مع حلول شهر ديسمبر من سنة 2010، كان نظام بن علي قد أمضى 23 سنة في الحكم. وفي الوقت الذي كانت فيه العائلة الحاكمة تتهيأ للاحتفال بعِيد نهاية السنة، كان هناك شاب منسي في مدينة سيدي بوزيد يقاوم حملة دورية تشنها الشرطة البلدية على الباعة المتجولين. دارت عجلات عربة البائع محمد البوعزيزي في اتجاه مستودع الحجز، ودارت معها عجلات التاريخ في اتجاه هدم بيوت السلطة.
كان احتراق الشاب البالغ من العمر 27 سنة قرارا ذاتيا بلا شك، ولحظة خاصة تمرد فيها جسد الإنسان حتى النهاية، وسط سياج من الظلام الحالك، صنعته السلطة بجبروتها الاجتماعي وبأزيائها النظامية المتسلطة. لم يدر بخلد ذلك الهامشي أنه سيصنع تاريخا جديدا، ولم يكن بمقدوره أن يفعل ذلك أو يفكر فيه. ولكن لحظة الاحتراق الجريئة فجّرت المكبوت الساكن في دوائر اللاوعي الجمعي، ومَنحت للمنبوذين والمغمورين والمهمشين رمزية فعالة، دفعت بهم لمسرح الصراع السياسي من جديد.
طمس رمزية الاحتراق
شكّلت الانتفاضة لحظة تاريخية قاسية، ليس فقط للعائلة الحاكمة وإنما لشبكة واسعة من المُوالين والمنتفعين. ولم يكن السقوط السلطوي أفقا متوقعا لدى البعض -حتى لدى بعض أصدقاء الثورة- إذ مثَّل الحديث عن قرب انهيار النظام في نظر الكثيرين وهمًا وركضا وراء السراب. ولكن الإرادة الجياشة للثورة هزمت توقعات السلطة وبدّدت الواقعية الباردة التي تحلى بها بعض الثوار.
في الأيام القليلة التي تلت انهيار النظام السياسي، لم يكن بالإمكان التشكيك في قيم التمرد والتضحية التي شكلت معقولية الفعل الثوري. ولكن مع بداية فتور الإرادة وعدم نجاح الانتفاضة في فرض مسارات ترتيب جديد للمجتمع والسلطة -لأسباب يفيض شرحها- عادت روابط المنظومة القديمة، متسلحة بمعاول الهدم الرمزي، لتمضي من جديد في إزاحة المجالات والقيم والشخوص التي أعلتها الانتفاضة.
بدأت عملية الهدم بالإدانة الرمزية لشخصية محمد البوعزيزي، ليتحول فعل الاحتراق إلى حالة جسدية عبثية مُفرغة من أي قيمة نضالية. وتمركزت كل الأسئلة حول تفاصيل الحادثة التي جدت صباح الجمعة 17 ديسمبر 2010 من قبيل: هل أن الشرطية فادية حمدي صفعت البوعزيزي أم لا؟ هل قال لها كلاما بذيئا أم سبّ الجلالة فقط؟ هل كان مخمورا في ذلك اليوم لكي يقدم على الاحتراق؟ وقد تحولت هذه الأسئلة إلى مادة صحفية، انتشرت في مختلف الوسائط الإعلامية التي تربط أصحابها علاقات وطيدة بالنظام القديم. من الأمثلة على ذلك تقرير صحفي درامي أعدته قناة التونسية (الحوار التونسي الآن) في أواخر شهر ماي 2011، كان أشبه بالقصة الحزينة التي تروي سيرة شرطية البلدية التي ظلمتها لحظة احتراق البوعزيزي، فانتهى بها الأمر إلى السجن. لا تكمن المشكلة الرئيسية في إفساح المجال للشرطية كشاهدة تاريخية على ماحدث -بإمكانها أيضا أن تسرد وجها واحدا للحقيقة وتخفي الآخر- ولكن في البنية الصحفية للتقرير ذاته إذ انبنى على تضاد خطير: طمس المظلمة الاجتماعية التي تعرض لها البوعزيزي مقابل تضخيم المظلمة التي لحقت الشرطية.
تحت ظلال البحث عن الحقيقة، انتصبت محاكمة رمزية كاملة لشخصية محمد البوعزيزي، انتهت بإخراجه في صورة المارق، الخارج عن النظام والقانون. وقد جرى تعميم هذه الإدانة على باقي الفئات الاجتماعية التي شاركت في الانتفاضة، إذ باتت ترميها الخطابات الاعلامية والسياسية المركزية بصفات “التخريب” و”الفوضى” و”العبثية الاجتماعية”. وهي صفات تكررت كثيرا في المعجم السلطوي الحديث والمعاصر، إذ كان مؤرخ البايات أحمد ابن أبي الضياف يصف المشاركين في ثورة 1864 بـ”العربان الذين جُبلوا على العدوان والنهب”. وكان رجل الاستعمار الأبيض يصف بمنظوره الاستعلائي المجتمعات المحلية بـ”غبار من الأفراد”. وفي نفس الاتجاه ربطت سلطة ما بعد الاستعمار قضية النضال الاجتماعي بمفاهيم “الفوضى” و”اللاوطنية” و”الانحراف الاجتماعي”، خصوصا في أحداث 26 جانفي 1978، وانتفاضة الخبز في جانفي 1984.
الذاكرة والصراع السياسي
تعد قضية تَمثل الماضي جزءا من الصراع الاجتماعي- السياسي الذي يعتمل في الحاضر. وتشكل الذاكرة الجماعية سلطة رمزية، دائما ما تطمح القوى المُهيمنة إلى السيطرة عليها وتوظيفها. في السياق التونسي لم يفضي الصراع الاجتماعي -الذي دشنته لحظة احتراق محمد البوعزيزي- إلى تشكيل علاقات قوة جديدة، وإنما حافظ النظام القديم على بناءه الاقتصادي والاجتماعي، مع تغيير في أسلوب إدارة الصراع ليصبح أكثر ليونة ودمقرطة من ذي قبل.
علاقات اللاتكافؤ الاجتماعي المستمرة في الواقع، انعكست في المنهج الذي يجري بواسطته إعادة ترتيب الذاكرة. ففي الوقت الذي أُرسِلت فيه القضايا الاجتماعية إلى الهامش تحولت قضايا “الأمن” و”الاستثمار الخارجي” و”الإرهاب” إلى قضايا مركزية تجري حولها تعبئة دعائية ضخمة. وفي سبيل تثبيت هذه القضايا كان لا بد من إعادة تشكيل المزاج الاجتماعي، الذي جعلته لحظة الانتفاضة ينخرط في حالة رفض عامة. ولا يستقيم هذا الأمر إلا من خلال تحطيم رمزية الانتفاضة ذاتها، وبشكل أخص التشكيك في قيمة المقاومة الاجتماعية.
إمكانية استمرار الربط القاعدي بين قيمة المقاومة الاجتماعية والتغيير السياسي، كان أمرا مُربكا بالنسبة للقوى المهيمنة. ومن هذا المنطق جرى عمل حثيث من أجل التشكيك في هذه القيمة، أخذ العديد من المظاهر أهمّها تضخيم قصة الأموال التي تلقتها عائلة محمد البوعزيزي، ثم تلتها قصص المحتجين الذين تلقوا أموالا من أطراف سياسية لم يتم الكشف عنها بعد. وهكذا ارتبطت المقاومة الاجتماعية شيئا فشيئا بالمنفعة المادية السخيفة.
تقزيم الفاعلين الاجتماعيين للانتفاضة قابلته مركزة شخوص وفاعلين جدد، وقع الإعلاء من شأنهم ليحتلوا مواقع متقدمة في الإعلام والسلطة. وكان هذا التحول مرتبطا بمصالح اجتماعية وسياسية قديمة، سرعان ما تجددت بأشكال مختلفة بعد لحظة القطيعة القصيرة التي فرضها حدث الثورة. وهذه المصالح مازالت سائدة في الواقع، وعلى ظلالها تجري عملية إعادة تشكيل الذاكرة الجمعية للانتفاضة، عبر الهيمنة الإعلامية للخطاب السلطوي والأقلية الاجتماعية المرتبطة به.
كلمة واحدة : شكرا لهذه الورقة .