المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

pauvre-mondialisation-tunisie

هذا المقال مستوحى جزئيا من كتاب استشرافي صادر سنة 2014 للكاتب الفرنسي François Lenglet بعنوان “نهاية العولمة” “La fin de la mondialisation” الذي يتنبأ ،استنادا الى التحوّلات الكبرى في التوازنات السياسية و الاقتصادية على الساحة الدولية، و منها بروز كتلة الدول ألصاعدة، بأن الموجة الحاليّة للعولمة الاقتصاديّة التي انطلقت بداية الثمانينات بدفع من الولايات المتحدة الامريكية، في طريقها الى الاندثار لعديد الأسباب من أهمها الأزمة الاقتصاديّة العالميّة التي انطلقت بالولايات المتحدة الأمريكيّة سنة 2007 لتمتد الى أوروبا سنة 2008 ثم الى مناطق ودول عديدة وخاصة منها الدول المرتبطة بعلاقات سياسية واقتصادية وتجارية وطيدة مع الاتحاد الأوروبي وبلدان مجموعة السبعة و من ضمنها تونس.

و سيتركز هذا المقال على استقراء العوامل والمؤشرات التي تدفع تونس الى التريث وعدم التسرع في توسيع منطقة التجارة الحرة مع اوروبا المنتكسة اقتصاديا و ذلك استنادا الى النظريّة القائلة بأن موجة العولمة الحالية الخاضعة للهيمنة الغربية وصلت الى طريق مسدود وأن العالم بصدد التشكّل اقتصاديّا على أسس جديدة تراعي بروز الدول الصاعدة، لا فقط كقوى اقتصاديّة وتجاريّة عظمى منافسة للدول الصناعيّة الغربيّة، بل كذلك كدول شرعت في إرساء شكل جديد من العولمة الاقتصادية البديلة ترتكز على هياكل ومؤسسات وأدوات سياسيّة وماليّة منافسة للهياكل الخاضعة لهيمنة الغرب مثل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، والتي شكلت الاداة الرئيسيّة لفرض منظومة اقتصاد السوق والتبادل الحر والعولمة كأسلوب وحيد لإدارة الشأن الاقتصادي في العلاقات الاقتصاديّة الدوليّة خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفياتي.

وبالتالي فان هذه التحولات قد توفر لتونس فرصة تاريخية لتوسيع شراكاتها الخارجية والتخفيف من تبعيتها الخانقة للغرب وذلك بالاستفادة من التجارب التنموية الناجحة للدول الصناعية الصاعدة التي نجحت في التموقع كقوى فاعلة و مؤثرة في الخارطة السياسية و الاقتصادية العالمية الجديدة.
لكن قبل الخوض في هذه المتغيرات لا بد من التذكير بتاريخ السياسة الاقتصاديّة والتنمويّة التونسية ، وبظروف انخراط تونس منتصف الثمانينات في منظومة العولمة و اقتصاد السوق الذي شكل في واقع الأمر تراجعا عن الاستراتيجية التنموية المتبعة غداة الاستقلال و المرتكزة على استرداد السيادة الاقتصادية لتونس بالاعتماد في مرحلة أولى على القطاع العام كمحرك أساسي للتنمية المستندة على بعث أقطاب صناعية كبرى موزعة على الجهات مع السعي لاحقا على تشجيع القطاع الخاص للانخراط في العملية التنموية، وكل ذلك بهدف التوصل لبناء اقتصاد وطني إنتاجي قائم على النهوض بالصناعة و الفلاحة و الخدمات.

كما سنتطرق الى الحصيلة السلبية لهذه السياسة و مساهمتها في تعميق الازمة الاقتصادية بعد الثورة و ذلك بسبب عدم مراعاة السلطة الجديدة الحاكمة بتونس لهذه التحوّلات وإمعانها في الانغماس في العولمة الاقتصاديّة بصيغتها التقليديّة من بوابة توسيع الشراكة والتبادل الحر حصريا مع الاتحاد الأوروبي وذلك رغم الآثار المدمرة لهذه السياسة على النسيج الاقتصادي والإنتاجي بتونس.

كيف انخرطت تونس في العولمة الاقتصاديّة ؟

تجدر الاشارة الى أن مفهوم العولمة الاقتصاديّة والتجاريّة برز بالتزامن مع الثورات الصناعيّة في الدول الصناعيّة الغربيّة وما كانت تقتضيه من ضرورة تيسير المبادلات التجاريّة وفتح الأسواق الدوليّة لتصريف فوائض الانتاج الصناعي وتصدير التكنولوجية الغربية لاستغلال وتوريد مصادر الطاقة والثروات الطبيعيّة والمواد الأولويّة الضروريّة لخدمة النهضة الأوروبيّة وتكريس هيمنتها على العالم التي تجسدت لاحقا من خلال حقبة الاستعمار.

وبعد الحرب العالميّة الثانية وانتقال السيطرة من أوروبا الى الولايات المتحدّة الأمريكيّة في المعسكر الغربي المتبني لنظريّة الليبيراليّة الاقتصاديّة والتبادل الحر تم السعي لتوسيع دائرة انتشار هذه النظريّة الى المستعمرات السابقة ومناطق النفوذ التقليديّة في البلدان حديثة الاستقلال في إفريقيا وآسيا وذلك للحيلولة دون استقطابها من قبل المعسكر الاشتراكي الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي.

ويجدر التذكير بأن نظريّة اقتصاد السوق والتبادل الحر بمفهومها الحديث الذي برز مطلع الثمانيات تعتمد على إزالة كافة الحواجز الديوانيّة والإداريّة أمام حريّة حركة السلع الصناعيّة والفلاحية والخدميّة وضمان حريّة انتقال رؤوس الأموال والأرباح المترتبة عنها والأشخاص للعمل والاستثمار دون قيود سواء فيما بين الدول وكذلك فيما بين التجمعات الإقليميّة كالاتحاد الأوروبي والمنطقة العربيّة للتبادل الحر.

والملاحظ خلال العقود الثلاثة الأولى بعد الحرب العالميّة الأولى المتزامنة مع إعادة بناء الاقتصاديات والصناعات الأوروبيّة والشروع في بناء اقتصاديات دول العالم الثالث ومن بينها تونس، ظل التبادل الحر محكوما بضوابط وحدود تسمح بسنّ إجراءات حمائية للصناعات الوطنيّة للدول وكذلك للقطاعات الحسّاسة مثل الزراعة، كما لم تكن حريّة حركة الأموال مطلقة بل محدودة. واضطلع القطاع العام والمؤسّسات العمومية التابعة للدولة أثناء تلك المرحلة بدور اقتصادي وتعديلي هام في بناء وتطوير القطاعات الإنتاجيّة خاصة في دول العالم الثالث مثل تونس.

وفي نفس هذا السياق اختارت تونس في المراحل الأولى لاستقلالها، في إطار الآفاق العشريّة للتنمية لفترة الستينيات، استراتيجية تعطي الأولويّة لبناء صناعات وطنيّة في شكل أقطاب تنمويّة موزعة على الجهات مراعاة لمقتضيات التوازن الجهوي ،كما ركزت المخططات التنمويّة ذات الصلة لفترة ما بعد الاستقلال على استكمال مقوّمات الاستقلال الاقتصادي والحدّ من التبعيّة الاقتصاديّة الهيكليّة للاقتصاد التونسي إزاء فرنسا.وتم في هذا الإطار احداث البنك المركزي التونسي والعملة الوطنيّة وتأميم الأراضي الفلاحيّة

انخراط تونس في منظومة التبادل الحر والانفتاح الاقتصاديّ

وفي ذات الوقت شرعت تونس في مفاوضات مع المجموعة الاقتصاديّة الأوروبيّة، في محاولة لإبرام اتفاق تعاون يساعدها على إنجاز برامجها ومخططاتها التنموية القائمة على بناء منظومة إنتاجيّة صناعيّة ،لكن اتفاق المشاركة (accord d’association) المبرم بين الجانبين سنة 1969 لمدة خمس سنوات اكتسى صبغة تجاريّة صرفة وقد شكل أولى الخطوات المبكرة لإقحام تونس في منظومة التبادل الحر، شأنه في ذلك شأن اتفاق 1976 الذي جاء في أعقاب انقطاع التجربة الاشتراكيّة للتنميّة وانخراط تونس من خلال قانون 1972 للصناعات التصديريّة في مرحلة الاقتصاد لليبيراليّ الموجه لاستقطاب الاستثمارات الخارجية والانفتاح الاقتصادي والتجاري على المجموعة الأوروبيّة.

وتزامنت عشريّة السبعينات أيضا مع وضع الأطر التشريعيّة والمؤسساتيّة لتشجيع القطاع الخاص التونسي الناشئ على الانخراط في العمليّة التنمويّة وتحديدا في قطاع الصناعات المعمليّة ومعاضدة جهود القطاع العام في إنجاز المخططات التنمويّة القائمة على تكثيف الاستثمارات في القطاعات الانتاجيّة خاصة منها الصناعة وكذلك تطوير الخدمات، ولاسيما منها القطاع السياحي.

واللافت للانتباه أن التجربة التنمويّة التونسيّة خلال عقدي الستينات والسبعينات تميّزت ،وفقا لما ورد في دراسات علميّة ،بنجاح تونس في تحقيق نسبة هامة من أهدافها التنمويّة بالاعتماد أساسا على إمكانياتها الذاتيّة مع توفقها أيضا في الحفاظ على توازناتها الماليّة الكبرى من خلال التحكم في المديونيّة الخارجيّة وتحقيق التوازن في الميزان التجارة الخارجيّة وذلك بفضل الارتفاع الملحوظ للموارد المتأتية من النفط.

غير أن عشريّة الثمانينات ستشهد تراجعا ملحوظا في مردوديّة الاقتصاد التونسي وبروز بوادر أزمة اقتصاديّة حادة نتيجة ارتفاع المديونيّة الخارجيّة بسبب انهيار أسعار النفط المتزامن مع تعثر القطاعات الانتاجيّة والصناعيّة والفلاحيّة والخدميّة إضافة الى الخلل الذي طال التوازنات الكبرى للاقتصاد التونسي في ظل تراجع موارد الدولة والارتفاع الكبير في نفقاتها. وهكذا أصبح ميزان المدفوعات يشكو من العجز المتفاقم بداية من سنة 1983 وارتفعت بنسبة التداين الخارجي ثلاثة أضعاف لتصل الى %58 من الناتج المحلي الإجمالي سنة 1986 مما أدى الى خضوع تونس لأول مرّة الى ما سمّي ببرنامج الاصلاح الهيكلي الذي تمّ اقراره بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي.

الآثار السلبية لانخراط تونس في منظومة العولمة الاقتصاديّة واقتصاد السوق

يشكّل هذا البرنامج في واقع الأمر منعرجا كبيرا في التوجهات والخيارات الاقتصاديّة لتونس باعتبار أنه كان الآليّة التي تمّ من خلالها إقحام تونس في أزمة اقتصاديّة وانخراطها في منظومة العولمة واقتصاد السوق عبر برنامج “اصلاحات هيكليّة” يطبق عادة على البلدان التي تمر بمثل هذه الأوضاع الاقتصاديّة الصعبة التي تدفعها الى الارتماء في أحضان صندوق النقد الدولي والبنك العالمي.وفي واقع الأمر هاتان المؤسستان تنتميان الى الأجهزة المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، وقد تمّ بعثهما بعد الحرب العالميّة الثانية للمساهمة في مكافحة الفقر ومساعدة الدول الناميّة في إنجاز برامجها التنمويّة، علما أن الاستراتيجيّة التونسيّة للتنميّة لمرحلة الستينات وهي الآفاق العشريّة للتنميّة تحصلت على تزكيّة البنك العالمي وصندوق النقد الدولي.

لكنه سرعان ما تمّ، تزامنا مع موجة العولمة الجديدة لمطلع الثمانيات، وبتأثير من الولايات المتحدة الأمريكيّة ،الانحراف بمهام هذه المؤسسات التي تحوّلت الى أدوات لفرض السياسات الاقتصاديّة والماليّة التي تخدم المصالح الأمريكيّة ومصالح الدول الغربيّة الحليفة لها والمسيطرة على مجالس إدارة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ،الذين أعفيا عمليّا من التبعيّة الاداريّة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة.

وبالنسبة للبرنامج المطبق على تونس سنة 1986، فقد تضمّن تدابير آجلة وعاجلة تلتقي مع الوصفات المعروفة التي تدعي إعطاء الأولويّة لمعالجة الإخلالات في التوازنات الماليّة الداخليّة والخارجيّة من خلال إرساء تدابير تقشفية للضغط على مصاريف الاستهلاك والتسيير وتوجيه الاستثمارات لإنعاش القطاعات الانتاجيّة.

ولتحقيق هذه الأهداف تجيز هذه المؤسسات لنفسها التدخل في الخيارات الاقتصاديّة للدول عبر القروض والتمويلات المشروطة وهو ما حصل لتونس التي اضطرت لإدخال تغييرات جوهريّة كبرى على توجهاتها وأولوياتها التنمويّة للعشريتين المواليتين للاستقلال وهو ما أدّى فعليا الى إضاعة جل المكاسب التي تحققت في مجال بناء منظومة إنتاجية وطنية خاصة في مجال التصنيع.

لكن الأخطر أن تونس تخلت بهذا الانخراط غير المدروس في العولمة عن التخطيط الاستراتيجي للتنمية وعن استقلالية قرارها في تحديد خياراتها الاقتصادية و التنموية كما اكتفت بان تكون في إطار التوزيع غير المتوازن للأدوار الاقتصادية العالمية، مجرد خزان للعمالة الرخيصة لفائدة أنشطة المناولة الاوروبية ذات القيمة المضافة المتدنية. هذا و قد فقدت تونس القدرة على الحفاظ على توازناتها الكبرى بالاعتماد على مواردها الذاتية مما خلق تبعية إزاء التمويلات الخارجية و أصبح اللجوء الى التداين الخارجي ضروري لتغطية العجز المزمن في تمويل الميزانية ونفقات الدولة.

وبالنسبة للتدابير العاجلة الواردة في البرنامج فقد تمثلت في التخفيض في قيمة الدينار بنسبة %40 وإرساء برنامج تقشفي للضغط على مصاريف التسيير والاعتمادات المخصصة لصندوق الدعم والسعي أيضا الى الحد من العجز في الماليّة العموميّة عبر منح تونس قروض مشروطة من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي لتمويل إصلاحات هيكليّة قطاعيّة، أما المحور الثاني لهذا البرنامج فإنه يتعلق بإعادة النظر في أولويات السياسة التنمويّة القائمة على بناء صناعات وطنيّة واتخاذ تدابير هيكليّة لتوجيه الاقتصاد التونسي والقطاعات الانتاجيّة نحو التصدير مع اعداد خطّة مرحليّة لتحرير التوريد بحلول سنة 1991 بالتوازي مع مراجعة المعالم الديوانية باتجاه التخفيض والحد من التدابير الحمائية المتخذة لفائدة الصناعات الوطنيّة بحجة تحرير المنافسة.

كما تضمّن البرنامج تخلي الدولة والقطاع العام عن القطاعات الانتاجيّة وتشجيع الخوصصة لهذه الأنشطة وللمؤسسات العموميّة الى جانب منح المزيد من الحوافز للقطاع الخاص بمراجعة قوانين الاستثمار حتى يتسنى له تعويض الدور الاقتصادي الذي كان موكولا الى الدولة والقطاع العام في المنظومة الانتاجيّة التونسيّة الى غاية منتصف الثمانيات.

والجدير بالذكر أن المخطط السابع للتنميّة 1987 ــ 1991 وهو الأول في ظل حكم النظام السابق، تبنى هذه التوجهات الكبرى، التي جاءت في قطيعة تامة كما هو مبين سابقا، مع الاستراتيجيّة التنمويّة المتبعة أثناء العقدين الأول والثاني من الاستقلال التي توفقت خلالهما تونس بالاعتماد أساسا على امكانياتها الذاتيّة، الى بناء أسس الدولة التونسيّة الحديثة. كما نجحت في تحقيق نسبة هامّة من مخططاتها الاقتصاديّة.

غير أن التجربة التنمويّة التونسيّة الفتيّة لم تهيئ الاقتصاد التونسي لخوض غمار الانخراط المبكر منذ مطلع السبعينات في سياسة الانفتاح الاقتصادي ثم منظومة اقتصاد السوق والتبادل الحر لأن الاستفادة من الأسواق الخارجيّة يتطلب توفر قدرات إنتاجيّة وطنية صناعيّة وفلاحيّة وخدميّة ضخمة وذات جودة عاليّة وقادرة على تحمّل المنافسة الأجنبيّة في الداخل والخارج.

وهذا ما يفسّر فشل برنامج الاصلاح الهيكلي وما تبعه من سياسات اقتصاديّة انفتاحيّة تبناها النظام السابق خاصة من خلال اتفاقيّة الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لتبادل السلع الصناعيّة المبرمة سنة 1995. وبعد الثورة تم الاستمرار في نفس السياسات بضغط من مجموعة السبعة و الاتحاد الاوروبي و أخضعت تونس مجددا منذ 2013 للبرامج والقروض المشروطة لصندوق النقد الدولي مما زاد في تعميق الازمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.

و سنبين في مقال لاحق السبل المتاحة لتونس لمراجعة هذه السياسات بالاستفادة من البدائل المتاحة لها في ظل التحولات الحاصلة في موازين القوة الاقتصادية العالمية و ما أفرزته من مكانة اقتصادية و سياسية متنامية للبلدان الصّاعدة و بوادر بروز صيغة جديدة أكثر توازنا للعولمة الاقتصادية.