صورة من فيلم ”بريذ“ للمخرج الكوري الجنوبي كيم كي دوك

تحاول الدولة أن تفرض مفهوما محدّدا وأحاديّا للأخلاق تحشر داخله كلّ العبارات المشحونة بالقيم الذكوريّة والتي تستمدّ وجودها وشرعيّتها المغشوشة من تأويلات دينيّة قوامها التكفير والتحريم ومن عادات وممارسات مجتمع كبّلته محن الخرافة والجهل. ساهمت التنازلات السياسية للمزاج الديني في تعثّر الحداثة التشريعية في تونس، فالعديد من القوانين المتروكة تستند إلى الشرع رغم أنّه لا يعدّ مصدرا للتشريع في بلادنا، ففي مجلّة الإلزامات والعقود ينصّ الفصل 575 على أنه ”لا يصحّ بين المسلمين ما حجّر الشرع بيعه إلاّ ما رخّصت التجارة فيه كالزبل لمصلحة الفلاحة“، وهذا القانون من بين القوانين المهجورة التي لا يستند إليها القضاة في أحكامهم ولكنّها غير ملغاة وبعضها ساري المفعول إلى اليوم.
تحرص الدولة في بقائها على استخدام كلّ الوسائل الممكنة لتحقيق ذلك، وهذا البعد الماكيافالي في الدولة وفي منطقها البراغماتي يتناقض بشكل صريح وواضح مع البعد الأخلاقي الذي تحاول فرضه على المجتمع تحت يافطة ”الأخلاق العامّة“، بمعنى أن ممارسات الدولة مُغايرة ومُباينة لمنطق الأخلاق، وأن القوّة الأساسيّة المحرّكة لها هي المصلحة السياسيّة والعنف لا غير، ولكنّها قد تقوم بتطويع الأخلاق وتوظيفها خدمة لهذه المصلحة السياسيّة، فيعتقد المجتمع الحامل للأخلاق على كتفه أن الدولة امتداد له وأن قوانينها المُضمّنة في المجلّة الجزائيّة تحديدا تعبّر عنه وتقف سدّا منيعا أمام محاولات الاعتداء على ”الأخلاق الحميدة“، في حين أن الهدف هو السيطرة عليه وعلى أجساد أفراده.

المجلة الجزائية وحريّة الجسد

تلجأ السلطة إلى أحكام المجلّة الجزائيّة للتضييق على الحريّات الفرديّة فالعديد من فصول هذه المجلّة تحتاج إلى إعادة نظر جديّة أي إلى تنقيح ينبع من إرادة سياسية تحترم الدستور ومبادئه، ومن بين القوانين التي لا بدّ من تنقيحها، الفصل 125 المتعلّق بهضم جانب موظّف عموميّ والفصول التي تقع ضمن باب الاعتداء بالفواحش أي الفصلين 226 و226 مكرّر الخاصّ بالاعتداء على الأخلاق الحميدة والآداب العامّة والفصل 230 الذي يجرّم المثليّة الجنسيّة. ويعتبر وحيد الفرشيشي، أستاذ القانون العامّ ورئيس الجمعيّة التونسيّة للدفاع عن الحريّات الفردية، في تصريح لـنواة، أن تنقيح هذه الفصول ضروريّ لأن العقاب لا يتناسب مع الفعلة وهنا يُطرح مشكل التناقض بين الجريمة وعقابها، داعيا إلى تحديد ماهيّة ”الأخلاق الحميدة“ على اعتبار أنّ المُشرّع مسؤول عن تحديد المفاهيم وعليه أن يكون دقيقا في صياغتها.
يعدّ تأويل ”الأخلاق الحميدة“ تأويلا ذاتيا وغير موضوعي، فعون الأمن، حسب وحيد الفرشيشي ”يمكنه إيقاف مواطن بتهمة التجاهر بما ينافي الحياء أو الاعتداء على الأخلاق الحميدة استنادا إلى تأويل شخصي وقراءة ذاتية“، مُضيفا: ”نفس المشكل يُطرح بالنسبة إلى القاضي كيف سيُصدر قراره إزاء قضايا الجرائم الأخلاقية وكيف سيتم تقديرها؟ هل استنادا إلى تأويله الشخصي أم استنادا إلى ما هو سائد في المجتمع؟ ومن يُحدّد السائد في مجتمعاتنا؟ فأخلاق المجتمع تختلف من فئة إلى أخرى وحتى من منطقة إلى أخرى“.
لا بدّ لنا أن نعي بأنّ المجلّة الجزائيّة صدرت سنة 1913، يعني أنه ما كان يُعدّ اعتداءً على ”الأخلاق الحميدة“ وتجاهرا بـ”الفحش“ في تلك الفترة ليس هو نفسه اليوم. نحن نتحدّث عن قانون صدر سنة 1913 أي عن قانون لم يواكب التحوّلات الحاصلة في مجتمعنا، نتحدّث عن قانون صدر في نفس السنة التي صار فيها الانقلاب العسكري العثماني المعروف أيضا بـ”انقلاب الباب العالي“، وقبل عام فقط عن وقوع الحرب العالميّة الأولى وتغيّر موازين القوى الدوليّة، والعام الذي ظهر فيه التلغراف ممّا سهّل الملاحة البحريّة، والعام الذي تظاهرت فيه مجموعة من النساء في الولايات المتّحدة للحصول على حقّهن في التصويت، وعليه لا بدّ من تنقيح المجلة الجزائيّة لأن عالم 1913 ليس هو عالم 2017.

الدستور والحريّات الفرديّة

تتعلّق الحريّات الفرديّة أساسا بحريّتي الجسد والضمير، وتضمن الدولة للمواطنين والمواطنات حسب الفصل 21 من الدستور ”الحقوق والحريّات الفرديّة والعامّة وتهيّئ لهم أسباب العيش الكريم“، لكنّ الآداب العامّة تعدّ من الضوابط المحوريّة للحريّات العامّة والفرديّة إلى جانب ضوابط أخرى، ونذكر هنا الفصل 49 من الدستور الذي جاء فيه ما يلي: ”يحدّد القانون الضوابط المتعلّقة بالحقوق والحريّات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها ولا توضع هذه الضوابط إلاّ لضرورة تقتضيها دولة مدنيّة ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحّة العامّة، أو الآداب العامّة وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها (…)“. والآداب العامّة من بين المفاهيم الهلاميّة التي تُضاف إلى قائمة المفاهيم الواجب توضيحها وتحديدها حتى لا يتمّ تأويلها انطلاقا من محدّدات ذاتيّة وتوظيفها لتحجيم الحريّات وتطويقها والمسّ من جوهرها.
أمّا بالنسبة إلى حريّة الضمير فالأمر على قدر كبير من التعقيد والتشعّب، فالدستور يضمن هذه الحريّة ويحدّها في نفس الوقت، ففي باب المبادئ العامّة ينصّ الفصل السادس من الدستور على أنّ ”الدولة راعية للدين، كافلة لحريّة المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينيّة، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبيّ (ولم يذكر الدستور هنا التوظيف السياسيّ)“، وتلتزم الدولة وفقا لنفس الفصل بـ”نشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف والتصدّي لها“. وتبدو صياغة الفصل 21 مفتوحة على جميع التأويلات التي يمكن أن تذهب إلى حدّ اعتبار رسم كاريكاتوريّ أو فيلم أو لوحة فنيّة اعتداءً على المقدّسات والأخلاق الحميدة والأمثلة هنا كثيرة نذكر منها أحداث قصر العبدلية سنة 2012.
رغم أن دستور 27 جانفي 2014 يعدّ امتدادا لما سبقه من محاولات دستوريّة لإقرار الحريّات الدينيّة والتي بدأت مع وثيقة عهد الأمان سنة 1857 حيث أعلنت في فصلها الأوّل ”الأمان لسائر رعيّتنا وسكّان إيالتنا على اختلاف الأديان والألسنة والألوان في أبدانهم المكرّمة وأموالهم المحرّمة وأعراضهم المحترمة“، إلاّ أن الحريّات تظلّ مجالا يقع تحت سيطرة الدولة التي يمكنها ضربها والحدّ منها في حال تهديدها للأمن العام أو الآداب العامّة. وهنا يبرز الدور المهمّ للمحكمة الدستورية الموكولة لها مهمّة حماية الحريّات الفرديّة، لكنّنا أمام محكمة تعيش مخاضا عسيرا ووضعا إشكاليّا.
المشكل المطروح هو غياب إرادة حقيقية لتنقيح المجلة الجزائية وبالتالي تعرية الأجساد ورفع الرقابة عليها، فقوى المعارضة أضعف من أن تطرح نفسها كقوة قادرة على التغيير والتجديد (مثال على ذلك ضعف المعارضة البرلمانية في اقتراح مبادرات تشريعية تنص على الحقوق الفردية)، ولذلك ستظلّ ”الأخلاق الحميدة“ عصا السلطة الغليظة للتضييق على الحريّات مثلما كانت زمن بن علي الذي قام سنة 2004 بحملة ”الأخلاق الحميدة“ والتي بموجبها وضعت الدولة يدها على أجسادنا، أجساد النساء.