في القرن الرابع قبل الميلاد، أي منذ أكثر من 25 قرن، كانت جمهوريّة أفلاطون المثاليّة متكوّنة من ثلاث طبقات أساسيّة الفلاسفة، الجنود/الحراس وأخيرا العوام. في هذه التركيبة التي تخيّلها مؤلّف “الفيدون” العديد من النقائص وهي تعكس نظرة تحقيريّة للأفراد. في تونس، ولئن اختفت طبقة الفلاسفة (والمثقفين عموماً) فانّ لجمهوريّة أفلاطون تقاطعات عديدة ونقاط التقاء أهمّها صمود طبقة الحراس.
إنّ المتمعّن فيما وراء ترسانة القوانين، يستنتج بسهولة أنّ التقسيم الثلاثي للسلطة كما اقترحه مونتيسكيو في كتابة روح القوانين (1748) ليس سوى شكليات وأنّ السلطة في تونس لا “تحّد من السلطة” بل تدعمها وتعزّزها. فالسلطة ممثّلة في البوليس خير مثال على هذه الوضعيّة من خلال تغوّلها الذي يطرح نقاط استفهام حول كيفيّة الحد منها وتقييدها بالقوانين. فبالرجوع الى فكرة الفصل بين السلط، نجد أنّ السلطة في تونس لا تحرّك ساكنا أمام الاعتداءات المتكرّرة التي لم تكتف بغزو الشارع بل تحوّلت لاستعراض عضلات كما حصل مؤخّرا أمام محكمة بن عروس. لقد كانت هذه الحادثة مؤشّرا يتوجّب التوقف عنده لإعادة النظر في مكانة هذا الجهاز داخل الدّولة لأنّه يشهد انزياحا خطيرا منذ عقود مما أدّى الى ابتعاده عن مهامّه الحقيقيّة.
في ظلّ هذا التداخل في المهامّ وضعف السلط، بقي المواطن في أسفل السّلم الطبقي (الذي أشرنا إليه في البداية) يعاني من استتباعات ضبابيّة المشهد. والحقيقة أنّه إذا ما جازفنا بإعادة تعريف مهامّ البوليس وتحديدها في اطار الدولة الحديثة، سنجد ثلاثة نقاط أساسيّة حلّلها الكاتب الفرنسي بيار أنطوان مالفي المختصّ في المسائل الأمنيّة، وهي: حماية المواطن، الحفاظ على سيادة الدولة وهيبتها، التصدي للأعمال الاجراميّة. وهذا الهيكل الثلاثي في ظلّ أوضاع هشّة كما تعيشها تونس قد يفسح مجالا أمام قراءات متعدّدة لكلّ مهمّة ستؤدي حتما الى انزياحات بجوهر المهمّة الموكولة الى هذا الجهاز. فبعد أكثر من 50 سنة تحت الديكتاتوريّة، احتلّ رجل الأمن المخيال الشعبي بصورة الفرد النافذ الذي يحاول إضفاء شرعيّة على مكانته من خلال احتكاكه بالآخر. وهو ما يؤدي الى مجموعة من التجاوزات سواء كان ذلك على المستوى الفردي (رجال الأمن في تعاملاتهم اليوميّة في مختلف الوضعيات مع المواطنين) أو على مستوى الجماعي (مسألة النقابات الأمنيّة التي تطوّرت تدريجيا لتكون دولة داخل الدولة).
من الطبيعي أن يكون هذا المشهد محفّزا للمواطن على إعادة الثورة من جديد بما أنّه يستشعر خطرا محدقا بمكسب وحيد تقريبا وهو الحريّة. اذ تبدو هذه الأخيرة مهدّدة بما أنّ مجموعة من الحوادث تمثّل مؤشرات على عودة الممارسات البوليسيّة في أكثر من مناسبة. وهو ما ينتج صراعا بين المواطن والبوليس. عادة ما يُحسم لصالح هذا الأخير الذي يرتكز على شرعيّة زائفة في كلّ مرّة يستمدّها أساسا من غياب القرار السياسي الصائب على عكس ما يحصل في العديد من البلدان الأخرى.
اذ تعمل العديد من البلدان الأوروبيّة (وخاصّة فرنسا) على مسألة ادماج البوليس في الأحياء الشعبيّة التي تشهد توترا ونسب اجرام مرتفعة وذلك عبر تمكينهم من آليات تخوّل لهم فهم عقليات أبناء المنطقة المعنيّة لتجاوز المعوّقات التي تكون سببا في تفاقم الأوضاع. في تونس، لا يبدو هذا الحلّ ناجعا او قابلا للتطبيق اذ أنّ رجال الأمن يقع استقطابهم وتمرّ فترة التدريب في وقت وجيز ولا يلقّنون خلالها أي شيء يمكن أن يساعدهم في تعاملاتهم على الميدان. فيكون رجل الأمن مُقَلِّدا لمن سبقه وموظّفا لما استبطنه في لاوعيه عن هذه المهنة (سلطة، نفوذ، علويّة، صراع دائم مع الآخر…) وبالتالي يكون في وضعيّة مريحة دون أيّ رقابة في علاقته بالمواطن. هذا النموذج المؤسطر للبوليس تقابله قوّة مضادّة تعوّض غياب السلطة وهي معارضة المواطن الذي يرفض هذه العلويّة اللاشرعيّة. هنا، يمكن أن نستنتج أنّ موروث الاستبداد السياسيّ في تونس يلقي بظلاله على هذه العلاقة الثنائيّة المعقّدة ويجعلنا نعيش نفس الأزمات والمشاكل اليوميّة الناتجة عن الممارسات البوليسيّة.
اهتمّ ميشال فوكو في “المراقبة والمعاقبة” (1975) على نشأة البوليس وتتبّع ظروف نشأته وظهوره منذ القرن الثامن عشر. وقد شرح أنّ هذا الجهاز يستمدّ شرعيّته من خلال ارتباطه بالسلطة والعدالة مثلا ليست سوى مسجّل/ مساعد له لإتمام مهامّه. وإذا أسقطنا هذا التحليل على الواقع التونسيّ، سنلاحظ انّ جهاز البوليس مازال متمتّعا بكامل عنفوانه لا بل أنّه صمد بعد رياح ثورة طالبت بالتغيير مما يجعلنا نستفسر عن آليات اشتغاله في علاقة بالسلطة السياسيّة الموجودة. فكأنّه مرتبط ارتباطا عضويا بأيّ سلطة سياسيّة تأتي لأنها تفهم أنّه ضروريّ لبسط النفوذ وتجسيد ذلك المفهوم الذي يبقى طوباويا بدون البوليس ونقصد هنا العنف الشرعي الذي تحتكره الدولة (حادثة الرش في سليانة نموذجا: فقد وقع تبرير ما حصل بأنّه يدخل في حقّ الدولة استعمال العنف الشرعي في حالة العصيان المدني).
هكذا تتشكّل ملامح جمهوريّة البوليس التي تضرب بالعقد الاجتماعي عرض الحائط وتطلق العنان لعصا رجال الأمن في كلّ مناسبة لبسط نفوذها واحكام قبضتها على كلّ المجالات. وقد أدّت هذه الوضعيّة المترديّة وتعدّد فضاءات/مجالات الصراع بين البوليس والمواطن، تمثّل أيضا سببا في التحام أطياف متعدّدة التي توسّلت الحركات النضاليّة السلميّة ايمانا منها أنّ الشارع وحده كفيل بالتنديد بممارسات البوليس في انتظار تغيير المنظومة أو إصلاحها ليتحوّل أمننا الى أمن جمهوريّ.
“سنجد ثلاثة نقاط أساسيّة حلّلها الكاتب الفرنسي بيار أنطوان مالفي المختصّ في المسائل الأمنيّة، وهي: حماية المواطن، الحفاظ على سيادة الدولة وهيبتها، التصدي للأعمال الاجراميّة.” …
مقال جريء .. لكن في تونس أمر جهاز البوليس معقد أكثر مما نتصور .. بعد المهمات الثلاث التي يسردها بيار أنطوان، كان هناك خاصة مهمة رابعة للبوليس في تونس ، وهي عصا الحزب الحاكم و المنتمين إليه و ليس فقط مؤسسة العنف الشرعي للدولة و للنظام السياسي .. بوليس مليشياوي .. (و هذا لا يخص كل أبناء الأمن ، لكن مجموعة كبيرة منهم ).. ثم هو بوليس يمكن أن يتسلفه الحزب الحاكم ليوم أو يومين لقضاء حاجة معينة (محمد الصياح مدير الحزب طلب أن توضع وزارة الداخلية تحت تصرفه يوم 26 جانفي 1978 )، تخيل ! و كان له ذلك . نعم تأسست الجمهورية في عهد بورقيبة ، لكن سرعان ما إستولت عليها العائلات النافذة و رجال الأعمال الفاسدين ، و خاصة إستولى عليها الحزب الحاكم .. و كم من أمني أراد أن يطبق القانون فوقع عزله ، و تأديبه ، و نقلته في أحسن الحالات التأديبية .. و هنا نتكلم على قضايا تخص الشأن العام (الجريمة ، الفساد ) ، و ليس قضايا المعارضين السياسيين (ذلك أمر أخر ، لا يتطلب قواعد نظامية في التعامل مع المعارض السياسي ).. عهد بورقيبة و عهد بن علي كان عهد فاشي مع المعارضة السياسية .. و هنا أيضا لا أتكلم عن المعارضة الكرتونية التي ساهمت في إستدامة الفترة الفاشية لما قبلت أن تكون الديكور الديمقراطي للدكتاتور .. و حتى بعد الثورة ساهمت في الحكم معه ، مع ازلامه ، في حكومات محمد الغنوشي .. فبناء عقلية جديدة تكون بمثابة عقيدة و فلسفة أداء أمني جمهوري ، يقوم بمهمته المسطرة في الدستور ، يلزم عدة عقود ، و خاصة يلزم البداية .. كلنا نتذكر البعض من الحقوقيين بعد الثورة ، لإصلاح وزارة الداخلية كانوا يقترحون ، تفكيك الوزارة الغول ، و جعلها كتابات دولة ، ليس لها قدرة أن تكون لها عقيدة الغول ، الذي يفعل ما يريد و لا يحاسب .. اليوم وزارة كما يقول الكثيرين و على رأسهم وزراء الداخلية ، و وزير الداخلية الحالي ، أن هذه الوزارة تعافت عبر الحرب على الارهاب .. نعم ، هذا صحيح .. لكن هذه الوزارة ، ساكنة البناية الرمادية ، لم تتعافى كما هو مطلوب منها في الدستور (نظام الجمهورية ) عبر الحرب على الجريمة المنظمة ؛ لم تتعافى عبر الحرب على الفساد .. و الحالة التونسية دليل على ذلك .. ما أقوله هنا ليس لوما على وزارة الداخلية و لا على الأمنيين كرجال أمن ، لا أبدا.. حتى تتعافى مؤسسة سيادية يجب أن يكون هناك قرار سياسي ، إرادة سياسية .. السياسي هو الذي يصنع عقيدة و فلسفة القطاع ، أي قطاع عمومي .. و خاصة المؤسسة الأمنية .. و بنا إذا نريد أن نلوم، نلوم الحاكم ، رجل الدولة ، السائس ، و الفلاسفة و المفكرين الذي معه .. ثم أيضا كثير من الأحزاب ، كانت تحسب على المعارضة ساهمت بصفة مباشرة أو غير مباشرة في إستمرار الإنفصام بين الأمني و المواطن .. مع الأسف .. ثم النظام الحاكم لم يضع الامكانيات الكافية لأحداث التغيير في القطاع الأمني .. على مستوى التكوين الفكري ، الفلسفي ، الحقوقي .. أيضا قضايا الارهاب ساهمت في إستمرار التعذيب ، في إستمرار التعامل مع المعارض ، أو المحتج ، أو الصحفي، بعقلية الفتك .. هنا لا أقول أن جهاز الأمن ، كما هو عليه في عهد الفاشية البورقيبية أو بن علي .. الأمن اليوم لا يححدد بالضرورة ، اللون و الذوق ، وو و ، كما كان في عهد الدكتاتورية .. هناك هامش من الحريات .. كما هناك خوف من الشعب ، أن يثور من جديد ، و هذا خوف إيجابي … لكن الأمن الجمهوري كما يمكن فهمه ، نحن بعيدين عنه .. اليوم البوليس لا يحمي حزب معين ، كما كان في السابق ، لكنه لم يتعافى عبر الحرب على الفساد .. و في الحقيقة ، الدولة نفسها لم تتعافى عبر الحرب على الفساد و على المافيات الكبرى .. لم ندخل أبواب التغيير ، نحن نعيش قشور .. و لا يجب أن نقول أن هذا خير من بلاش .. يجب أن نستميت بكل أناقة ، في إطار وحدة الدولة و المجتمع حتى نؤسس للجمهورية ، كدولة قانون ، كدولة حقوق إنسان ، دولة الكرامة و الحرية التي تحتضن ابنائها .. حتى لا يفكر الناس في الحرقة الغير نظامية ! العقد الاجتماعي لا يزال ميت .. و تعافي كل القطاعات العمومية يبدأ بتفعيل العقد الاجتماعي .
التغيير بالأساس هو إرادة قوية ، هو فلسفة ، هو عقيدة ، هو إقتناع بأن الموجود هالة غير سليمة .. ميش نرجع كي ما كنا !
لتغيير العقلية و الفلسفة و العقيدة الأمنية ، و الأداء الأمني ، يلزم تغيير العقلية السياسية و التفكير السياسي الذي يدير الشأن العام ..
تحية لكل الامنيين المستبسلين في الدفاع عن المواطن و الوطن .. تحية لشهداء العائلة الأمنية و لكل شهداء تونس .
اتمنى الخير لكل شعبنا .