الصور السياحية الجميلة التي تشكّلت منذ سنوات حول خصوبة واحات الجنوب التونسي -الكائنة أساسا بجهات قبلي وتوزر وقفصة وقابس- ساهمت في إخفاء واقعٍ متشابك الأبعاد والمصالح. بالإمكان قراءته من خلال ملف الاتجار بالتمور. هذا القطاع الذي مافتئ ينشط تحت الظل، إلى أن انفجرت أزمة صغار التجار والفلاحين بجهات قبلي ونفطة خريف 2015. سحبت هذه الأزمة وراءها الكثير من الأسئلة: من يمسك بخيوط الاتجار بالتمور؟ أي دور للدولة في تنظيم هذا القطاع؟ ما مصير الواحات في ظل انتشار حمّى التصنيع والربح السريع؟ تحقيق نواة.
المحتكرون يمسكون بخيوط القطاع
أثناء جولة قمنا بها في واحات توزر وقبلي ترددت على مسامعنا الكثير من أسماء كبار التجار والمصنّعين “بوجبل والحرشاني والنوري”، الذين يصفهم البعض بـ”المونوبول”، وهي ترجمة فرنسية لكلمة الاحتكار. في هذا السياق يسرد بلقاسم بن رحومة، أصيل جهة قبلي وأحد المشاركين في احتجاجات السنة الفارطة، الأسباب التي أدت إلى اندلاع الأزمة، مؤكدا أن “التخفيض في أسعار التمور لموسم 2015 والتحكم في السوق من قبل كبار المحتكرين ساهم في تردي أوضاع العديد من الشبان، الذين بعثوا مشاريع مخازن تبريد بقروض موسمية من البنك التونسي للتضامن”. وأضاف محدثنا أن “البنك المذكور رفض جدولة ديونهم وضغط عليهم بواسطة صكوك ضمانات تبيّن أنها ليست قانونية”.
تشير جل الشهادات إلى أن الاحتكار هَيمن على القطاع عن طريق شبكة من التّجار والوسطاء، يقومون بتجميع صابة التّمور حسب السعر المحدد سلفا من قبل “أباطرة السوق” على حد تعبير أنور بالحبيب، الناشط في المجتمع المدني والمنسق المحلّي لاتحاد المعطلين عن العمل بدوز. وأشار بالحبيب إلى أن “أحد التجار الكبار عمد السنة الفارطة إلى توريد كمية كبيرة من التمور من الجزائر لخلق فائض في التخزين مما سهّل عليه المناورة للضغط على الأسعار”.
في نفس السياق أشارت ناشطة في المجتمع المدني بنفطة ومتابعة لاحتجاجات السنة الفارطة بالمنطقة-رفضت الكشف عن اسمها- إلى أن الفلاحين تعرّضوا إلى ما يشبه العقاب بسبب بيع محصول سنة 2014 لتاجر تمور قادم من ليبيا اشترى بأسوام مرتفعة، مؤكدة أن “هذا الأمر أغضب التجار المحليين الكبار، فقرّروا التخفيض في سعر التمور لسنة 2015 ليبلغ دينار واحد عوض 2,5 د بتعلة أن لديهم مخزون. صغار الفلاحين وجدوا مشاكل في تصريف الصابة لأنهم رفضوا الخضوع للابتزاز. البعض اكترى مخازن تبريد بأسوام مرتفعة والبعض الآخر أتلِفت محاصيله”.
غياب الدولة
أزمة تصريف الصّابة وعدم تحديد سقف أدنى لأسعار التمور جعل القطاع تحت يد كبار التجار. وهو ما يطرح تساؤلا حول الدّور التنظيمي للدولة، وعبر أي المؤسسات تتدخل لهيكلة الاتجار؟ كشفت احتجاجات 2015 عن أزمة غياب الدولة في تنظيم هذا القطاع، إذ أنها لم تتدخل في تحديد الأسعار، علاوة على أنه لا توجد مؤسّسة عمومية ترعى هذه المادة الفلاحية، على غرار ديوان الحبوب وديوان الزيت. وعندما اشتد الاحتقان في السنة الفارطة تدخلت الدولة عبر المجمع المهني المشترك للغلال، الذي لعب دورا هامشيا في شراء الصابة. ولم يخف الكثير من المشاركين في احتجاجات 2015 استياءهم من هذا الدور، مؤكدين أن “المونوبول” مازال يبسط نفوذه رغم الأسعار المعقولة التي سادت هذه السنة والمتراوحة بين 2د و2,5د للكغ الواحد.
في هذا السياق أكد محمد علي الهادفي، الكاتب العام الجهوي للاتحاد العام التونسي للشغل بتوزر “الدولة لا تشرف على تنظيم الاتجار بالتمور، لأنها لا تعتبر هذه المادة استراتيجية. مجلة العقود والالتزامات فيها كل شيء عن الأنشطة الفلاحية باستثناء التمور. وفي مجلة الشغل أيضا يصنفون عدة أنشطة فلاحية، من بينها القطن، باستثناء التمور”. وقد أضاف الهادفي بأن غياب دور الدولة ترك المساحات شاسعة للمحتكرين وخلق أوضاع اجتماعية هشة يعاني منها صغار الفلاحين والعمال الفلاحيين، أو ما يسمّون في منطقة الجريد بـ”الخمّاسة” لأنهم يحصلون على الخمس من المحصول.
تصدير التمور في قبضة الاحتكار
حسب منشورات المجمع المهني للغلال فإن التمور التونسية مُوجّهة بنسبة 60 بالمائة للتصدير، وتُباع في أكثر من 57 دولة موزّعة على القارات الخمس. ويشير المجمع إلى أن أوروبا تحظى بالنصيب الأكبر من الصادرات. وحسب نفس المصدر تنتصب بمختلف مناطق الجمهورية حوالي 67 مؤسّسة مصدّرة للتمور. تظل هذه الإحصائيات عامة مقارنة بما يحيط بعملية التصدير من خفايا تتعلق باحتكار الأسواق العالمية وبجودة التمور المصدّرة. في هذا السياق أكد أنيس بن حسن صاحب مصنع “إيكودات” وخبير في المجال البيئي ومراقبة الجودة أن “الأسواق التقليدية يسيطر عليها التجار التقليديون (بوجبل والنوري والحرشاني)”. مشيرا إلى أن “هيمنة نزعة الربح السريع على هؤلاء أثرت على جودة التمور التونسية، والمصانع التي تحترم المواصفات تعد على أصابع اليد”. وأضاف محدثنا بأنه من السهل اقتحام أسواق عالمية مثل كندا وروسيا شرط تحسين الجودة، وهناك محاولات فردية لتطوير مواصفات المنتوج التونسي تتم بمعزل عن المؤسسات العمومية.
من جهته أكد نور الدين بن مسعود، صاحب مؤسسة “تمر” بمنطقة دوز أن “نوعية التمور التي يتم تصديرها ليست جيدة، لأن المحتكرون يشترون أقل أنواع التمور جودة بأثمان بخسة من الفلاحين، ثم يعيدون تصنيعها لتأخذ مظهرا مقبولا، يخفي رداءتها”.
واحات في طريقها إلى الفناء
الاستنزاف السنوي للواحات من طرف التجار، يوازيه غياب استراتيجيا لاستصلاح النّخيل وغراسة أنواع جديدة. ومن الأمثلة على ذلك الواحة القديمة بجهة توزر التي تبلغ مساحتها 945 هكتار، وتضم هذه الواحة عشرات الهكتارات التي ماتت فيها أشجار النخيل واقفة، فيها بعض المناطق التي هجرها سكانها بالكامل. في هذا السياق أكد عادل الزبيدي، رئيس جمعية حماية واحات توزر أن “مشكلة الواحة القديمة هي عدم تجديد الغراسات، الكثير من النخيل مهددة بالاتلاف ولايوجد من يساعد الفلاح”.
من المفارقات الأخرى أن كبار التجار يشيّدون ثروة طائلة من قطاع التّمور ولكنهم لايستثمرون في تجديد الغراسات أو استصلاح الواحات، وبالمقابل معظمهم يملك نزلا ووكالات بيع السيارات ومشاريع أخرى سياحية، معظمها موجود خارج منطقتي الجنوب الشرقي والغربي. من جهة أخرى يسجل أيضا غياب بارز للدولة في حماية الواحات القديمة من التلف ومساعدة صغار الفلاحين في استصلاح أراضيهم، ومن الأدلة على ذلك ما تسببت فيه مؤخرا ملوحة المياه بعين السخونة بمنطقة جمنة في إتلاف 2600 نخلة بشكل نهائي، إضافة إلى التضرر الجزئي لأكثر من 6000 نخلة. وحسب معطيات أوردها راديو نفزاوة فإن “الملوحة توسعت بشكل خطير في الطبقة المائية لتصل على مدى 14 كلم”.
هذه المخاطر الطبيعية يعزز من انتشارها الغياب التام للدور الفلاحي للدولة من جهة، وتنامي نزعة الربح الأعمي في أوساط التجار والمصنعين من جهة أخرى، الأمر الذي سينتهي بعشرات الآلاف من شجر النخيل إلى التلف وانعدام الانتاجية.
Veuiller prendre contact avec le projet Gestion Durable des Ecosystèmes Oasiens géré par le Direction GQEV au secretariat d’Etat pour l’environnement (ex ministere de l’Environnement) pour d’autres choses sur les oasis
إن تعزيز ديناميكية القطاع الفلاحي بفترض وضع مخطط يهدف الى تنفيذ رؤية ترمي الى إعادة هيكلة النسيج الانتاجي للقطاع الفلاحي الوطني بما يمكن من رفع التحديات الكبرى لهذا القطاع والمتمثلة أساسا في تحدي نظم توزيع وتسويق المنتجات الفلاحية، والإدماج الهيكلي بين القطاع الفلاحي والصناعات الغذائية.
والملاحظ ان القطاع الفلاحي ببلادنا لم يشهد تحولا عميقا ولم يقع تنفيذ إجراءات مهيكلة لمخطط متكامل قادر على أن يُنتج ديناميكية حقيقية للقطاع خاصة من خلال التعزيز المتواصل للاستثمارات الفلاحية بل إن التحول الهيكلي للقطاع يسير نحو تردي في القيمة المضافة الفلاحية بمعدل سنوي ملحوظ
ومن جهة أخرى،لم تساهم الإجراءات المتخذة في تعزيز التنافسية الخارجية للمنتجات الفلاحية التونسية ، مما ترتب عنه على الخصوص، الخفظ من صادرات المنتجات الفلاحية على خلاف المغرب مثلا الذي تمكن من تحسين تصنيفه في هذا المجال ليتبوأ المرتبة الثالثة من بين الدول المصدرة للمواد الغذائية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والرابعة على مستوى القارة ا لإفريقية.
وعموما لم ينجح القطاع الفلاحي التونسي أيضا في دعم مناعته تجاه التغيرات المناخية عبر الرفع من مساحات المغروسات ذات القيمة المضافة العالية ، وهو ما لم مكن من تعزيز السلاسل الأقل تأثرا بالجفاف على حساب سلسلة الحبوبوانخفضت القيمة المضافة للهكتار الواحد، حي بلغت أدناها على مستوى المساحات المسقية.
وتعزى هذه النتائج السلبية على الخصوص إلى انعدام الإجراءات الفعالة في إطار سياسة اقتصاد الماء المتبعة منذ عدة سنوات ، والتي أدت إلى التقليص من المساحات المجهزة بتقنيات اقتصاد الماء بنسبة كبيرة،
كما يعزى في بعض نتائجه الى عدم تعزيز النموذج التنموي الوطني نحو نمو إدماجي ومنتج لفرص الشغل ومقلص للفوارق الاجتماعية وبين (الجهات )
ومن ناحية أخرى، يجدر الذكر أنه خلال السنوات العشر الاخيرة لم يقع إعطاء الأولوية لدعم المنتوجات الزراعية، وذلك بالموازاة مع دعم مداخيل المزارعين الأكثر هشاشة عبراعتماد مشروع خاص بعملية استبدال المزروعات ، تنطلق بتقديم مساعدات للفلاحين تمكنهم من مواكبة هكذا مشاريع، وكنتيجة لكل ذلك انخفض الناتج الداخلي الخام الفلاحي للفرد في الوسط القروي ولم تتحسين المداخيل والظروف المعيشية وأدى، من جهةأخرى ، إلى ازدياد ملموس في نسبة المتساكنين الذين يعانون من الفقر و من نقص التغذية،ومما لاشك فيه ان عدم النجاح في التقليص من نسبة الفقر و الفقر الغذائي يحكُم على عموم التجربة في مجال الأمن الغذائيي
وعليه فان تونس تحتاج الى وضع مخطط للقطاع الفلاحي يهدف بالاساس الى بناء فلاحة ناجعة ومستدامة وتنافسية تغطي كافة السلاسل الانتاجية وفئات الفلاحين وتساهم في ضمان الأمن الغذاعي عبر توفير مواد غذائية ذات جودة عالية.
و علينا بهذا الخصوص العمل على اعادة النظر فيما يخص الإنتاجية الفلاحية عبر تعزيز مقاربة السلاسل المدمجة لكافة حلقات سلسلة القيمة من خلال اعتماد عقود-برامج تغطي أبرز السلاسل وذلك عبر ترسيخ مبدأ التعاقد في الالتزامات بين السلطات العمومية والشركاء المهنيين وهو ما سيرفع في الاستثمار ويخلق مناصب شغل مباشرة ويعزز في ضمانات الأمن الغذاعي ويشجع على تثمين الإنتاج من أجل الرفع من القيمة المضافة.
وكذلك علينا بذل الجهود اللازمة والضرورية والتي ترمي لعصرنة نظم توزيع وتسويق المنتجات الفلاحية، باتخاذ مجموعة من الإجراءات الهادفة لتحسين إدماج السلسلة من الإنتاج الفلاحي إلى التوزيع، عبر إصلاح الإطار القانوني لأسواق الجملة والمذابح وإطلاق
برامج كبرى ، تهم أسواق الجملة للخضر والفواكه يتم تسيرها وفق شراكة بين القطاعين العام والخاص وتهم المذابح وأسواق الماشية، وجدير بالذكر أن إصلاح المذابح وأسواق الماشية الذي يمر عبر تبني نظام تسيير يولي الأهمية لتطوير سلسلة الإنتاج، أصبح ذا طابع استعجالي خصوصا وأن غالبية المذابح تستوجب تأهيلها لتوافق معايير الجودة والصحة.
وفيما يخص منظومة توزيع المنتجات الفلاحية،علينا اعتماد عقد-إطار من شأنه محاربة هيمنة الوسطاء والمساهمة في التوزيع المنصف للمداخيل على جميع المتدخلين في سلسة قيمة الإنتاج الزراعي وغيره من الانتاج وخاصة منه التمور والقوارص والزيتون ،و دعم الاستثمارات، خاصة، من خلال مضاعفة الاستثمارات الموجهة لتسريع تطوير الصناعات الغذائة، وجدير بالذكر أن هذه الرؤية أضحت ضرورة ملحة، بالنظر إلى إشكالية قطاع الصناعات الغذائية الذي يعاني من ضعف بنيوي على مستوى مختلف حلقات سلسلة القيمة ومن ضعف الاستثمارات الداخلية و الخارجية المباشرة بالإضافة إلى افتقاره لمخطط يرسي استراتيجية تهم تطويرعملية تحويل المنتجات الفلاحية.
وبخصوص ترسيخ تنافسية الصادرات الفلاحية، فمن المتجه مراجعة سياسة التجارة الخارجية، وذلك في اتجاه اعتماد منهج يعمل على تقوية الجانب اللوجيستيكي لعملية التصدير من خلال
إنشاء منصة أو منصتين متكاملتين ومتعددتي السلاسل تهدفان للرفع من الصادرات الفلاحية الموجهة للقارة الإفريقية على الخصوص وكذا لأوروبا وروسيا وأمريكا الشمالية. وتستدعي هذه المشاريع تعزيزها بإجراءات استراتيجية أخرى تعزيز الفلاحة التضامنية، من خلال مضاعفة مداخيل المشاريع المدرجة ضمن الفلاحة التضامنية والحد من الفقر في الوسط القروي. وسيتحقق هذا الهدف على الخصوص عبر تطوير مشاريع تراعي خصوصية العالم القروي ومواصلة هيكلة الفلاحة الصغيرة، خاصة من خلال العمل على خلق التعاونياة الفلاحية وتطوير نظام التمويلات الصغرى .