التسريب الأخير لنبيل القروي وهو يصدر الأوامر للعاملين بقناة نسمة من أجل تنظيم حملة إعلامية ضد منظمة أنا يقظ يكشف في مضمونه العام عن الوسائل الخفية لهندسة الحملات الدعائية ضد الخصوم والمخالفين في الرأي. مُتعددة هي الوسائل وتتراوح أساسا بين “الفبركة” باستخدام “ميكرو الشارع”، انتهاك الحياة الخاصة للأشخاص وابتزازهم، الشيطنة والتخوين باستخدام جُمل دعائية تُظهر الخصوم في ثوب “العملاء” و”المرتزقة”، صناعة منابر نقاش مؤثثة بآراء “صحفيين” و”محللي رأي”…
هذه الحملات التي تُبث في شكل مادة صحفية، يتم فيها إخضاع الفاعلين الإعلاميين لمصالح لوبيات المال، وهكذا يتحول “الصحفي” إلى أداة تصفية للخصوم والمخالفين، منتجا بذلك خطابا قائما على التزييف والتلاعب.
الفبركة الإعلامية
“هؤلاء حفنة من الخونة ويتلقون أمولا مشبوهة”، هذه هي الجملة الدعائية التي أرادها نبيل القروي أن تكون هدفا رئيسيا للحملة المضادة لمنظمة أنا يقظ. وقد كان يشير إلى “الصحفيين” بالعمل على إشاعتها من خلال استعمال تقنية “ميكرو الشارع”، وهي تقنية دَرج على استخدامها الإعلام المهيمن للتحكم في توجهات الرأي العام عبر استجواب عدد ضئيل من المواطنين. وقد كان صاحب قناة نسمة يشحذ عزائم موظفيه قائلا “يجب أن نستخدم ميكرو الشارع لنُظهر عبر الاستجوابات سخط الرأي العام على منظمة أنا يقظ وعلى تمويلاتها المشبوهة”.
من أجل اكتمال شروط الحملة كان لا بد من هَندسة منبر للنقاش، يجري خلاله شيطنة منظمة أنا يقظ واتهام القائمين عليها بالعمالة والخيانة، وهنا لا بد من الاستعانة ببعض “الصحفيين” و”المحللين” الذين سيقودون المعركة المقدسة ضد “الأموال الجمعياتية المشبوهة”. وفي حقيقة الأمر احتضنت قناة نسمة طيلة الأشهر الفارطة أكثر من منبر للحديث حول الدور المشبوه للجمعيات التي تشتغل على الفساد وحقوق الإنسان، من ضمنهم منظمة أنا يقظ، وتم تأثيث هذه المنابر ببعض الوجوه الإعلامية وبعض المحللين الجدد الذين تحولوا إلى “نجوم رأي” بعد أن نفخت في صورهم ماكينة الإعلام المهيمن.
تجنيد قناة تلفزية من أجل حماية مصالح أصحابها -إثر ملفات تهرب ضريبي سبق وأن نشرتها منظمة أنا يقظ ضد الأخوين نبيل وغازي القروي- يشكل الخيط الناظم لفهم التشابك بين مجالي الإعلام والمال. إذ سعى نبيل القروي إلى كنس الشبهات من أمام منزله من خلال منظومة الدعاية المضادة. وتحيل هذه الحادثة على مشهد إعلامي عام تهيمن عليه مراكز القرار المرتبطة بالسلطة وبلوبيات الفساد، إذ سبق وأن شهدت العديد من وسائل الاعلام المهيمن حملات تشويه لشخصيات سياسية وحقوقية واحتضنت شيطنة ممنهجة لتحركات احتجاجية وجهات بأكملها.
عندما يتحول “الصحفي” إلى مُخبر صغير
سعت الكثير من المقاربات المشتغلة في حقل علم اجتماع الإعلام إلى إيجاد روابط عقلانية بين سلطة المال والإنتاج الإعلامي من خلال دراسة تشابك المصالح وتفكيك منظومة الحملات ووسائل الدعاية الحديثة، ولعل التسريب الجديد لنبيل القروي يشكل مادة خصبة لتأكيد الارتباطات المسكوت عنها بين المال والإعلام. ولكن في الحقيقة يقع جانب آخر من التسريب خارج نطاق عقلنة المصالح والارتباطات لأنه ينطوي على مشكلات أخلاقية عميقة، تنقلب خلالها الأدوار والصفات. إذ بان بالكاشف أن أصحاب الوجوه البشوشة والمتأنقين برابطات العنق من الوجوه الإعلامية المعروفة بإمكانهم أن يشتغلوا مخبرين، يتجسسون على الحياة الخاصة للأشخاص من أجل ابتزازهم.
هذه الوسائل التي تحاكي طرائق عمل المافيا تَظهر في التسريب الأخير في اللحظة التي يأمر فيها صاحب قناة نسمة أحد موظفيه -الذين يؤثثون منابره الإعلامية- بأن يعمل على التقاط صور خاصة لبعض المسؤولين بمنظمة أنا يقظ، ولما لا التأثير على علاقاتهم الخاصة واستخدامها كورقة ضغط ضدهم ومحاولة التأثير على محيطهم العائلي. هذه الأساليب التي شكلت سقوطا أخلاقيا صادما لدى الكثير ممن تابع التسريب تضعنا أمام ظاهرة قديمة-جديدة في إدارة الصراع السياسي، والتي تتمثل في اللجوء إلى “التشويه الأخلاقي” كأداة للإلجام وهدم شخصية الآخر، وقد سعت إلى استخدامها الأنظمة السابقة لإزاحة خصومها وترهيبهم، وهي تقنية يجري استخدامها في الخفاء في سياق حروب الإزاحات الناشبة في أوساط المال والأعمال. وقد أظهرت التسريبات الصوتية المتكررة سقوطا أخلاقيا كبيرا للعديد من رجال السياسة والإعلام.
الشر لا تحكمه إلا قناعاته، يمارس الجذب والإبهار، ويهاجم ويداهم ويتجاوز كل المعلوم، قد يأتى مبرمجًا مبطنًا أو محجوبًا، لكن رهانه أن يتحاشى العقل ويناوره ولا يحاوره، ويطرح تزييفًا لأوهام واعتقادات للسيطرة على الاستحقاقات، التى ينظمها ويحميها المنطق والأخلاق؛ بل يتبدى الشر عنفًا ليفصل بين المعرفة والواقع، ليمنع عدالة الاستحقاق،حيث تغطى وجوه الشر أقنعة متعددة لمواجهة كل إقصاء، ليظل ماثلاً فاعلاً، تحميه ألاعيب المحرفين التى تمارس إعفاء الشر من مسئولياته كافة. صحيح أن انحسار مسئولية المواطن عن الشر الناتج من تقصيره وتجاهله له، ينفى عنه استحقاق المواطنة؛ بل كل اكتساب غيره، بوصف المواطنة نظامًا للعيش المشترك للأفراد والجماعات تكافلاً وتضامنًا، والصحيح كذلك أن ممارسة المواطن لمبادرات الحرية الإيجابية، دفاعًا عن استحقاقات الآخرين، هى ما يعزز المجتمع فى مواجهة الشر؛ إذ يمارس الشر وسائل تعجيز متعددة، تمسك بمفاتيح الاستحقاقات فى أشكالها المختلفة، ليسلب أصحابها اقتدارهم، حيث بالتعمية والتضليل يسلب الشر من ضحاياه حريتهم الحقيقية فى ممارسة حق الفهم، وبالتجويع ينهى الرغبة فى المعرفة، وباستبداد الجهل تموت فكرة المضاهاة بين البشر التى ترسخ مبدأ المساواة، ليصبح الطابع الإرغامى للشر هو الخيار الوحيد للبشر؛ لذا غدا الشر سائحًا بينهم. ترى كيف نواجهه؟