المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
توقيع طاهر بن عمار إتفاقية الإستقلال الداخلي في باريس بتاريخ 3 جوان 1955

في بلاغ توضيحي لهيئة الحقيقة والكرامة تم التعرض إلى بعض الحقائق حول استغلال المستعمر الفرنسي للثروات الباطنية التونسية، حيث كشفت وثائق أرشيفية أن فرنسا قامت بتكوين شركات احتكارية ذات امتيازات وصلاحيات واسعة، وأقرّت مجموعة من التشريعات القسرية التي أدت إلى استغلال مُجحِف للثروات الباطنيّة التونسيّة بعد الاستقلال. في توضيح ختامي، أشار البلاغ بشكل قاطع أن ”الشركات الأجنبيّة وتحديدا الفرنسيّة منها قامت باستغلال فاحش لموارد البلاد التونسيّة الباطنيّة وكان للشركات الفرنسيّة نصيب الأسد من هذه التراخيص (7شركات فرنسيّة من جملة 15 شركة).“

استمرارية الاستعمار الفرنسي وارتباطه بنظام الهيمنة لدى الفئة الحاكمة بعد الاستقلال هو أحد المواضيع المركزية التي تطرّق لها كتاب مهم بعنوان ”الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة، منظومة التهميش في تونس نموذجا“ للصغير الصالحي، وهو مهندس و باحث من مواليد منطقة الفج، قفصة، ومتخرج من المدرسة القومية للمهندسين بتونس سنة 1981. نشر هذا الكتاب في طبعته الأولى سنة 2017 بتونس على نفقة الكاتب الخاصة ومن دون دار نشر. يحتوي الكتاب على سبعة فصول كبرى في حين قسم الفصلين الثالث و التاسع إلى مجموعة أبواب تفصيلية إلى جانب فهرسي الجداول والخرائط.

ينطلق الصالحي من غياب الاهتمام لدى النخب والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية بواقع الاختلال في التنمية بين جهات البلاد التي كشفت عنه الثورة، ليدرس بذلك الأسباب والآليات والمسارات التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية لظاهرة التهميش التي أنتجت ميزا يطبع علاقة و”تعامل السلطات المركزية مع الجهات“. هناك اهتمام مركزي في الكتاب بنقد المغالطات اللغوية والمنطقية، في سعي إلى تفكيك الخطاب الرسمي المتداول الذي يتجنب عبر صياغة مبنية للمجهول ”الإقرار أو الإيحاء بوجود علاقة فعل قائمة“. يدرس الكتاب مفهوم ”التنمية غير المتكافئة“ كأحد الخصائص الكاشفة عن أوضاع الاستعمار الداخلي وكمنتج سياسي موروث وكمصطلح ماركسي استعمله لينين وقرامشي، ثم فانون بعد الحرب العالمية الثانية.

من بين مفاهيم وتصنيفات الاستعمار الداخلي، يميل الصالحي إلى صنف أول من النظريات حول هذا المصطلح والذي يشير إلى ”حالة تناظر داخلية للهيمنة الاقتصادية والاجتماعية مع الاستعمار الخارجي“. مما يستدعي البحث في ”المقاربة التاريخية للسياسات الداخلية وفي مقارنتها مع التجربة الاستعمارية وعلى مدى تناظر السياسات والمواقف وتماثلها في مسائل التنمية“ والسياسة والثقافة، بشكل  حَوّل مجموعات بشرية خاضعة للهيمنة إلى مستعمرات اجتماعية وسياسية وتربوية واقتصادية.

استقلال سياسي لم يُنه التبعية الاستعمارية

يرى الصالحي أن الاستقلال رادَفه تحول من استغلال إلى آخر، حيث اتسمت تونسة المؤسسات كالإدارة والإعلام والأمن الداخلي والخارجي ”بالسطحية وبجانبها الصوري. ولم تكن لها انعكاسات كبيرة في علاقة عامة الشعب بالسلطة، إذ تواصل العمل بنفس الآليات وجل القوانين والعقيدة والأفراد من التونسيين“ و”تصرفت النخب الحاكمة كوريث للاستعمار الخارجي“ بشكل أعاد تكرار منطق وقواعد الجهاز الإستعماري، ولكن عبر محاولات تجميلية. تحديدا لم يُنه الاستقلال السياسي التبعية الاستعمارية والاقتصادية والتنموية بشكل جعل استغلال الشركات ”الوطنية“ للثروات والرأس المال العمومي يتطابق مع ما قامت وتقوم به الشركات الإستعمارية/النيواستعمارية كـ”كوتوزال“ وغيرها.

في حالة من التناظر بين بدايات الاستعمار وبدايات مابعد الاستقلال، يشير الصالحي إلى أنه ”في المحصلة قدّر الفرنسيين سهولة العثور على نخب متجاوبة معهم ومستعدة لتعاون مقابل تلبية احتياجاتها“. حيث استأثر وحافظ المنتمون إلى العائلات المخزنية والبورجوازية على ثنائية السلطة والمال من خلال تسهيل وتبرير سيطرة المستعمر الفرنسي على الاقتصاد والاستغلال الفاحش للموارد الباطنيّة، لضمان استمرارية نفوذها وتواصل احتكارها للمجال العام.

اتفاقية الاستقلال في عدم تنصيصها على انتقال الملك الخاص للدولة التونسية إلى الدولة المستقلة كانت وثيقة مؤسسة لارتباط الاقتصاد التونسي عند الاستقلال وبعدها بأنماط استغلال حدّدها ولا يزال الفرنسيون. يشير الصالحي إلى أن ”المسألة الإقتصادية [لم تكن] من بين أولويات الحركة الوطنية ولم تتضمن أدبياتها رؤية للمسألة، فحتى الإصدارات التي ظهرت في العشرية السابقة للاستقلال لم تتجاوز محاولة تشخيص الواقع ولم تتوقف كثيرا عن تصورات المستقبل“. ويرجّح أيضا غياب التكوين المعرفي في المجال الاقتصادي ومُيول أفراد حركة التحرر إلى التركيز على بلوغ السلطة كهدف نهائي للعمل السياسي.

غياب التغييرات الجذرية القاطعة مع الاستغلال الفرنسي ساقه كذلك كتاب ”تونس عبر التاريخ“ لعبد الجليل بوقرة الذي لاحظ أن ”مهمة الانتقال من اقتصاد استعماري إلى اقتصاد مستقل [كانت] عسيرة نسبيا وبطيئة، لأن الحكومة سعت إلى تحقيق هذا الهدف دون إحداث قطيعة نهائية وجذرية مع فرنسا“. أما بخصوص الذهني والثقافي يتعرض الصالحي إلى صيرورة ما كان عليه الوضع في حقبة الاستعمار، حيث أصبح الإعلام والثقافة أدوات هيمنة مؤسسة لنموذج التبعية في الوعي الجماعي وقائمة بمهام ترسيخ القيادة والسيطرة. وعلى هذا الأساس يعد كتاب الصالحي إضافة مهمة في مجال البحث التاريخي والأنثروبولوجي حول مسألة الاستعمار وقضايا التهميش والهيمنة الطبقية. غير أن بعض الشوائب التي كان بالإمكان تلافيها أضرت بالمقاربة الفكرية والأكاديمية التي أراد الصالحي الإهتمام بها ودراستها.

سلبية وضعف بعض المراجع النقدية

تكمن نقطة ضعف كتاب الصالحي في سلبية وضعف بعض المراجع النقدية. إذ أنه في دراسة مهمة تجمع التفسير التاريخي بالنقد السياسي وبالتحليل الإقتصادي يلاحظ هيمنة المراجع والمصادر الغربية وخصوصا الأوروبية، على حساب دراسات أخرى إقليمية سواء المصادر العربية أو الإفريقية. ومن جهة أخرى يلاحظ غياب أي توجه نظري نقدي يعتمد على مرجعيات نظريات ما بعد الاستعمارية بوصفها خطاب نقدي للآثار الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للاستعمار بأنواعه ومفرداته المختلفة. في نفس السياق، نلاحظ غياب الإشارة إلى أبحاث الأكاديمي الهندي أشيس ناندي حول مصطلح ”الاستعمار الداخلي“. يَندر كذلك التعريف بالنصوص والمؤلفين والتطرق لأهميتها الأكاديمية والنقدية وخاصة طريقة استخدام الحجج من داخل المصدر الأكاديمي، الذي استعمله الصالحي لدعم حججه واستقراءاته. لا توجد مثلا الإشارة إلى رقم الصفحات أو حتى عنوان بعض الدراسات عند التطرق إليها للمرة الأولى. من جانب آخر، فإن كتابا متكونا من 617 صفحة، نلاحظ ان عدد صفحات فهرس المراجع لا يتجاوز العشر صفحات، وهو عدد ضئيل بالنسبة لبحث علمي أكاديمي. هنا تكمن العلة؛ في غياب إطار أكاديمي واضح، تبرز بعض الأخطاء الفادحة كالإشارة والاستدلال بكتاب أدولف هتلر ”كفاحي“ كمرجعية فكرية نقدية.

في كل الحالات فإن ما هو أساسي في البلاغ التوضيحي لهيئة الحقيقة والكرامة حول استغلال المستعمر الفرنسي للثروات الباطنية التونسية وفي كتاب الصالحي، هو تماهي الاستعمار الفرنسي مع منظومة الاستعمار الداخلي التي حافظت على ارتباط النخب الحاكمة ذات المرجعية والإرث المخزني والبرجوازي بدوائر النفوذ والحكم الفرنسي. هذا التماهي ينفي أي مشروع إصلاحي لأن كل ما سيقع استثماره ماديا وذهنيا سيكون في خدمة منظومات نيوكولونيالية تخدم الفرنسيين والنخب التابعة لها.