخيص حقيقي للاخلالات التي تتجاوز حدود المطبخ لتطرح اشكالات اضافية أكثر فداحة؟
أرجو أن لا يكون السيد الوزير قد سها فعلا عن قراءة تلك التقارير أو أخطأ مساعدوه في إحالتها عليه وإلا سيكون مضطرا لزيارات أخرى لا تخص فقط إعداد الوجبات في مطبخ السجن؟
باردو في 28 أوت 2015
iThere are no comments
Add yours