media-tunisie-distraction

بين منابر الإعلام ومنابر المساجد، تُفتَح سجالات حامية ومشحونة حول دين الشعب وعاداته ومنظوماته القِيَمية. وينتصب دعاة وإعلاميون ومطربون من كل حدب وصوب للدفاع عن ”الهوية المهددة“. وقد بات اسم جمعية شمس، المُتهمة بنشر المثلية الجنسية في المجتمع، يتردد على كل الألسنة. ونَدُر أن يحظى أحد الجامعيين التونسيين -على قلتهم- باهتمام مجتمعي واسع على غرار ما نالته الأستاذة المختصة في الإسلاميات التطبيقية، نائلة السليني، التي تُطاردها تهم الزندقة و”العداء للإسلام“، لأنها عارضت برنامج تحفيظ القرآن في المدارس العمومية أثناء العطل.

هذا السجال الذي دفَع به الإعلام المهيمن دون أن يغلق أقواسه، تلقّفته الخطابات الدينية المنغلقة، ذات النزعة التكفيرية، لتجعل منه مادة للدعاية لأطروحاتها الثقافية والسياسية، واضعة بذلك الأفكار الأخرى في دوائر المحظور الديني والأخلاقي. وقد أفلحت إلى حد ما في إعادة التموقع بنفس الثقل السابق، مستعيدة جانبا كبيرا من إشعاعها الذي فقدته بفعل التواطؤ الثقافي والسياسي مع ظاهرة الإرهاب. ومن المفارقات أن نفس المنظومة الإعلامية التي سعت إلى عزل هذه الخطابات الدينية في مرحلة سابقة، نراها اليوم تعبد لها طريق العودة والانتشار، وهو ما يطرح تساؤلات شتى حول هذه الاستراتيجيا وارتباطها بالواقع الثقافي والاجتماعي من جهة، ودلالاتها السياسية من جهة أخرى.

طرح إعلامي مشوّه

انسجاما مع منطق الإثارة الإعلامية، قرّرت القنوات التلفزية الأكثر مشاهدة، فتح بعض “التابوهات” الاجتماعية على غرار قضية المثلية الجنسية والمسألة الدينية التي طُرِحت في سياق الجدل حول تحفيظ القرآن في المدارس العمومية. ومن هذا المنطلق انتصبت برامج تلفزية، حضرها بعض المُمثلين والإعلاميين والمطربين وغاب عنها علماء النفس وعلم الاجتماع، ليتم بذلك اختزال هذه المسائل المعقدة في إشكاليات مبسّطة، من قبيل: هل المثلية الجنسية حلال أم حرام؟ أو هل أنت مع تحفيظ القرآن أم لا؟. وقد كان هذا الطرح يتناسب إلى حد بعيد مع ثقافة المدعوّين الذين تحصنوا بمواقع ”أخلاقوية“ محافظة، وصلت ببعضهم حد التلويح بأن الفصل الأول من الدستور يخوّل له إدانة المثليين ويسمح له بالزواج من أربع نساء.

هذا المنهج الاختزالي في تناول الظاهرات الاجتماعية، هيأ الأرضية السّجالية للخطابات الدينية الأرثوذكسية التي تزعم حراسة المعتقدات والقيم. وقد وجدت أمامها مساحات ثقافية قاحلة –في ظل تغييب المقاربات السوسيولوجية- لتَشحن الوعي الشعبي بإسقاطاتها الفقهية، زاعمة تمثيليتها للذات الإلاهية، وهو ما عبّر عنه إمام جامع السلام بصفاقس فتحي الرباعي (قمنا بحذف الرابط حتى لا نساهم في نشر خطاب الكراهية)، حيث قال في خطبة الجمعة ”نحن على المنابر إنما نقول ما قاله الله“، مبرّرا بذلك شرعية الدعوة لقتل المثليين. وبالتوازي مع ذلك سعى بعض الأئمة المتحزبين إلى نقل هذا السجال من سياقه الديني وإعطاءه طابعا سياسيا لا يخلو من الأدلجة، وفي هذا السياق برز الإمام السابق لجامع اللخمي رضا الجوادي بخطابه الهوياتي الذي ينذر بوجود ”حرب على الإسلام“، ملوّحا بأصابع الاتهام لليسار المتطرف و”بقايا الشيوعية المهزومة حضاريا” التي تستهدف هوية الشعب على حد تعبيره. وفي حقيقة الأمر كان هذا المآل منتظرا إن لم نقل حتميا، لأن الدعاة كانوا يعلنون حربا “دونكيشوتية” على أعداء مفترضين للإسلام، خصوصا وأن الواقع الاجتماعي لم يكن يتضمن تهديد فعلي لمسألة الهوية.

توظيف التأثر وتعطيل الحس النقدي

يقول الفيلسوف وعالم اللسانيات الأمريكي نعوم تشومسكي ”إن استثارة الانفعال العاطفي بدلاً من التفكير هي طريقة تقليدية تُستخدم لتعطيل التحليل المنطقي، وبالتالي الحس النقدي للأشخاص. كما أن استعمال المفردات العاطفية يسمح بالمرور للا-وعي حتى يتم زرع أفكار به، ورغبات، ومخاوف، ونزعات أو سلوكيات“.

ولعل المقاربة ”التشومسكية“ تنير قراءة أفضل للسياق التونسي. رغم ما يبدو من تمايز ظاهري بين الخطاب الإعلامي المُهيمن والخطابات الدينية التكفيرية، فإنهما يلتقيان في آلية خطابية، يمكن أن نصفها بـ”توظيف التأثر“. فالإعلام المهيمن أبرَزَ قضية المثلية الجنسية رغم أنها لا تكتسي طابعا صراعيّا في الواقع الاجتماعي، معوّلاً في ذلك على تأثر الرأي العام بمثل هذه القضايا لأنها من جنس المحظور، ومن المعلوم أن كل محظور يُثير ضجة ويولّد سجالا. ولم تكن الغاية فقط، الترفيع في نسب المشاهدة، وإنما تندرج هذه الإثارة في سياق أجندا إعلامية مرتبطة بمراكز السلطة، حيث تم تحويل قضية المثلية الجنسية إلى مادة إعلامية رئيسية في حين تم تغييب محاور أخرى أكثر مصيرية وأشد ارتباطا بالواقع الاقتصادي والسياسي على غرار القانون الأساسي للبنك المركزي وقرض صندوق النقد الدولي، علاوة على خفايا الترتيبات السياسية الجديدة المتعلقة بما يعرف بقانون المصالحة الاقتصادية.

أما الخطابات الدينية المنغلقة فإنها سعت إلى استثمار التأثر العام بمثل هذه القضايا، مستخدمة في ذلك آلية التجييش العاطفي، التي اكتسبتها بفضل هالة التقديس المستمدَّة من احتكار التحدث باسم المعتقدات الدينية. وتعمد هذه الخطابات إلى توظيف الإسلام كـ”رأس مال رمزي“ -على حد تعبير عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو- في معاركها السياسية والاجتماعية تحت يافطات ”الذود عن الهوية“ و”حراسة القيم“. ومن خلال هذا الحضور التجييشي يُنَصّب الدعاة والأئمة أنفسهم حماة للتماسك الاجتماعي أمام النخبة المتعلمنة التي ”تحارب الإسلام“ على حد وصف بعضهم، ويظهر هنا ارتباط بعض الأئمة بالأحزاب الإسلامية على غرار حركة النهضة وحزب التحرير، وبالتالي تلوح من جديد معضلة توظيف الدين كمعطى متعالي في خدمة مشاريع سياسية ذات جوهر بَشري خالص.

بالإضافة إلى هذا يلتقي الخطابان الإعلامي والديني في عداء الحس النقدي، لأنه الوحيد القادر على الحد من استراتيجيا التأثر المذكورة، وقد وصف سمير الوافي في إحدى حلقات برنامج ”لمن يجرؤ فقط“ موقف الجامعية نائلة السليني من مشروع وزير الشؤون الدينية بـ”معاداة معتقدات التونسيين من قبل فئة شاذة وضالة“، وفي نفس الاتجاه رفض الإمام رضا الجوادي مشاركة النخبة الأكاديمية في نقاش المسائل الدينية قائلا ”المفكرون أمثال يوسف الصديق وألفة يوسف متطفلين على الميدان العلمي والشرعي“. ويعكس هذا النبذ للآخر المفكر، موقفا اجتماعيا وسياسيا قديما، معاديا للفكر العقلاني الذي ظل يُرمى بالشذوذ والضلالة وعدم الأهلية بتعلة أنه لا يعبر عن الحقيقة الدينية المطلقة التي ما فتئ يحتكرها فقهاء السلاطين.

وبالمقابل توّرط جانب من النخبة الأكاديمية في شراك الإشكاليات العمودية التي صاغتها الخطابات الإعلامية والدينية، القائمة على ثنائية الحلال والحرام، والتي لا تحتمل سوى الإجابة بنعم أو لا. في حين أن المسائل المطروحة للنقاش تتطلب وعيا تاريخيا عميقا، وإلماما بسوسيولوجيا الظاهرات، لا توفره إلا النقاشات العقلانية والهادئة. ومن هذا المنطلق تم استدراج الخطاب النخبوي إلى نقاش عقيم ساهم في تشويش الوعي الشعبي وحال دون تحريره من براثن الوهم والاستلاب.