لم يهدأ الجدل حول غلق مصنع السياب بصفاقس منذ أن أعلنت الحكومة التونسية، في مجلس وزاري انعقد يوم 13 جانفي 2016، التزامها بتفعيل قرار الغلق. وتحت ضغط منظمات المجتمع المدني التي نظمت مسيرة حاشدة يوم 14 جانفي الفارط جدّدت الحكومة وعودها بغلق السياب دون تحديد آجال دقيقة. وفي هذا السياق التأمت يوم الجمعة الفارط جلسة تفاوضية جمعت وزير الطاقة والمناجم منجي مرزوق بمكونات المجتمع المدني، وعد فيها الوزير مُجددا بإيقاف النشاط الكيميائي للمصنع دون انتظار نهاية أشغال مصنع المظيلة الذي سيبدأ النشاط مستهل سنة 2018، ولكن لم تسفر الجلسة عن تحديد أجندا زمنية واضحة لتفعيل هذه الإجراءات.
يقع مصنع السياب الذي يلقبه البعض بـ”مصنع الموت“ على الشريط الساحلي الجنوبي لمدينة صفاقس الذي تقدر مساحته بـ5600 هكتار، انطلق في النشاط سنة 1952 ويعد أول وحدة لتحويل الفسفاط في تونس من خلال إنتاج ثلاثي الفسفاط الرفيع المعد للتصدير، وينتج من هذه المادة 330 ألف طن سنويا ويشغل 450 عونا مباشرا حسب ما أفادت به الإدارة الجهوية للمجمع الكيميائي بصفاقس.
في سنة 2008 اتخذ النظام السابق قرارا بغلق هذا المصنع، وتم الشروع في ذلك أواخر سنة 2010 من خلال الانطلاق في تسوية الوضعيات الاجتماعية للعمال والإطارات. ولكن التحول السياسي الذي شهدته البلاد حال دون تواصل هذا المسار. وفي نفس السياق وعدت جل الحكومات، التي تعاقبت منذ سنة 2011، بغلق مصنع السياب.
للوقوف على خلفيات هذا الملف الشائك، انتقل فريق نواة إلى جهة صفاقس وتمكّن من الدخول إلى مصنع السياب خصوصا من الجهة التي تربط وحدات الإنتاج بشاطئ البحر. ومن خلال اللقاءات التي أجراها الفريق مع مختلف المتدخلين في الملف تبين أن قرار الغلق يتعلق في جانب منه بخطورة التلوث ويتصل بحرب المصالح في جانبه الآخر.
التلوث بين النفي والإثبات
يشكل التلوث البيئي المحور الرئيسي في النزاع الدائر بين إدارة المجمع الكيميائي التونسي ومنظمات المجتمع المدني المُطالبة بغلق مصنع ”السياب“. ورغم أن إدارة المصنع تقر بـ”مساهمة“ النشاط الكيميائي في تلويث المحيط من خلال وحدتي الحامض الكبريتي والحامض الفسفوري، فإنها لا تعتبره المصدر الوحيد لهذه الظاهرة. وفي هذا السياق يشير عمر العبيدي، المدير الجهوي للمجمع الكيمائي بصفاقس، إلى أن المياه المُلوثة التي تتدفق في البحر يتقاسمها ”السياب“ مع وحدة الصرف الصحي التابعة لديوان التطهير، المحايثة للمصنع، وهي وحدة قديمة لم يقع ترميمها ولا تستجيب للمواصفات البيئية على حد تعبيره.
وقد أضاف العبيدي أن إدارة المجمع الكيمياوي توصّلت في السنوات الفارطة -عبر البحوث النظرية والمخبرية- إلى ابتكار سماد أحادي الفسفاط الرفيع الذي وصفه بـ”صديق البيئة“، مؤكدا أن «هذا المنتوج لم يخضع لطريقة التصنيع القديمة التي تُستخدم فيها الحوامض والفسفاط وإنما يعتمد على خليط فيزيائي متكون من نفايات الـ”دس ب“ (DSP) ومادة الفوسفوجيبس». وقد أفاد المدير الجهوي أن المجمع الكيميائي التونسي شرع في تصدير كميات من هذا السماد لاقت رواجا في الأسواق العالمية، مشيرا في نفس الوقت إلى أن مصنع السياب سيحافظ على هذا النشاط البديل بعد إغلاق وحدات الحامض الكبريتي والحامض الفسفوري. ولم يتم إلى حد الآن تحديد موعد واضح لغلق هذه الوحدات التي تشكل مصدرا للتلوث الهوائي والبحري.
من جهته وصف عبد الحميد الحصايري، رئيس جمعية حماية البيئة والطبيعة بصفاقس، تصريحات المدير الجهوي للمجمع الكيميائي بالمغالطات. مؤكدا أن مصنع السياب مَثّل المصدر الرئيسي للتلوث بجهة صفاقس طيلة 63 سنة من خلال الانبعاثات الغازية السامة والإفرازات الكيميائية التي تذهب إلى البحر. وأضاف محدثنا أن
السياب تحوّل إلى قطب للتلوث لأنه جَمّع حوله العديد من الصناعات الأخرى الملوّثة، ولن تزول هذه الظاهرة إلا بغلق هذا المصنع.
وبخصوص تصنيع أحادي الفسفاط الرفيع أفاد الحصايري أن «هذا المنتوج مُلوّث ولا يطابق المواصفات البيئية لأنه يحتوي على مادة الفوسفوجيبس، ويتم إنتاجه من قبل المجمع الكيميائي التونسي دون الحصول على ترخيص قانوني من قبل الوكالة الوطنية لحماية المحيط».
ما حقيقة خطر ”الفوسفوجيبس“؟
بجانب مصنع السياب تنتصب طابية تخزين ”الفوسفوجيبس“، الهضبة التي يقول البعض أنها أعلى مرتفع في مدينة صفاقس. وحسب دراسة أنجزها أساتذة باحثون بالمدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس حول الآثار البيئية لتخزين الفوسفوجيبس بصفاقس، تبيّن لهم أن هذه المادة تشكّل مصدرا للتلوث من خلال تركيبتها التي تحوي مواد سامة وعناصر باعثة للإشعاعات. هذا بالإضافة إلى أن الطريقة المُعتمدة في تخزين الفوسفوجيبس تشكل خطرا على التربة والمياه الجوفية لأن المواد السامة قابلة للذوبان ويساهم تخزينها في اختراق المائدة المائية.
هذه المادة سيُصنع منها أحادي الفسفاط الرّفيع الذي تؤكد إدارة المجمع الكيميائي أنه منتوج مطابق للمواصفات البيئية، مستندة في ذلك إلى دراسة أنجزتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية سنة 2013، لم تُصنّف فيها الفوسفوجيبس ضمن النفايات الخطيرة. ومن خلال فحص عيّنة من هذه المادة المُخزّنة في طابية مصنع السياب تبيَّن لخبراء الوكالة أنها تُدرج ضمن قائمة العينات الأقل إشعاعا في العالم. ومن هذا المنطلق طلبت إدارة المجمع الكيميائي من الوكالة الوطنية لحماية المحيط أن تعيد النظر في الفوسفوجيبس المُصنف ضمن المواد الخطرة.
وفي نفس السياق تجدر الإشارة إلى أن الرئيس السابق المنصف المرزوقي سبق وأن دعى في زيارة أداها يوم 5 جوان 2014 إلى ولاية قابس إلى ضرورة مراجعة الأفكار القديمة حول مادة الفوسفوجيبس والكف عن اعتبارها مادة خطيرة وسامة لأنه بالإمكان تحويلها إلى مصدر للثروة على حد تعبيره.
رجال الأعمال وإغلاق السياب
إن الحملة المطالبة بإغلاق مصنع السياب لا تقتصر فقط على البعد الأيكولوجي، وإنما تطرح قضية الاستثمار الاقتصادي من خلال ما يعرف بمشروع استصلاح السواحل الجنوبية لمدينة صفاقس. وفي هذا السياق يؤكد إبراهيم بن صالح، رئيس فرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بصفاقس الجنوبية، أن «السواحل الجنوبية تُمثّل المجال الحيوي لمدينة صفاقس، ولا يمكن لرجال الأعمال أن يفكّروا في استثمارها طالما أن مداخن مصنع السياب مازالت قائمة». وأضاف بن صالح أن استصلاح هذه السواحل سيجعل مدينة صفاقس تنتعش عبر إقامة المنتزهات والفضاءات التجارية والاقتصادية التي ستشغّل عشرات الآلاف على حد تعبيره.
الحديث عن إقامة مشاريع ضخمة على أنقاض مصنع السياب يعتبره البعض ضربا من الوهم ويخفي وراءه مصالح أخرى. وفي هذا السياق أكد فيصل بن غزالة، عضو النقابة الأساسية بمصنع السياب، أن القضية تحولت من مناهضة التلوث إلى المطالبة في بعض الأحيان بافتكاك أرض السياب التي تعود ملكيتها إلى المجمع الكيميائي التونسي، وهو ما يخفي مصالح أخرى لا علاقة لها باحتياجات مدينة صفاقس على حد تعبيره. وأضاف بن غزالة أن:
الحديث عن استثمارات ضخمة في السواحل الجنوبية يعد أمرا مبالغا فيه لأنه لا وجود لمشاريع ملموسة على أرض الواقع، علاوة على بعض العوائق الأخرى التي تعرقل الاستثمار ولكن لم يتحدث عنها أحد، من بينها شركة الملاحة الفرنسية والمصانع العديدة الملوثة التي تنتصب في قلب الشريط الساحلي الجنوبي.
ولعل المخاوف من عدم جدية الاستثمارات التي يتم الترويج لها أيّدها تقرير دائرة المحاسبات الصادر يوم الاثنين 15 فيفري 2016 الذي تعرض لشركة الدراسات وتهيئة السواحل الشمالية لمدينة صفاقس مشروع تبرورة، والذي جاء فيه «أسفرت المهمة الرقابية التي أجرتها دائرة المحاسبات على حسابات وتصرف الشركة عن إثارة عديد النقائص والإخلالات تعلقت بالخصوص بالتصرف في مشرع تبرورة وبآثاره البيئية وذلك بالتصرف الإداري والمالي».
من جهته أشار علي الزيتوني، ناشط حقوقي ونقابي سابق بمصنع السياب، إلى أن رجال الأعمال هم المستفيدون الوحيدون من غلق المصنع وليس سكان الأحياء الشعبية الذين اضطرتهم الظروف لمجاورة السياب في السنوات الماضية. وفي هذا السياق أفاد محدثنا أن:
الملاك العقاريين الكبار انتهزوا فرصة غلق مصنع الأنبيكا (NPK) سنة 1992 واشتروا أراض مجاورة للسياب بأثمان بخسة، معوّلين على استغلالها في المستقبل من خلال الضغط لإغلاق السياب وهم يراهنون الآن على بيعها بأثمان مرتفعة عندما يتم تفعيل قرار الغلق.
وتشير العديد من المعطيات إلى أن المعهد العربي لرؤساء المؤسسات فرع صفاقس لعب دورا كبيرا في الحملة المناهضة لتواصل نشاط السياب خصوصا في المسيرة التي انتظمت يوم 14 جانفي 2016، وسبق للمعهد أيضا أن دعم قرار الغلق من خلال مشاركاته في الندوات العلمية أو الأنشطة التي نظمتها الجمعيات البيئية بجهة صفاقس. وقد حاول فريق نواة الاتصال بالسيد أحمد المصمودي رئيس فرع المعهد العربي لرؤساء المؤسسات بصفاقس للوقوف على موقفهم من هذا الملف، ولكن لم يتمكن من ذلك.
على عكس هذا يؤكد المطالبون بتفعيل قرار الغلق أن هناك لوبيات مالية تستغل نفوذها في الدولة للحيلولة دون تفكيك السياب، وهم أساسا شبكة من المناولين تربطهم معاملات مالية ضخمة بهذا المصنع من خلال مقاولات نقل الفسفاط والصيانة والمناولة باليد العاملة.
iThere are no comments
Add yours