في الجزء الرابع من هذه السلسلة، سنركز الاهتمام على تطور العلاقات التجارية لتونس مع فرنسا والمجموعة الأوروبية بعد الاستقلال وإلى غاية إبرام اتفاق التبادل الحر بين الجانبين سنة 1969، وستبيّن هذه الدراسة مدى الأهمية التي كانت توليها فرنسا للحفاظ على الاطار القانوني لضمان هيمنتها على المبادلات التجارية الخارجية التونسية ولإستمرارية التبعية الاقتصادية والتجارية المطلقة لتونس إزاءها. وفي المقابل سنستعرض الخطوات المحتشمة التي بذلتها تونس خلال تلك الفترة لتنويع علاقاتها الاقتصادية والتجارية الخارجية سعيا للتخفيف من وطأة هذه التبعية الخانقة وذلك في اطار سياسة إزالة الاستعمار الاقتصادي الفرنسي التي كانت احدى الركائز الأساسية لاستراتيجية الآفاق العشرية للتنمية لمرحلة الستينات.
والملاحظ أن معضلة العجز التجاري المزمن لتونس مع الخارج وتحديدا مع فرنسا والمجموعة الأوروبية هي قضية أزلية ومرتبطة بهيكلة المبادلات الخارجية التونسية فضلا عن العوامل الجغراسياسية والتاريخية ذات الصلة بحقبة الاستعمار وما تبعها من علاقات شمال جنوب مختلة وغير متوازنة.
العجز التجاري الهيكلي لتونس موروث عن الحقبة الاستعمارية
تفيد الدراسات الأكاديمية والكتب العلمية والتاريخية1 أن العجز التجاري الهيكلي مع الخارج كان عاملا قارا وملازما للمبادلات التجارية الخارجية التونسية منذ القرن التاسع عشر وحتى قبل بسط الاحتلال الفرنسي على تونس، وتكرست هذه الظاهرة في ظل الاحتلال بحكم انتماء تونس إلى منطقة الفرنك التي كانت تستحوذ على قرابة 80% من الأسواق التونسية مخلفة عجز سنوي مزمن بنسبة 40 إلى 50% ظل متواصلا إلى غاية عام 1956.
وكانت فرنسا تسيطر على هذه المبادلات بسبب موقعها المهيمن صلب منطقة الفرنك من ناحية وكذلك بسبب التفاوت في القيمة بين الواردات والصادرات المتبادلة بين الجانبين من ناحية أخرى، هذا إلى جانب غياب أي شكل من القيود الديوانية أو الكمية أمام الصادرات الفرنسية الى تونس.
وقد شكلت المعاهدة التونسية الفرنسية الموقعة بتاريخ 8 أوت 1830 أول وثيقة دبلوماسية تتضمن فرض قيود على باي تونس في مجال سن القوانين التجارية ثم جاءت وثيقة عهد الأمان المؤرخة في 10 سبتمبر 1857 التي كرّست على أرض الواقع السيطرة الفعلية الأوروبية الفرنسية على التجارة الخارجية التونسية مع الاشارة إلى أن منظومة الامتيازات والاستثناءات لفائدة الاجانب، التي منحتها الامبراطورية العثمانية للرعايا الغربيين بمعاهدات تم ابرامها مع الدول الأوروبية، هي التي مهدت السبيل امام التغلغل الاوروبي الى تونس 2.
عهد الأمان يكرّس الهيمنة الفرنسية على التجارة الخارجية التونسية
والملاحظ ان الحيز الاهم من الفصول الواردة بعهد الامان كان يتعلق بحماية وضمان المصالح الاقتصادية والتجارية الاوروبية في الايالة التونسية ومن ذلك :
ـ إرساء مبدأ حرية تعاطي التجارة للجميع مع تحجيرها على الحكومات التونسية وهو ما كرّس عمليا الاحتكار الفرنسي الأوروبي للتجارةالخارجية التونسية لاسيما وأن قطاع الأعمال التونسي لم يكن معنيا بهذا النشاط الاقتصادي.
ـ اقرار مبدأ حرية الأجانب في ممارسة كافة المهن التجارية والانتاجية والخدماتية وكذلك حق التملك الذي فتح المجال لتوسيع الهيمنة الأوروبية إلى القطاع الفلاحي.
وبعد احتلالها المباشر لتونس سنة 1881 شرعت فرنسا في تعزيز موقعها المهيمن على التجارة الخارجية التونسية وتم في هذا الاطار إلغاء الاتفاقيات التجارية المبرمة بين الباي وإيطاليا سنة 1868 وكذلك مع بريطانيا سنة 1875.
وبموجب القانون الفرنسي الصادر سنة 1890 تم اقرار أول نظام تجاري تفاضلي بين تونس وفرنسا ثم جاء القانون الفرنسي الصادر بتاريخ 30 مارس 1928 الذي أقر أول اتحاد ديواني «محدود» بين البلدين وهو ما سمح لأول مرة بدخول البضائع الفرنسية لتونس معفاة من الرسوم الديوانية كما هو الحال بالنسبة للسلع التونسية مع بعض الاستثناءات. وتم تعزيزه بعد إدماجه في المنظومة التشريعية التونسية بموجب أوامر صادرة عن الباي سنوات 1944 و1948 و1950.
إلغاء الاتحاد الديواني التونسي الفرنسي المقرر بموجب إتفاقية الحكم الذاتي لسنة 1955
حرصت فرنسا على اقرار الاتحاد الديواني مع تونس وفقا لاتفاقية الحكم الذاتي التي تنص على « أن تطوّر المبادلات التجارية الثنائية هو أساس التنمية والاستقرار الاقتصادي للبلدين »، كما سعت فرنسا إلى إدراج مفهوم «التبعيّة المتبادلة» في وثيقة الاستقلال المبرمة في 20 مارس 1956 في إشارة واضحة لمدى الأهمية التي توليها للتبادل الاقتصادي والتجاري لضمان تأبيد مكانتها المتميّزة والمهيمنة على مفاصل الاقتصاد والأسواق التونسية، وقد نجحت في ذلك كما يبينه تطور المبادلات وكذلك حصيلة التعاون الاقتصادي الثنائي منذ الاستقلال المؤكدة على أن فرنسا ظلت على الدوام تتصدر طليعة الشركاء الاقتصاديين والتجاريين لتونس وذلك رغم الجهود التي حاولت تونس من خلالها في بداية الاستقلال تنويع شركائها ومبادلاتها الخارجية للحد من هذه التبعية.
والملاحظ في هذا الصدد أن السلطات التونسية كانت مدركة غداة الاستقلال لضرورة معالجة الاخلالات الخطيرة في المبادلات التجارية مع فرنسا، وتمثلت أولى الخطوات السيادية التي اتخذتها تونس لتحقيق هذا الغرض، إلغاء الوحدة الديوانية بقرار صادر في أوت 1957 ردا على قرار فرنسي بتعليق المساعدات المالية لتونس. وبذلك استعادت تونس حقها في بناء منظومة ديوانية وطنية مستقلة وشرعت في سياسة تنويع علاقاتها الاقتصادية والتجارية بالتوقيع على عدة إتفاقيات تجارية مع عديد البلدان الأوروبية الشرقية والغربية والافريقية والآسيوية.
وإلى جانب إلغاء الوحدة الديوانية مع فرنسا والشروع في تنويع العلاقات التجارية الخارجية، قررت تونس تحرير تجارتها الخارجية و«تونسة» المصالح الإدارية ذات الصلة وذلك تجسيدا لإرادتها في استرداد قرارها السيادي واستقلاليتها في رسم سياستها الاقتصادية والتجارية بما يتماشى مع مصالحها. وفي نفس السياق شرع في التفاوض مع فرنسا لوضع أسس جديدة تنظم العلاقات التجارية بين البلدين.
الاطار القانوني المنظم للعلاقات التجارية بين تونس وفرنسا بعد إلغاء الاتحاد الديواني
كان الاتفاق التجاري والديواني التونسي الفرنسي الموقع بتاريخ 5 سبتمبر 1959 (وملاحقه التعديلية) أول اطار قانوني منظم للعلاقات التجارية الثنائية بعد الاستقلال، ورغم الغائه للوحدة الديوانية، فقد تضمّن الاتفاق بنود تفضيلية هامة لفائدة سلع الجانبين مما ساعد فرنسا على الاحتفاظ بموقعها كأول شريك تجاري واقتصادي لتونس ولم تتأثر هذه المكانة بشكل ملموس بالأزمات العديدة التي تخللت العلاقات بين الجانبين.
ويجدر التذكير بأنه بالتوازي مع «معركة التجارة الخارجية» اضطرت تونس خلال تلك الفترة لاتخاذ العديد من القرارات السيادية الأحادية لبسط سيادها على القطاعات الاستراتيجية الحيوية مما آثار حفيظة الجانب الفرنسي، ومن أبرز هذه الخطوات الخروج من منطقة الفرنك وإحداث البنك المركزي التونسي والعملة الوطنية التونسية إلى جانب تأميم القطاع المالي والمصرفي وكذلك قطاعي الماء والكهرباء والأراضي الزراعية.
وفي أعقاب قرار تأميم الأراضي الفلاحية التونسية الصادر بتاريخ 12 ماي 1964 تأزمت العلاقات مجددا وقررت فرنسا إلغاء العمل بالاتفاق التجاري والديواني التونسي الفرنسي وأصبحت العلاقات التجارية الثنائية خاضعة من الناحية الديوانية للنظام العام المعمول به مع الأطراف الخارجية الأخرى.
ومن تبعات هذا القرار الانخفاض الملموس بنسبة 40% في الصادرات التونسية لفرنسا في حين لم تتأثر المبيعات الفرنسية إلى تونس إلاّ بنسبة ضئيلة لاسيما وأنها مكونة في جانب هام من تجهيزات مرتبطة بإنجاز مشاريع صناعية.
وهكذا لم تصل العلاقات التجارية والاقتصادية والمالية بين تونس وفرنسا حتى في أحلك مراحلها إلى القطيعة الاقتصادية بحكم التداخل الكبير في المصالح واستمرارية التبعية التونسية إزاء فرنسا الموروثة عن حقبة الاستعمار فضلا عن حرص فرنسا على الحفاظ على مكانتها ونفوذها بالمنطقة إلى جانب تواصل المساعي التونسية الرامية لبناء علاقات تعاون وشراكة مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية تجسيدا لانتماءها إلى كتلة «العالم الحر» و تبنيها لتوجهاته الاقتصادية الليبرالية التي ظلت من الثوابت القارة للسياسة الخارجية والاقتصادية والتجارية لتونس المستقلة.
تطور العلاقات الاقتصادية والتجارية التونسية الفرنسية خلال مرحلة الستينات
شهدت العلاقات التونسية الفرنسية بداية انفراج تدريجي منذ سنة 1966 بعد اعادة إحياء التمثيل الدبلوماسي بين البلدين وتجسد ذلك في بعض الخطوات المتبادلة لإحياء التبادل التجاري على أسس تفاضلية، كما تم استئناف التعاون المالي والعسكري، وفي سنة 1968 تم إحداث لجنة مشتركة لتأطير التعاون المشترك ومأسسته.
الا أن العلاقات التونسية الفرنسية لم تشهد انطلاقة جديدة حقيقية الا بعد انتهاء التجربة الاشتراكية لمرحلة الستينات التي كانت تثير تحفظات فرنسا بسبب ارتكازها على مبدأ إزالة الاستعمار الاقتصادي الفرنسي الذي تجسّد خاصة في قرار تأميم الأراضي الفلاحية وغيره من القطاعات الاستراتيجية.
وقد شكلت الزيارة التي أداها الرئيس بورقيبة إلى فرنسا في صائفة 1972 في ظل حكم الرئيس بونبيدو المنطلق الحقيقي لإعادة إحياء العلاقات والتعاون الثنائي على أسس جديدة ومنها احداث اللجنة الكبرى المشتركة المتعهد بإجراء حوار سياسي عالي المستوى وتوثيق العلاقات في شتى قطاعات التعاون السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري.
وقد تزامن هذا التحول الاستراتيجي الإيجابي في العلاقات التونسية الفرنسية مع تبني تونس لقانون 1972 القائم على استقطاب الاستثمارات الاجنبية كأساس للتنمية مما ساهم في القطع مع سياسة التحرر الإقتصادي من التبعية ازاء فرنسا، وفي ما يلي، سنتناول بايجاز حصيلة العلاقات التجارية لتونس مع الخارج في مرحلة الستينات بالاستناد الى احصائيات البنك المركزي التونسي وإدارة التجارة الخارجية بوزارة الاقتصاد:
ـ ظل الاقتصاد التونسي محكوما بالعلاقات مع فرنسا وذلك رغم الجهود التي بذلتها تونس لتنويع أسواقها وشركائها التجاريين الخارجيين مباشرة بعد الاستقلال، وسيتعزز هذا التوجه تباعا خاصة بعد الشروع سنة 1963 في المفاوضات لابرم اتفاق التبادل الحر مع المجموعة الاقتصادية الاوروبية.
ـ كانت فرنسا تستوعب سنة 1960، 52,3% من الصادرات التونسية وتزودها بـ59,9% من وارداتها أي أنها ظلت تستحوذ على النصيب الأوفر من معاملاتنا مع الدول الست للمجموعة الاقتصادية الأوروبية التي كانت تصل الى حدود 67% من صادراتنا و76% من وارداتنا.
ـ انخفضت الصادرات التونسية باتجاه فرنسا انطلاقا من سنة 1964، في اجواء توتر العلاقات مع تونس، من 51,3% إلى 31,2% من مجمل الصادرات التونسية في حين لم تنخفض الواردات التونسية من فرنسا إلا بنسبة ضئيلة أي من 44,1% إلى 39,2%. وتزامن هذا التدهور مع قرار فرنسا القاضي بإلغاء العمل بالاتفاق التجاري التونسي الفرنسي لسنة 1959، ومع ذلك حافظت المجموعة الاقتصادية الأوروبية في نفس السنة على موقع هام ومتقدم ضمن الشركاء التجاريين لتونس حيث استوعب 49% من صادراتنا كما وفّرت 55% من وارداتنا.
ـ تفيد الأرقام بأن التبعية التجارية لتونس إزاء فرنسا انخفضت خلال الفترة من 1965 إلى 1969 اذ تقلصت الصادرات الفرنسية من 44,1% إلى 33% ولكن الصادرات التونسية، تقلصت أيضا باتجاه الأسواق الفرنسية (من 31,2% إلى 26%). لكن هذا التطور سيكون ظرفيا ولم يمس بهيكلة وحجم المبادلات الاقتصادية والمالية الجملية مع فرنسا التي ظلت طاغية الى اليوم على الميزان التجاري وميزان المدفوعات.
ـ تحتل إيطاليا وألمانيا المرتبتين الثانية والثالثة بعد فرنسا ضمن الشركاء التجاريين الرئيسيين لتونس في اوروبا ، وظل هذا الوضع قائما إلى يومنا هذا لأسباب تاريخية وسياسية واقتصادية وكذلك بسبب الخيارات الاقتصادية التي انتهجتها تونس بتوقيعها على اتفاق «المشاركة» مع المجموعة الأوروبية سنة 1969 ثم اتفاق التعاون لسنة 1976 وصولا إلى اتفاق التبادل الحر للسلع الصناعية لسنة 1995.
ـ ظلت المبادلات التجارية الخارجية لتونس مع المجموعة الأوروبية منذ تلك الفترة تشكو من العجز المزمن والمتفاقم ويعزى ذلك إلى هيكلة المبادلات المنحصرة من الجانب التونسي في عدد محدود من المواد الفلاحية والصناعية ذات القيمة المضافة المتدنية باعتبار انها غيرمثمنة صناعيا في حين ان الصادرات الاوروبية هي في الغالب مكونة من مواد تجهيز ومواد صناعية متطورة فضلا عن المواد الغذائية والاستهلاكية و الخدماتية ذات القيمة المضافة العالية.
هذا الى جانب الخيارات الاقتصادية غير الموفقة المتوخاة منذ مطلع الثمانينات والانخراط في سياسة التبادا الحر غير المتكافئة مع الغرب التي ضاعفت من حدة المشاكل الاقتصادية الهيكلية لتونس و من الخلل المزمن في ميزان التجارة والمدفوعات فضلا عن تفاقم معضلة المديونية و التبعية المالية الخانقة ازاء الغرب وتفشي الاقتصاد الموازي والتهريب.
وهكذا يتضح ان العجز التجارى يساهم بقسط وافر في تعميق العجز المزمن في المالية العمومية و في ميزان المدفوعات و بالتالي لا يمكن معالجته بمعزل عن مقاربة شاملة تراعي ضرورة مراجعة الخيارات الاقتصادية والمالية الكبرى وكذلك الاتفاقيات الدولية والتوجهات الدبلوماسية ذات الصلة.
وفي المقال القادم سنتولى تقييم الحصيلة الجملية للسياسة لاقتصادية لمرحلة الستينات وما يتصل بها من خيارات واطر دبلوماسية ومنها خاصة الإتفاق التجاري للتبادل الحر الموقع مع المجموعة الاقتصادية وتونس سنة 1969
المراجع
- Moncef GUEN, Les défis de la Tunisie : une analyse économique, l’Harmatan, 1988.
- A. Guellouz – A. Masmoudi – M. Smida – A. Saadaoui, Histoire générale de la Tunisie, Tome 3, Les temps modernes (1534-1881) Sud Editions, 2015
iThere are no comments
Add yours