presse-liberte-freedom-gandi-mandela

بقلم علي أنوزلا

حرية الصحافة لم توجد في أي يوم من الأيام في أي بلد من بلدان العالم العربي، حتى في تلك التي كانت توصف بأنها أكثر حرية وليبرالية في المنطقة مثل لبنان، لأن جميع وسائل الإعلام فيها كانت ومازالت مملوكة لجماعات ضغط سياسية دينية وطائفية أو ممولة بالكامل من دول الخليج أو من إيران.

أما في باقي الدول العربية فإن أغلب وسائل الإعلام كانت إما مملوكة مباشرة للدولة، مثال: دول الخليج ومصر وسوريا والعراق، أو مملوكة للدولة ولأحزاب المعارضة الرسمية مثال: دول المغرب العربي واليمن والسودان وموريتانيا. لكن في كل هذه الدول وبالرغم أن إعلامها كان يمول من أموال دافعي الضرائب أو من خزائن الدولة، إلا أنه لم يكن إعلاما عموميا يقدم خدمة عمومية، وإنما كان ومازال إعلاما رسميا يخدم البروباغندا الرسمية للأنظمة والأسر الحاكمة في هذه الدول.

أما الإعلام الخاص في هذه الدول، ولا أقول الحر أو المستقل، فهو ذاك الإعلام الذي لم يكن مملوكا مباشرة للدولة، يملكه أمراء أغنياء في دول الخليج، أو رجال أعمال موالين للسلطة في بعض الدول الرآسية مثل مصر وتونس، أو تملكه أحزاب معارضة لكنها لا تشكك في شرعية أنظمتها، أو خواص موالين للسلطة نماذج: المغرب والجزائر وموريتانيا واليمن والسودان.

وفي كل هذه الحالات ورغم تعدد وسائل الإعلام وتنوعها فهي لم تكن مستقلة عن سلطة الحاكم، وسلطة صاحب رأس المال الموالي للحاكم، وسلطة الحزب المعارض من داخل نظام الحكم.

أما الصحافة المستقلة، فكانت ومازالت عملة نادرة في منطقتنا العربية.

وطيلة العقود الماضية حكمت الأنظمة الملكية المطلقة، والأنظمة السلطوية والدكتاتورية شعوب المنطقة العربية من خلال التحكم فيها والهيمنة على السلط الثلاث داخل دولها: التنفيذية والتشريعية والقضائية، أما سلطة الإعلام فكانت ومازالت مجرد آداة للبروباغندا الرسمية في أكثر من دولة عربية.

وغير خاف على خبراء الإعلام أن من يملك المعلومة ويتحكم فيها ويعرف كيف يوضفها لصالحه، فهو الذي يملك السلطة الحقيقية. ومن خلال تملكها لهذه السلطة شيدت الأنظمة الدكتاتورية العربية جدارا من الصمت حكمت وارهبت به شعوبها.

لكن جدار الصمت والخوف هذا الذي شيدته الأنظمة السلطوية في منطقتنا العربية لإحكام الحصار على مواطنيها وقتل كل روح المبادرة والفكر الحر عندهم، سيتم اختراقه بفضل تقنيات التواصل الحديث. فلأول مرة في العالم العربي، وبفضل تقنيات التواصل الحديث، أصبح للشعب صوت ووسيلة لإسماع هذا الصوت.

نحن نتذكر أن بدايات الربيع العربي انطلقت بالفيديوهات التي كان ينزلها هواة على الانترنيت لإضراب العمال في منجم قفصة بتونس، يومها كان النظام الدكتاتوري في تونس يمنع أية وسيلة إعلام أجنبية من الدخول إلى بلده، وكان يحكم سيطرته على وسائل إعلامه المحلية، ومع ذلك نجح النشطاء في إيصال الفيديوهات إلى وسائل إعلام خارج بلادهم وبدأ العالم يطلع لأول مرة على حجم المظاهرات التي بدأت تعم باقي مدن تونس، وفي نفس الوقت عرت الواقع الفقير الذي كان النظام يتستر عليه بجداره الإعلامي الحديدي.

وعندما أخذت الثورة في تونس بعدها الشعبي وبدأت ردود الفعل تتعالي من عواصم العالم ضد القمع الذي واجهت به السلطة المتظاهرين، كان أول طلب من الإدارة الأمريكية لحكومة الدكتاتور التونسي الهارب هو أن يعيد للنشطاء حساباتهم المقرصنة على الفيسبوك، فالحكومة الأمريكية كانت تدرك أن قوة المتظاهرين كانت تكمن في القدرة على التواصل عبر وسائل اتصال عابر للحدود وغير خاضعة لرقابة السلطة.

وفي كتابه “ثورة 2.0” يصف الناشط المصري وائل غنيم، أحد أبرز نشطاء الثورة المصرية عبر الإنترنيت، الدور الذي لعبه الفيسبوك في تحويل قضية الشاب خالد سعيد، الذي قتلته السلطات المصرية تحت التعذيب عام 2010، إلى شرارة لإطلاق ثورة 25 نوفمبر 2011.

إن ما أحدثته وسائل التواصل الحديث من انترنيت ومواقع اجتماعية وهواتف نقالة من دمقرطة لوسائل التواصل، كان بمثابة اختراق لقلعة الصمت العربية، وثقب كبير في الجدار الحديدي الذي كانت تقيمه وسائل الإعلام الرسمية لكتم أنفاس المواطن وحجب حقيقة ما يجري في بلاده عن الخارج.

لكن ما إن هدأ الربيع العربي أو تحول إلى خريف دامي في أكثر من دولة عربية، حتى عادت نفس الأنظمة، التي يطلق عليها الإعلام مصطلح الدولة العميقة، لفرض سلطتها وتحكمها، وهذه المرة إما من خلال القمع والقتل مثال: سوريا وليبيا ومصر واليمن والبحرين. أو من خلال شراء صمت شعوبها مثال: دول الخليج. أو من خلال إصلاحات تهدف إلى الالتفاف على مطالب الشعب: مثال المغرب والأردن.

إن أغلب الإصلاحات التي ادعت الكثير من الأنظمة العربية بأنها أقدمت عليها كان الهدف من ورائها امتصاص غضب المعارضة وتهدئة الشارع. أما التغييرات المعلنة فلم تكن كافية لتأسيس المساءلة الديمقراطية، وحرية الصحافة الحقيقية، أو القضاء مستقل. ما حدث هو عملية “ماركوتينغ” سياسي كبير موجه إلى الاستهلاك الخارجي والغربي بالدرجة الأولى.

واليوم تحاول الكثير من الأنظمة المتسلطة في المنطقة أن تستغل حالة الفوضى والاضطراب لتشديد قمعها للمعارضة الداخلية، وتقيد حرية التعبير، مع الحفاظ على الواجهة المؤيدة للديمقراطية.

وهنا تقع المسؤولية على حكومات الغرب التي تدعم هذه الأنظمة وتقدم لها المساعدات، فعليها أن تُفهمها بأنها لن تعود تقبل بالإصلاحات الفارغة والمزيفة، لأن من سيدفع الثمن النهاية هو الغرب نفسه عندما يضطر مواطني تلك الأنظمة إلى الهجرة أو اللجوء هربا من بطش أنظمتهم المتسلطة.

إن حائط برلين، عندما قرر الشعب الألماني تحطيمه، سقط بسرعة لأنه بني من حجارة، وكيف ما كانت صلابة الحجارة فهي قابلة لتفتت، أما جدار الخوف الذي مازال يحكمنا في أوطاننا فهو بني من عقد نفسية راكمتها سنوات القمع والاعتقال وعدم الثقة في الدولة وسلطاتها وأجهزتها والخوف من المجهول وبالتالي فإن تفكيكه يحتاج إلى إرادات قوية وتضحيات كبيرة وطول نفس لا ييأس. ولكن أيضا إلى تفهم كبير من الغرب إلى مطالب الشعوب وليس إلى رغبات الأنظمة.