panamapapers

مازالت تسريبات ”وثائق باناما“ تلقي بضلالها على العديد من مناطق العالم، حيث جذبت إليها اهتمامات الرأي العام الدولي طيلة الأيام الفارطة، وضربت السواكن السياسية في أكثر من بلد نظرا للقائمة العريضة لرجال السياسة والمسؤولين الحكوميين التي تضمنتها البيانات المُسرّبة.

لم يكن السياق التونسي بمأمن عن رياح التسريب القادمة من جزر الباناما حيث كشف موقع ”انكيفادا“، شريك الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية، ورود كل من محسن مرزوق، الأمين العام السابق لنداء تونس، وسمير العبدلي المرشح السابق للانتخابات الرئاسية، في ”وثائق باناما“. وقد أعلن مسؤولون في الموقع المذكور أنهم بصدد إعداد تحقيقات صحفية مماثلة، تكشف عن أسماء جديدة.

لئن ساهمت الوثائق المُسرّبة من مكتب الخدمات القانونية البنمي ”موساك فونسيكا“ في إعادة الجدل حول ملف تهريب ”الأموال القذرة“ عبر العالم، فإن الحالة التونسية لا يشكل فيها فتح شركات بالملاذات الضريبة أمرا مستجدا، وقد سبق وأن عمد بعض الأثرياء الباحثين عن إخفاء أموالهم إلى القيام بهذا النشاط، علاوة على أن قانون المالية لسنة 2014 يُجيز فتح مؤسسات مالية وحسابات بنكية في البلدان الموسومة بـ”الجنات الضريبية“.

الملاذات الضريبية مُقننة

يسمح المشرّع التونسي بفتح شركات مالية وحسابات بنكية بالملاذات الضريبية، مع التأكيد على الترفيع في نسبة الخصم من المورد التحرّري المستوجب على المداخيل ذات المنشأ التونسي المحققة من قبل المقيمين بهذه الملاذات، وقد ورد في الفصل 44 من قانون المالية لسنة 2014 ما يلي: ”وتُرفع نسبة الخصم من المورد الواردة بالمطّة الثالثة من الفقرة الفرعية ”ب“ وبالفقرات الفرعية ”ج“ و”ج مكرر“ و”هـ“ من الفقرة I من هذا الفصل إلى 25 % إذا تعلق الأمر بمكافآت أو مداخيل راجعة إلى أشخاص مقيمين أو مستقرّين بملاذات جبائية. وتضبط قائمة الملاذات الجبائية المعنية بأحكام هذا الفصل بمقتضى أمر“.

وانسجاما مع هذا الفصل نظم الأمر عدد 3833 المؤرخ في 03 أكتوبر 2014 قائمة الملاذات الجبائية عبر العالم وهي كل من:  ”ديلاوير، أنغويلا، برمودا، جزر كايمان، جبل طارق، مونتسرات، جزر توركس وكايكوس، الجزر العذراء البريطانية، جيرنزي، سانت مارتن، جزر الأنتيل الهولندية، كوراساو، جزر كوك، نييوي، انتيغا وباربودا، أَروبا، باربادوس، بليز، كوستاريكا، الدومينيك، جرينادا، ليبيريا، جزر مارشال، ناورو، بنما، الفيلبين، سانت كيتس ونيفيس، سانت فنسنت والجرينادين، سانت لوسيا، ساموا، الأوروغواي، فانواتو، جيبوتي“.

حسب هذا الأمر يوجد 35 ملاذا ضريبا في العالم، في حين يؤكد الأسعد الذوادي، رئيس المعهد التونسي للمستشارين الجبائيين، أن ”القائمة الحقيقية التي ضبطتها الهيئة الكاثوليكية ضد الجوع ومن أجل التنمية تضم ما لا يقل عن 92 جنة ضريبية“، مشيرا إلى أنه تم حذف جزر الموريس من هذه القائمة رغم أنها تعتبر من أهم الملاذات الضريبية في العالم. وقد سبق أن وقَّع الرئيس السابق بن علي اتفاقية جبائية مع جزر الموريس رغم أن تونس ليس لديها معاملات اقتصادية معها، وقد كانت الغاية من هذا الاتفاق تهريب ”الأموال القذرة“ إلى تلك المنطقة.

من جهته أكد سالم بن يحيى، الصحفي المختص في الشؤون الاقتصادية، أن ”قانون المالية لسنة  2014 سَمح بفتح مثل هذه الشركات والحسابات في الملاذ الضريبية والحال أن الكل يعرف أن العمليات المالية بهذه الملاذات يكتنفها الغموض و السرية، وبالتالي لا جدوى من مطالبة القانون أحد الأثرياء بدفع 25 بالمائة مما جناه بجزر “برمودا” على سبيل المثال، لأننا لا نعرف من يحدد قيمة المرابيح أو من يراقبها، نظرا لأن جل المعاملات تُدار بالفواتير الصورية“.

وشدد بن يحيى على خطورة هذه الأنشطة على الاقتصاد التونسي لأنها تعتبر في جانب كبير منها تصديرا للعملة بصفة غير قانونية، مشيرا إلى أن الأموال المتأتية من أنشطة لها علاقة بالاقتصاد التونسي تُرسل فوائدها الى بنما و برمودا و غيرها ولا تدخل الدورة الاقتصادية، وهكذا تُحرم البلاد من أرصدة كان من شأنها أن تحسّن ميزان الدفوعات الخارجي، على حد تعبيره.

شركات تونسية قديمة في باناما

لم تفصح التحقيقات الصحفية المحلية التي تشتغل على وثائق باناما إلى حد كتابة هذه الأسطر، سوى عن ورود كل من محسن مرزوق، الأمين العام السابق لنداء تونس، الذي تعلقت به شبهة مراسلة مكتب المحاماة ”موساك فونسيكا“ من أجل الاطلاع على إجراءات تأسيس شركة “أوف شور” في الجزر العذراء. بينما كشفت الوثائق أيضا عن ورود اسم سمير العبدلي، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية، حيث يمتلك أسهم تبلغ 40 بالمائة في شركة أسسها صحبة توفيق بن جديد، نجل الرئيس الجزائري السابق.

تشير بعض الوثائق الأخرى إلى أن تهريب الأموال التونسية إلى باناما ليس بالأمر الطارئ، إذ سبق وأن عمد بعض رجال الأعمال إلى تأسيس شركات ”أوف شور“ في هذه المنطقة. وفي هذا السياق أكد سالم بن يحيى، الصحفي المختص في الشؤون الاقتصادية، أنه بعد عملية بحث أجراها على الموقع الرسمي للسجلات العامة البنمية  «Registro Público de Panamá »، تمكن من الحصول على وثيقتين تشير إلى تأسيس شركتي “أوف شور” في باناما من قبل رجال أعمال تونسيين ومحامين (انظر الوثيقتين):

Hergam-panama-papers
boujbel-panama-papers

-الشركة الأولى تحت اسم «TUNISIA PANAMA INVESTMENT» تأسست في 15 نوفمبر 2010 وتختص في التمويل المالي، وتعود رئاستها إلى سعيد بوجبل، رجل الأعمال التونسي وصهر الرئيس السابق بن علي، ويظهر في أسماء القائمين على الشركة اسم المحامي هشام الحجري.

-الشركة الثانية تحت اسم «HARGAM HOLDING, CORP»، تأسست تقريبا في نفس الفترة 15 نوفمبر 2010، ويترأسها المدعو نورالدين الهرقام، ويظهر فيها مجددا اسم رجل الأعمال سعيد بوجبل. وتختص هذه الشركة أيضا في الاستثمار المالي.

وبخصوص تهريب الأموال إلى الملاذات الضريبة أوضح سالم بن يحيى أن ”أوراق بنما لم تأتي بالجديد، فعديد رجال الأعمال و المتهربين جبائيا اعتادوا منذ سنين عديدة تحويل العملة من تونس نحو الخارج عن طريق الفوترة فوق القيمة «surfacturation»، ويمتلكون عمارات وممتلكات عقارية في أكبر العواصم الأوربية“.

تصنيف تونس ”جنة ضريبية“

يؤكد العديد من الخبراء والمتابعين للوضع الجبائي المحلي أن تونس تعد ”جنة ضريبية“ نظرا لانعدام آليات الرقابة الجبائية وهشاشة القوانين التي تنظم هذا المجال، وتتراوح نسبة التهرب الضريبي في تونس بين 8 و15 مليار دولار سنويا حسب تقديرات الخبراء.

سبق وأن هددت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE) سنة 2014 بتصنيف تونس ”جنة ضريبية“ نتيجة لارتفاع معدلات التهرب الجبائي، علاوة على عدم نجاح الجهات الحكومية في رفع السر البنكي، نتيجة للمعارضة التي لقيها هذا الإجراء من قبل متنفذين في أوساط الأعمال.

من جهته نشر مكتب المحاماة الفرنسي المختص في القانون الجبائي «Francis Lefebvre» في فترة سابقة كتابا حول ”الجنات الضريبة“ في العالم، ذكر من بينها تونس. وفي هذا السياق أكد الخبير الجبائي الأسعد الذوادي أن حجم ”الأموال القذرة“ الموجودة في تونس والمتأتية من نشاطات خفية وخارج مراقبة الدولة لا تقل كثيرا عن تلك الأموال التي يتم تداولها في باناما التي تقدر بحوالي 55 مليار دولار. وأضاف الذوادي بأن منظمة النزاهة المالية الدولية «Global Financial Integrity» قدرت في إحدى تقاريرها ”الأموال القذرة“ المتداولة في تونس بـ40 مليار دولار، معتبرا أن الأرقام في الواقع تفوق هذا  بكثير.

وقد أكد الأسعد الذوادي أن ”فتح ملف الفساد في المجال الجبائي يبقى اول خطوة يجب القيام بها للتصدي للتهرب الجبائي“.

إن التقارير الدولية الصادرة عن أكثر من منظمة عالمية بخصوص الوضع الجبائي التونسي، علاوة على التقارير التي يرفعها الخبراء الجبائيون المحليون، تشير كلها إلى أن تونس تشكل أرضية خصبة للتهرب الضريبي، خصوصا في ظل توسع أنشطة ما يعرف بـ“اقتصاد الظل”، الذي يحرم الدولة من الكثير من إيرادات الضرائب والأداءات.