في مدينة الظهران السعودية، الربع الخالي الذي تحول إلى أكبر تجمع نفطي سنة 1931 ولم تغادره القوات الأمريكية المجلوبة في حرب الخليج إلا سنة 2001، يَسكن ويدرس مؤسس موقع ”صراحة“ الشاب السعودي زين العابدين توفيق، خريج جامعة الملك فهد للبترول والمعادن.
قال زين العابدين توفيق أن الدافع الرئيسي لإنشاء هذا الموقع ”ملاحظة صعوبة نقد الموظف لرئيسه في العمل بسرية والرغبة في تطوير أداء الرؤساء في الشركة“. عبّر الشاب السعودي بخجل شديد عن حاجة اجتماعية للنقد في مدينته التي حولها الذهب الأسود من صحراء قاحلة إلى مدينة تتزاحم فيها الأبراج والشركات، ولكنه لم يصرف عنها شبح تسلط الرؤساء على المرؤوسين، في انسجام كلي مع النظام الملكي الوراثي بالسعودية، الذي مازالت تُنظّمه مبادئ البيعة وولاية الأمر.
النقد السري للرؤساء في العمل، تبدو فكرة متهافتة وحاملة لشهادة موتها في شهادة ميلادها، لأن النقد له شروط أهمها توفر أسس اجتماعية وثقافية وسياسية مُنتجة لقابلية النقد، لا نظن أن السياق السعودي الراهن وربما العربي قادرين على احتمالها. ولكن بعيدا عن مدينة الظهران، جلبت فكرة المصارحة اهتمام الكثير من العرب في مواقع التواصل الاجتماعي –على اعتبار أن الموقع مبرمج باللغة العربية- لتنشأ بذلك مسارات جديدة للتفاعل الافتراضي، مدفوعة في ظاهرها بفكرة الحرية والرغبة في مصارحة الآخر، ولكنها مُحملة بإشارات سوسيولوجية كاشفة لشخصية عربية، تبحث عن مخارج لمأزق الوعي بالذات وبالآخر، في ظل سياق كوني مخبول بالتقنية سَاهم في تعميق انكساراتها البنيوية.
الاختناق والانفجار الافتراضي للمكبوت
سرعان ما تحول موقع ”صراحة“ إلى حالة جماهيرية، مُواكبة، مُتفاعلة، قابلة في معظمها ورافضة في بعضها الآخر. هذه الحالة كانت مصدرا لغبطة مؤسس الموقع الذي كان يقيس نجاحه الخاص بارتفاع عدد المشتركين والزائرين، وقد كتب يوم 3 فيفري 2017 في تغريدة له على التويتر ”يفخر موقع صراحة بوصول عدد زواره إلى أكثر من مليون زائر وبوصول عدد الزيارات إلى 2,7 مليون زيارة“. ولئن كانت فكرة اكتشاف حكم الآخرين على ”الأنا“ مُغرية ومُسلّية لحد ما لأنها مسكونة بالرغبة في مَركَزة ذاتية الفرد داخل الفضاء الاجتماعي، فإن المضمون التفاعلي الذي أنتجته –على الأقل من خلال الرسائل المنشورة- يعكس هشاشة قيمة النقد الاجتماعي. وقد آل مسار المصارحة في نهايات عديدة إلى هيمنة جديدة للمنطوق اليومي المشحون بالعنف والجفاء.
يشترك زين العابدين توفيق، الذي قال أنه محب للغة الضاد، مع العديد من ملايين الشباب العربي في حالة الاختناق النقدي التي تشكلت تحت تأثيرات الهيمنة الاجتماعية الأبوية وسيادة التسلط الثقافي والسياسي والاقتصادي الذي وسّع مساحات الكبت والمحظور. وقد كان الشاب السعودي يلطّف فكرة نقد رؤسائه في العمل من خلال المحافظة على سريتها، لأنه يدرك سلفا أنه يواجه بنية سوسيو-سياسية متكلسة امتزجت فيها الروح العشائرية بامتلاك السيطرة التقنية، ويعرف أنه لن يذهب بعيدا في مسعاه لأنه محاصر كذلك برقابة ذاتية تجعله من حين إلى آخر يهرب إلى المقدس من أجل تبرير فكرة هيمنة ولي الأمر على ”العامة“. وفي أنحاء أخرى من العالم العربي خصوصا في البلدان التي تعصف بها التحولات السياسية (مصر، تونس، سوريا، العراق…) يهرب الشباب إلى عالم افتراضي، لا يجيد قراءة خلفياته واستراتيجياته، المهم أنه يوفر إطارا للتفاعل العام وخوض معارك كلامية ترمم ظاهريا الانكسار الذي خلفته الهزائم وتعوض عن اليأس الذي تركه فشل مشاريع دول الاستقلال وأنظمتها العسكرية وشبه العسكرية. هذه الدول أدخلتها الثورات الشبابية إلى غرف الإنعاش ولم تخرجها منها لأن القديم مازال مهيمنا بمنظوماته الثقافية والفكرية والدّولاتية.
الإنسان العربي وحالة الانكسار البنيوي
بالتوازي مع الحياة الافتراضية التي أضحت نشاطا اجتماعيا رئيسيا، ينتصب واقع عربي مُثخن بالمفارقات السلوكية والاجتماعية والسياسية. تتجاور في هذا العالم بنيتان: بنية تقليدية موروثة عن الحياة الوسيطة، يحافظ من خلالها الإنسان العربي على رؤية قديمة للكون وللمجتمع والسلطة، عادة ما يصفها مؤرخو الأفكار بـ”اللاعقلانية“، لأنها تربط المصير الفردي بمحددات من خارجه. وبنية معاصرة أقحمت الإنسان العربي في مسار الحداثة من موقع التابع والمُلحَق وليس من موقع المنتج والشريك، وقد قبِل السواد العربي بمنجزات الحداثة وإفرازاتها دون فهم مساراتها، واستقبلها العرب كواقعة قوّة فرضها الانقلاب التاريخي الذي أهَّل الغرب للتحكم الحديث في مصير الإنسانية.
بين استمرارية البُنى التقليدية وإلحاحية الانخراط في العصر تَمفصلت الشخصية العربية، مُنتجة بذلك انكسارها البنيوي، الذي لم تفلح في معالجته المشاريع الثقافية والسياسية التي سادت في الحقبة المابعد-استعمارية، ولم تنجح الثورات الأخيرة في وضعه على سكة المعالجة. هذا الانكسار ولّد أنماطا من السلوك وممارسات اجتماعية تبدو متناقضة وغريبة، فالشاب السعودي مؤسس موقع ”صراحة“ يعيش في مجتمع تكثف فيه الإنكسار، إذ يحكمه رجال أثرياء عصريون برؤوس فقهية قديمة. وليس بإمكان الفرد فيه أن يصارح الآخر القريب بما يعتمل في الذات، فما بالك أن يوجّه نقدا لرئيسه في العمل أو لشيخه أو أحد أفراد العائلة الملكية. وهذه الحالة تعم بقية البلدان العربية، مع اختلاف في خصوصيات الهيمنة الاجتماعية والثقافية، واختلاف أيضا في أشكال العقاب التي تتحملها الشخصية الناقدة.
هذا الواقع الذي ثبّت حالة من الارتباك والاختناق جعل الكثير من الشباب العربي يجد ضالته في الفضاء الافتراضي، وفي هذا السياق اندرجت فكرة موقع ”صراحة“ الذي لا يعتبر الأول من نوعه. الانفتاح النقدي الافتراضي الذي أفرزه التفاعل داخل هذا الموقع لم يتجاوز حالة الانكسار الكامنة في الواقع الاجتماعي بل أعاد إنتاجها بأكثر انفلاتية وعلى نحو فوضوي لايخلو من العنف والعدائية. وقد واصلت الثقافات المهيمنة والإيديولجيات المسيطرة تحكمها في وعي الناس، لتتحول الصراحة والنقد إلى حالة تصعيد افتراضي، منتجة لشخصية تكرارية ومُعيدة لمضامين الكبت والخضوع والانكسار.
لي العديد من الأصدقاء الأجانب لاحظوا تزايد المنشورات في ما يخص موقع صراحة على صفحتي بالفيسبوك. قاموا بترجمة محتوى الموقع استوعبوا الفكرة و قاموا بإرسال بعض الرسائل لحسابي و تقبلوا الفكرة.
ما لاحظته، نفس المحتوى و نفس المواضيع يتشاركونه مع باعثي الرسائل من العرب. بل و منهم فتاة أمريكية أرسلت لي رسالة حاملة لإيحاءات جنسية كما فعلن العربيات.
لذلك لا أعلم لماذا الحصر في التحليل و كأننا نحن العرب فقط “نعاني” من كبت و لماذا هذا التحليل الذي لا يمت للواقع بأي صلة؟
faza mzyna hathi
نحن قوم لا نعرف توجيه ما بين أيدينا نحو المسار الصحيح
كما أننا فعلا لا نتقن فن المواجهة
و لكن كان يمكن إستغلال هذا الموقع بمنحى إيجابي