في علاقة حركة النهضة بالمجال السياسي، أسئلة النخبة و أسئلة المجتمع
تبدو علاقة حركة النهضة بالمجال السياسي و الثقافي النخبوي في سياق ما بعد 17 ديسمبر ملتبسة جدّا، لا يمكن أن نتناول كل تفاصيل هذه العلاقة بل ما يهمّ التركيز عليه هو مستوى العلاقة في إرتباط مع أسئلة 17 ديسمبر الثوريّة، و تحديدًا بعدها الإجتماعي و الإقتصادي بإعتبارها جوهر 17 ديسمبر و محركها الرئيسي الذي لم يترَاجع رغم كلّ تحولات المسار السياسي الذي تشهده البلاد.
أحد الأسئلة التي توجّه لحركة النهضة سواء من قبل النخب الثقافية أو السياسية على حدّ السواء يتعلق حول هوية حركة النهضة و ما يصطلح عليه بـ”تونستها“. يتجلى هذا التساؤل في البحث الذي إشتغل عليه كل من عبد القادر الزغل و آمال موسى تحت عنوان ”النهضة بين الإخوان و التّونسة“1.
ماذا يعنيه محاكمة خطاب التونسة لحركة النهضة؟ ما يميّز هذا الخطاب هو أن إشكاليته المركزية هي مدى إستجابة حركة النهضة لمتطلبات الوسط النخبوي ثقافيا و سياسيا التي هي تحديات منفصلة عن التحديات الإجتماعية و الإقتصادية التي طرحت منذ إنتفاضة الحوض المنجمي في جانفي/جوان 2008 ، و الحركة الإجتجاجية التس شهدتها بن قردان في أوت 2010 و إزدادت إلحاحًا خاصة في 17 ديسمبر 2010 في سيدي بوزيد.
تدور الأسئلة التي طرحت آنذاك و التي مازالت صالحة بعد أكثر من ثمانية سنوات من إنتفاضة الحوض المنجمي و أكثر من خمس سنوات من الحركة الإحتجاجية التي شهدتها بن قرادن سنة 2010 و الحراك الثوري الذي إستئنف في سيدي بوزيد مع إحتراق البوعزيزي، حول أزمة الخيارات الإجتماعية و الإقتصادية التي تبنّاها نظام بن علي أي إنخراطه في برنامج الإصلاح الهيكلي و الإندفاع في تحصيل الشرعية الدولية من خلال الإنخراط في توافقات واشنطن و ما تفتضيه من الخوصصة و تخلّي الدولة عن جملة من القطاعات و مزيد الإنفتاح على الإستثمارات الخاصة الأجنبية و التونسية منها. بإعتبار أن 17 ديسمبر و ما سبقها من حركات إحتجاجية ليست حادث إرتطام عرضي للنظام السياسي التونسي بل هي النتيجة العادية للسياسات الإقتصادية و الإجتماعية التي راكمتها الدولة التونسية طيلة عقود.
النهضة و خصومها و خطاب التونسة : صراع ليبرالي-ليبرالي
أسئلة النخبة الثقافية و السياسية التونسية ليست نفسها هي أسئلة 17 ديسمبر التي بلورها الحراك الإجتماعي و يواصل طرحها بعد خمس حكومات و ثلاث محطات إنتخابية.فإذا كانت أسئلة النخبة تتعلق بما إصطلح عليه بـ”تونسة“ حركة النهضة و إنخراطها في المقولات التأسيسة للمعجزة الحداثية التونسية؛ و ما يعنيه ذلك من ضرورة دخولها ”النمط التونسي“ الذي هو نمط نخبوي يمتلك إمتياز رمزي نابع من ما تمتلكه هذه النخبة التونسية من شبكات علاقات و نفوذ و مصالح عابرة لمؤسسات الدولة و الإعلام و المجتمع المدني بإعتبارها مكتسبات تاريخية من ناحية كونها تشكّلت في إطار مسار تاريخي طويل لا يمكن لهذه النخبة أن تتخيّل التراجع عنه لإرتباطه بوجودها التاريخي الذي أضحى ثابتًا تغدو المحافظة عليه تحدّيًا مركزيًّا. و هي مكتسبات لاتاريخية من ناحية ثانية لأنه و منذ 17 ديسمبر و ما قبلها و ما تلاها من حراك إجتماعي طرح السؤال حول تحدّي آخر لم يكن حاضرًا في أسئلة هذه النخبة و هو السؤال الإجتماعي و الإقتصادي و إن حضر يكون حضوره مناسباتيًّا و مؤقتًا و لا ينعكس في الخطاب السياسي و الثقافي لهذه النخبة بشكل رئيسي.
في وسائل الإعلام التونسية أو في البيانات الصحفية و الأنشطة الثقافية تظل الأسئلة و الإتهامات و الإحراجات الموجهة لحركة النهضة مرتبطة بهذا الطوق النخبوي الذي تريد هذه النخبة إحكامه حول حركة النهضة و ربط الإختلاف معها حول أطروحاته الثقافية و الفكرية في بعدها الهوياتي. و يغيب الرهان الديسمبري الإجتماعي الإقتصادي الذي لا تراها النخبة تحديًّا يستحق الخوض أو المجازفة. بهذه الكيفية يتفوّق الخطاب الهوياتي كأحد أهمّ ملاحح الصراع النخبوي بين حركة النهضة و خصومها الذين يوحده هذا الخطاب الليبرالي المفرط مما يجعل الصراع بين النهضة و خصومها صراعًا ليبراليًّا-ليبراليًّا خاليًّا من أيّ جرعة إجتماعية و إقتصادية و يجعل هذا الصراع خارج سياقات 17 ديسمبر و إستحقاقاتها.
إستجابة حركة النهضة لهذا الطوق النخبوي الذي يحاصرها إعلاميًّا يبدو متسارعًا، إذ أضحت حركة النهضة تطالبًا بدخول النمط الثقافي الرسمي النخبوي من خلال تقديمها لطلب المغفرة و صكوك التوبة للمعبد النخبوي الوطني فمن النقاش عن تحوّلها لحزب مدني و تخليها عن الطابع الدعوي الذي يصاحب المؤتمر العاشر لحركة النهضة، إلى تصريح رئيس حركة النهض عن رفض تجريم المثلية الجنسية و ذلك في حوار مع الصحفي الفرنسي اوليفي رافنيلو2، إلى تصريح القيادي بالحركة حسين الجزيري عن ترحيبه بإنضمام المغنية نجلاء التونسية لحركته3… كل ذلك من نتائج إستجابة حركة النهضة للأسئلة النخبوية و هرولتها نحو الإنضمام للنمط النخبوي التونسي.
أسئلة 17 ديسمبر المغيّبة في خطاب النخبة و في صراعها مع حركة النهضة
بدل من أن يكون الصراع بين حركة النهضة و خصومها حول القضايا الإجتماعية و الإقتصاية من قبيل برنامجها الإقتصادي و موفقها من ما يطرح من البرامج و القروض التي تقدمها مؤسسات التمويل الدولية و مشاريع القوانين التي يناقشها مجلس النواب و من قبله المجلس التأسيسي التي أدّت لمراكمة الإصلاحات التشريعية و الإقتصادية التي تزيد من توريط البلاد في الإستجابة للإملاءات الدولية و تكريس التهرّب الضريبي المقنّن و الفساد التشريعي إضافة لتجاهل مطالب الحراك الإجتماعي و الإعتصامات التي شهدتها و تشهدها البلاد من قبل الشباب الذي يظلّ متمسّكًا بحقوقه الإجتماعية و الإقتصادية و بحق جهاته في التنمية العادلة و إسترداد ثروات جهاته المنهوبة. يقتصر الإشتباك النخبوي مع حركة النهضة على مسائل الحريات الليبرالية من قبيل موقفها من المثلية الجنسية أو المسألة الهوياتية كعلاقتها بالإخوان المسلمين و موقفها من التيارات السلفية و الإتهامات التي تعتمد على أخبار وإشاعات مجهولة المصدر التي يتسارع بعض النخب في نشرها و تصديقها وهو ما حدث لأكثر من مرة في وسائل التواصل الإجتماعي و وصل الأمر حتى لتنظيم وقفة إحتجاجية ضدّ خبر غير موجود أصلا مصدره موقع هزلي كما وقع مع خبر إجتماع قيادة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في أحد النزل في تونس.
لذلك تبدو حركة النهضة مهتمّة بذلك و مدفوعة دائمًا لأن توضح موقفها من هذه المسألة و مستعدّة لتقديم التنازلات حول هذه الإلحاحات النخبوية و هو ما برز من النقاش الدائر حول طبيعة حركة النهضة و مسألة تحولها لحزب مدني و الفصل بين الدعوي و السياسي. أما الموقف من التحديات الإجتماعية و الإقتصادية المطروحة تبقى غائبة عن الصراع بين النهضة و خصومها على المستوى النخبوي.
إستجابة حركة النهضة لهذه التحديات الإحتماعية و الإقتصادية يبقى خارج دائرة النقاش و الإشتباك لأنّ تحديات النخبة التونسية لا تسع هذه الأسئلة و لا تعتبرها ”تناقضات رئيسية“ تستحق الإشتباك، بذلك يظل الخطاب النخبوي ذا أفق غير إجتماعي و لا إقتصادي إنما يقتصر أفقه في الأسئلة الماقبل 17 ديسمبر و هي الصراع حول مسائل الهوية و الدين و الحقوق السياسية و الثقافية الليبرالية دون إدراك لعمق أسئلة السياق الثوري الذي دشّنته 17 ديسمبر و أخرجته للعلن و للنقاش. لكن الصراع النخبوي بين النهضة و خصومها يصرّ على العودة للوراء و طرح أسئلته و تجاهل أسئلة و مطالب المحتجّين غير المؤقتين وهم شباب ما بعد أسئلة النخبة و إلحاحاتها، هذا الشباب الذي يطرح أسئلته هذه الأسئلة التي لم تطرحها النخبة في خطابها السياسي إلاّ كمناوشات تكتيكية أو إن طرحتها فتقتصر على إعتبارها تحديات ثانوية قابلة للتأجيل أمام تحدياتها النخبوية ذات الطابع الهوياتي و الليبرالي.
الهوامش
1. عبد القادر الزغل و آمال موسى، حركة النّهضة بين الإخوان والتّونسة: كيف نفهم تقلبات و تطورات الإسلام السياسي في تونس؟، درا سراس للنشر 2014 تونس.
2. الغنوشي يرفض تجريم الجنسية المثلية.
3. حسين الجزيري عن ترحيبه بإنضمام المغنية نجلاء التونسية لحركة النهضة.
تعليقي ليس مرتبط بالاساس بالمقال .
مع إقتراب المؤتمر العاشر لحركة النهضة الكثير يتسأل عن العزل بين السياسي و الديني ،
للمشاركة في هذا الحوار الكبير (ce grand débat) ، ليس إلا :
منذ الثورة سمعنا عدة مرات قادة النهضة يصرحون بأن النهضة مفتوحة لكل تونسي يؤمن بمبادئها و مشروعها ، حتى لو كان مسيحي أو يهودي ، هذا القبول منشور في مواقع إخبارية هل هذا (القبول بإنتماء المسيحي ، اليهودي ) يسمى نهاية ما يصطلح على تسميته الاسلام السياسي ؟
شخصيا عبارة الاسلام السياسي ، المسيحية السياسية ، اليهودية السياسية ، كل هذه العبارات ليس لها معنى بالنسبة لي … الذي يخيف هو الدين السياسي بمعنى أن سلطة الروحانية ، سلطة المقدس ، هذا هو الذي يخيف .. طبيعي أنه لما نتكلم عن إسلام سياسي نقصد سلطة الدين و النص المقدس على السائس .. و هذا معناه أن المرجعية الوحيدة للقوانين (للتشريع ) هو النص المقدس الذي لا يناقش .. و هنا نرى فضل ما فكره الغرب (اللائكية) ، الطلاق بين المؤسسات السياسية و المؤسسة الدينية ، الطلاق بين الادارة العمومية و المؤسسة الدينية ، مع حق التدين الحر (إقامة الشعائر الدينية) لكل إنسان (فرد و مجموعة ) و في كل إطار الكرامة (كنائس ، مساجد ،… )، و الدولة تكون على قدم المساواة تجاه كل الأديان . و هذا لا يمنع المؤسسة الدينية أن تقوم بدورها التوعوي ، الثقافي … مع التمسك بحيادية الدولة … لذلك دائما أقول أنه لا بد من وضع نهاية ، لوزارة الشؤون الدينية .. و حتى نرقى لديمقراطية عالية ، يجب إنهاء وزارة العدل ، وزارة الاعلام … الآن نرجع إلى حركة النهضة ، إذا هل المسلم (ما يسمى بالمسلم العاصي عند العموم ) الذي لا يقيم الشعائر و يتفق مع المشروع السياسي ، الاقتصادي ، يمكن أن ينتمي لحركة النهضة ؟ ثم هل حركة النهضة في مؤتمرها العاشر ، ستضع ايديولوجياتها السياسية (ليبرالية، يسارية، …) ؟ و هذا لا يعني أن على حركة النهضة أن تتخلى عن انتمائها الاسلامي ، العربي ، و عن مرجعياتها الاسلامية كتراث إنساني ثري بإنجازات عظيمة كجزء من مرجعياتها الفكرية و الفلسفية .. المطلوب هو خلق المعادلة (كما فعلت الأحزاب الغربية ) في العزل بين السياسي و الاداري من جهة و سلطة الدين، سلطة الكنيسة ، ثم التعامل الديمقراطي مع كل الأحزاب التي يسمح بتأسيسها الدستور، و مع كل أفراد الشعب على قدم المساواة.. بمعنى هذا النوع من (ما يعرف عند الجميع باللائكية) هو في حقيقته هو الضامن لوجود الجميع في إطار سلم أهلي وهو الذي يهدء الأجواء (la vie dans société et dans l’espace public ) … هكذا يكون إحتكام الجميع للدستور و للمشرع الذي هو مجلس نواب الشعب دون تقسيم الناس إلى مجموعات دينية أو مخالفة للدين … بمعنى، معنى المواطنة ، قيم المواطنة هي أساس كل شيء و فوق كل شيء … و فكرة الخطيئة الدينية تموت و la تصبح مقياس يلتجأ إليها السائس (رجل الدولة و المشرع )… و لا فرق بين مؤمن و ملحد ، أو … إلا بالمواطنة (بقدر اجتهاده من أجل الوطن )، و تلك هي التقوى الجديدة … خيانة الوطن هي الجريمة الكبرى ، و ليس الكفر أو الالحاد أو التدين بدين آخر غير الاسلام (ما يعرف بالردة) …
هل ستنجح حركة النهضة في إحداث هذه المعادلة ؟ ننتظر المؤتمر …