لا تقتصر الديون التونسيّة أو المساعدات الماليّة على البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي الذّي وافق في شهر أفريل الفارط على منح تونس قرضا جديدا بقيمة 2.8 مليار دولار بعد تعهّد الحكومة التونسيّة بتنفيذ سلسلة من ”الإصلاحات“ الهيكليّة للمؤسسات المالية التونسيّة. إذ راكمت الحكومات المتعاقبة القروض من مختلف الدول وهيئات النقد الدولية والإقليميّة. تنوعت هذه المساعدات لتشمل في جزء منها هبات ماليّة في حين كان الجزء الأكبر قروضا فاقمت من معضلة المديونية التونسية لتصل إلى حدود 54% من الناتج المحليّ الخام وبقيمة جملية ناهزت 20 مليار دولار حسب ما جاء في قانون المالية لسنة 2016.
“سياسة التسوّل” التي انتهجتها الحكومات التونسية المتعاقبة خلال السنوات التي تلت جانفي 2011، لم تدّخر جهة مانحة إلا وتوجّهت إليها بطلب قرض أو هبة في محاولة لمنح الاقتصاد المحلي المتهالك المزيد من الوقت والإيفاء بسداد القروض السابقة والالتزام بنفقات التصرّف والتسيير في الدوائر والمؤسسات الحكومية.
وتكشف المواقع الرسمية لهيئات النقد الدولية ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إضافة إلى مراسلات عدد من سفارات الدول الأوروبية في تونس عن تفرّع شبكة الدائنين لتشمل 3 قارات تقريبا. وقد رتّبت منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية OCDE قائمة الدول والهيئات المانحة العشر الأوائل لتونس، لتشمل مؤسسات النقد الأوروبيّة وفرنسا وألمانيا وسويسرا وإيطاليا، إضافة إلى تركيا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان. كما تحصلت تونس خلال الفترة الممتدة بين سنوات 2011 و2015 على قروض وهبات من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وصندوق الأوبك للتنمية الدولية. في حين لم يشمل تصنيف منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية القروض الممنوحة من كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي خلال تلك الفترة والتي ناهزت 3617.8 مليون دولار. ويعود استثناء هاتين الهيئتان من القائمة، إلى طبيعة قروضها التي تعتبر قروضا مجحفة بالنظر إلى بقية الدول المانحة والتي تمنح قروضها وفق شروط ميسّرة على مستوى فوائد الدين ومدّة التسديد.
على الرغم من ضخامة الهبات والقروض الممنوحة للحكومات التونسية المتعاقبة خلال تلك الفترة إلا انّ وضعية الاقتصاد المحلي لم تتحسّن، لتواصل مختلف المؤشرات تدهورها إضافة إلى تضخّم قيمة الديون المتراكمة. إذ تحوّلت سياسة التداين إلى ثقب أسود للاقتصاد التونسيّ، حيث تستهلك تونس القروض الجديدة لخلاص جزء من القروض السابقة وتوفير السيولة لنفقات التصرف والتسيير التي تبتلع 70% من موازنات الدولة، أي أن القروض الممنوحة لتونس تتحوّل لديون استهلاكيّة ولا يتم توجيهها نحو الاستثمار وتنشيط الدورة الاقتصادية لخلق الناتج الكفيل بتسديد تلك القروض. وقد وصل الاقتصاد التونسي إلى مرحلة الاعتماد الكليّ على الاقتراض لتجاوز العجز المتفاقم في الميزانية العمومية. هذه السياسة، وإن مكنّت الحكومات المختلفة من تخفيف ارتدادات التدهور الاقتصادي، فإنّها لن تلبث أن تعود بالبلاد إلى المربّع الأوّل من العجز والاختلال في الموازنات المالية مع تواصل تراكم المديونية وتضخّم استنزافها للناتج المحلي الخام على حساب الأولويات الاجتماعية والاقتصاديّة العاجلة.
لا يمكن الاعتماد على سياسة التسوّل والاقتراض إلى ما لانهاية رغم أنّ بعض حكام هذا البلد/المزرعة يتبجّحون بصفاقة بأنّ نسبة الديون مقارنة بالناتج الداخلي الخام ضعيفة مقارنة بدول الشمال (!)، إلا أنّ نتائج سياسة مراكمة الديون الخارجية على المدى المتوسّط ستكون: (1) التخفيض كبير في نفقات الاجتماعية والمخصصة للصحة والتعليم، (2) عملية خصخصة واسعة النطاق ستصل حتى لبيع أراضي الدولة وربما التخلّي عن بعض الموانىء، الطرقات والمطارات إضافة لكل الشركات العمومية و(3) وضع يد الجهات الدائنة بشكل كامل ونهائي على السياسة المالية والاقتصادية للبلد. هذه النتائج مضافة إلى نتائج اتفاقية التبادل الحرّ الجديدة مع الاتحاد الأوروبي والتشريعات النيولبرالية التي مُرّرت (أو بصدد التمرير) في مجلس دواب الشعب (قانون رسملة البنوك، قانون استقلالية البنك المركزي، قانون هيكلة النظام المصرفي وقانون الاستثمار الجديد) سيكون أثرها على المدى المتوسط: (1) القضاء على جزء كبير مما تبقّى من النسيج الاقتصادي الوطني (المتكون أساسا من مؤسّسات عائلية، صغيرة ومتوسطة غير مُمكْننة وغير قادرة على المنافسة حسب المعايير الدولية)، (2) ارتفاع كبير في عدد العاطلين عن العمل و(3) ارتفاع غير مسبوق في نسب الفقر والجريمة. سيدفع شعبنا المتخلف ثمنا باهضا لجهله وانحطاطه واختياراته اللاعقلانية وعلى نفسها جنت براقش