abdelwahab-abdallah

عودة كبار مُعاوني النظام السابق إلى الواجهة الإعلامية والسياسية أصبح مُلفتا للانتباه، وتتسع دوائره شيئا فشيئا لتشمل الصف الأوّل من مُهندسي مرحلة الـ23 سنة، الأمر الذي جعل البعض يعلّق مازحا ”لم يتخلّف عن الركب سوى بن علي وزوجته“. وتتقاطع هذه العودة مع سياقات الحكم المسكونة بهاجس الاستفادة من امتدادات النظام السابق، تحت شعار سياسي مُلتبس ”المصالحة الوطنية“، وفي هذا السياق تهافت قصر قرطاج ومقر النهضة بمونبليزير على استقبال رجالات العهد القديم، من بينهم محمد الغرياني، الأمين العام السابق لحزب التجمع المنحل، الذي نال حفاوة الاستقبال من رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي.

عبد الوهاب عبد الله، أحد العقول القديمة التي حصّنت قلعة نظام بن علي طيلة أكثر من عقدين، كان آخر العائدين إلى المشهد، حيث نال شرف الاستقبال في قصر قرطاج يوم 16 ماي الجاري. وبغض النظر عن التقليل من شأن العودة إلى القصر التي اعتبرها البعض ”مناسباتية“ –وهي الأولى بعد أن غادره عقب 14 جانفي 2011- فإن رمزية الرجل تخضع لميلاد جديد، ومازالت ”سيرته الطيبة“ تتردد على لسان مريديه وتلاميذه القدامى من متصدّري الإعلام التّلفزي هذه الأيام، على غرار برهان بسيس وسمير الوافي، الذين طالما عبّرا عن امتنانهما لنِعم الرجل عليهما كلّما ذُكر اسمه. ولعلّ الأمر يتجاوز الوفاء العابر لأولياء النّعمة، لأنه يعكس تجددا لشبكة الدعاية الإعلامية القديمة، خطابا وممارسة، وهو ما يجعل العودة إلى الماضي ضرورية لفهم سياقات الحاضر وملابساته.

عبدالله: مهندس منظومة الدعاية

يشكّل الإعلام في منظومات الحكم الحديثة والمعاصرة أداة هيمنة، نظرا لما يتيحه من آليات ناعمة للسيطرة على المجتمعات وترويضها. وتتّسع الحاجة إلى التوظيف التسلّطي لهذه الأداة في الأنظمة المُسقطة، الفاقدة لأي شرعية شعبية، ولم يشذ نظام بن علي الذي حكم البلاد أكثر من 23 سنة عن هذه القاعدة. وكان من المنتظر أن توجهات الهيمنة في بداية العهد السابق استوجبت جهاز دعاية يتطابق مع خيار الحكم الكلياني، ويبرز هنا اسم عبد الوهاب عبدالله، واحد من أهم أركان المنظومة الدعائية التي أمّنت استمرار نظام بن علي طوال هذه المدة. تقلّد مناصب إعلامية قبل انقلاب 7 نوفمبر 1987، أهّلته ليكون الواجهة الدعائية للنظام الجديد، وتشي مسيرته بقدرة على تحسين المواقع داخل منظومة الإدارة والحكم رغم أنه لم يخض تجربة حزبية مرموقة. فمن مدرّس بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار مطلع السبعينات بشهادة ماجستير يتيمة في العلوم السياسية من جامعة باريس، إلى رئيس إدارة الشركة الجديدة للطباعة والنشر ومدير عام جريدة ”لابراس“ سنة 1979، ثم رئيس وكالة تونس إفريقيا للأنباء سنة 1986، لينتهي به الأمر وزيرا للإعلام في الأيام الأخيرة لنظام بورقيبة في 10 سبتمبر 1987، أي شهرين قبل انقلاب 7 نوفمبر، ويظهر أن الرجل أجاد التموقع في مرحلة كان الصراع فيها على السلطة داخل أجنحة الحكم وخارجه تَفتح على عدة إمكانيات.

يلوح أنه كان يترقّب في المفترق ليَضع منصبه كوزير للإعلام في خدمة المستحوذ الجديد على منصب الرئاسة مهما كان لونه، ومع صعود بن علي لسدة الحكم عَمِل الرجل جاهدا على تلميع صورة النظام الفتي في أشهره الأولى، ليتم تعيينه بعد ذلك سفيرا بالمملكة المتحدة في أكتوبر 1988. ومع بداية التسعينات -التي انتهت فيها فسحة الكلام ونَضُج فيها خيار التصفية لكل نفس مخالف للنظام- تجدّدت الحاجة لرجل دعاية قوي يبرّر جرائم النظام ويلمّع صورته في تونس وخارجها، وقد كان عبد الوهاب عبدالله آخر وزير إعلام في عهد بورقيبة الأقرب إلى هذه المهمة في حسابات الرئيس بن علي، فاستقدمه في ديسمبر 1990 ليعيّنه مستشارا إعلاميا وناطقا رسميا باسم الرئاسة. وقد تزامن قدومه مع مضي 5 أشهر على تأسيس وكالة الاتصال الخارجي ATCE التي تحوّلت بفضله إلى غرفة دعاية للنظام الباحث عن تسويق صورة وردية تطمس حقيقة ما يجري في الواقع من انتهاكات ولصوصية تقوم بها العائلة الحاكمة. وقد فتحت الوكالة فروعا في العديد من المدن الأوروبية على غرار باريس وستراسبورغ ولندن وفرانكفورت وبروكسيل، وأسست شبكة من الولاءات تضم عددا من الصحفيين الأجانب مهمتهم الترويج لأجندات نظام بن علي في الخارج، وموّلت العديد من الكتب التي تحتفي بالرئيس بن علي على غرار كتاب ”بن علي بعيون مصرية“ للمصرية جيهان عاصم وكتاب «La Tunisie une démocratie naissante» للكاتبين Nicole Ladouceur وLuc Dupont، الذي صدر سنة 1993، وغيرها من الكتب والمقالات الأخرى التي وفّرت لأصحابها خدمات مجانية أثناء العطل التي قضوها في تونس. علاوة على هذا عملت الوكالة على خنق حرية التعبير في الداخل من خلال الرقابة الأمنية المفروضة على الصحافة المستقلة، وهندست بالتنسيق مع وزارة الداخلية حملات تشويه واسعة ضد الخصوم السياسيين للنظام.

عبد الوهاب عبدالله: ولي نعمة الصحافة

رغم العديد من المتدخّلين في المجال الإعلامي في الفترة الفاصلة بين 1990 و2003، على غرار رئيس وكالة الاتصال الخارجي ووزير الاتصال، فإن عبد الوهاب عبدالله كان يحتكر مركزية الإشراف على المشهد الإعلامي بفضل إمساكه بدائرة الإعلام التابعة للرئاسة. وقد مَنَحه ترؤس بعض المؤسسات الإعلامية في عهد بورقيبة مثل جريدة ”لابراس“ ووكالة تونس أفريقيا للأنباء قدرة على الاحتكاك بالقطاع ويسّر له الإمساك بدواليبه في فترة لاحقة. وقد اعتمد عبد الوهاب عبدالله سياسة العصا والجزرة في إدارة الشأن الإعلامي، فقد كان يعطي الجزرة بيده اليمنى ويحمل العصا بيده اليسرى، مستخدما في ذلك سياسة شراء الذمم عبر المنح التي تضخّها وكالة الاتصال الخارجي للصحفيين الموالين للنظام، وكان يوزّع حصص الولاء عبر التحكّم في مسارب الإشهار العمومي، علاوة على التدخل في إسناد الوظائف داخل المؤسسات الإعلامية وخصوصا وكالة تونس أفريقيا للأنباء التي كانت تعد أكبر مشغل للصحفيين في تونس. وفي الأثناء كان يعمل على مراقبة سكنات الأقلام التي تجنح نحو الاستقلالية، واضعا العديد منهم أمام خيار التحليق مع السرب أو تطليق المهنة، والحرمان من الترقيات في أهون الأحوال.

وقد ظهر اسم عبد الوهاب عبدالله في قضية ”كاكتيس برود“ -شركة الإنتاج التي يملكها سامي الفهري وبلحسن الطرابلسي شقيق زوجة الرئيس السابق- التي تمتّعت طيلة سنوات بعائدات مالية من التلفزة الوطنية والوكالة الوطنية للإنتاج السمعي البصري دون وجه حق. وحسب سجلات ملف القضية فإن عبد الوهاب عبد الله لعب دورا كبيرا في تسهيل هذه الامتيازات من خلال الضغط على المسؤولين في التلفزة باسم التعليمات التي يسديها الرئيس السابق.

وبعد الثورة انفلتت شهادات الكثير ممّن عملوا تحت إمرة عبد الوهاب عبدالله من عقالها، لتشير إلى أن سطوة الرجل كانت تصل إلى أكثر التفاصيل هامشية على غرار تغيير ديكور البرامج التلفزية أو التحكّم في نقل مباريات كرة القدم التي تمنح لفرق على حساب أخرى، وفي هذا السياق أكد حمادي عرافة المخرج التلفزي والمدير السابق لقناة 7 وقناة 21 في أحد حواراته سنة 2012 أن ”اللون المعتمد في الديكور عليك أن تأخذ الموافقة عليه من القصر ومن عبد الوهاب عبد الله تحديدا“.

ولم يتراجع نفوذ عبد الوهاب عبدالله في القطاع الإعلامي بعد إزاحته من الإشراف على دائرة الإعلام ليخلفه المستشار عبد العزيز بن ضياء في نوفمبر 2003، بل استمرت إدارته الخلفية لشبكات الموالاة أثناء تقلّده منصب وزارة الخارجية، وفي هذا السياق عرّج تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد الصادر سنة 2011 على وضعية مراسلة وكالة الاتصال الخارجي بالعاصمة البلجيكية بروكسيل التي تمتّعت بامتيازات مالية ضخمة في إطار تكليفها سنة 2006 بتلميع صورة النظام بالخارج، وقد ذكرت في الشهادة التي أدلت بها أمام اللجنة أن ”علاقتها كانت جيدة جدا مع السيد المستشار رئيس الجمهورية السابق عبد الوهاب عبدالله الذي قام بدعمها لديه“. وفي نفس الاتجاه ذكر عبد الجليل بوقرّة المدير السابق لجريدة الصحافة من أوت 2007 إلى جويلية 2010، في شهادة له بعد الثورة ”حتى حين عُيِّن عبد الوهاب عبد الله وزير خارجية لمدة 5 سنوات بقيت له سلطة إشراف على الإعلام، وذلك باعترافه. وكان الهادي مهني المكلف بالإعلام في قرطاج يستشيره في القرارات الكبرى مثل تعيين مديري المؤسسات الإعلامية“. وقد وردت هذه الشهادة في حوار أجرته معه أسبوعية آخر خبر سنة 2012.