يسترسل سائق الأجرة في الحديث عن ثراء المدينة وارتباطها بأنظمة الحكم منذ الستينات، لأنها كانت مَسكنا لبعض الوزراء وأقارب الرؤساء. عندما نصل إلى مشارف المدينة يطالعنا شارعها الرئيسي الواسع، اتحاد المغرب العربي، الذي يزدحم بالمحلات التجارية ويمتد من سكرة البريد ليصل إلى مشارف الشرقية. وفي الأثناء ينتبه السائق إلى أحد مُخفضات السرعة المنتصب في الطريق، ليشير بيده إلى بعض ”الفيلات“ المطلة على الشارع ”هنا يسكن الرئيس وابنه حافظ، حُومة شِيخ العْرَب“. في الطريق إلى المدرسة الابتدائية بسيدي فرج، أين يدلي الرئيس قايد السبسي بصوته الانتخابي، تأتي بعض الأسئلة: ماذا تخفي هذه الواجهات الثرية وراءها؟ كيف يتشكل المزاج الانتخابي في هذه المدينة التي تَحضر في المخيال الاجتماعي من خلال ارتباطها بمراكز الحكم والنفوذ؟
يقول لنا يوسف القيزاني، ملاحظ نداء تونس بمركز الاقتراع، الذي يُظهر ابتسامة هادئة في وجه الصحفيين ”الإقبال على التصويت ليس مكثفا. ولا أظن أن قدوم الرئيس سيؤثر على الناخبين لأن الناس لديهم قناعات مسبقة، ولكني أتوقع فوز قائمة نداء تونس بسكرة“. كان الصف القصير أمام مكتب الاقتراع يضم بعض كبار السن وعدد من الكهول ولم نلمح فيه شبّانا أو شابات. تُعد سكرة من أكبر المناطق الحضرية بولاية أريانة، وتعتبر ميزانية بلديتها غنية مقارنة ببلديات أخرى، حيث بلغت مواردها في سنة 2017 حوالي 30,3 مليون دينار. ويُعرف حي سيدي فرج بأنه ”حي الأثرياء“، ولكنه يتجاور مع حي الفاتح، الذي أشار بعض الذين تحدثنا إليهم أمام مركز الاقتراع أنه أكثر الأحياء تهميشا وفقرا في المدينة. وقد قال مبارك فلفول، أحد ملاحظي الانتخابات البلدية بسكرة، أن ”سكرة ارتبطت لدى من لا يعرفها ببعض بيوت السلطة مثل المزالي وقايد السبسي والعريبي وزرق العيون. ولكن الأحياء الراقية لاتتجاوز الخمس في هذه المنطقة التي أصبحت تزيد على 150 ألف ساكن“.
حي الفاتح: البعوض والوحل والظلام
حتى تدخل إلى حي الفاتح عليك أن تمر بسيدي فرج، الحي الذي توحي ”فيلاته“ الجميلة وأنهجه النظيفة بالثراء، وأيضا شارع فطومة بورقيبة الذي يزدحم بالمحلات التجارية الضخمة. ولكن منذ أن تمضي السيارة قليلا في حي الفاتح حتى تنقطع الطريق المُعبدة ويبدأ مسلك فلاحي وَعِر تتوسطه الحفر وبقايا برك المياه، وقد فهمنا أن الحي كان شبه معزول عن محيطه المُجاور قبل أن تقوم البلدية بشق هذا المسلك الفلاحي، ويحتفظ السكان هناك بذكرى تعود إلى 3 سنوات عندما تُوفي أحدهم شتاءً ولم يستطيعوا إخراجه من الحي. يبدو المكان مُحاصرا من أحد جهاته بسبخة روّاد ومن الجهة الخلفية يدير ظهره إلى ثراء الآخرين. تتوقف السيارة أمام مقهى حاتم الذي يجتمع فيه عدد كبير من الرجال، هناك قال لنا الصحبي روافي، 57 سنة، عامل بناء وأصيل منطقة القصرين ”أغلبية السكان هم أصيلي المناطق الداخلية مثل القصرين وسيدي بوزيد وباجة والكاف، ويشتغل معظمهم في حضائر البناء. لقد سئمنا الشكوى للبلدية، ولا نطالبهم سوى بتحسينات ضرورية لحياتنا اليومية كتهيئة الطريق والإنارة والتطهير“.
هذا الحي الذي يلتحف بلون الآجر الأحمر، كان وليد حركة هجرة من المناطق الداخلية إلى العاصمة نشطت بشكل عام منذ بداية السبعينات. وعلى الأرجح –حسب ما أفادنا به بعض الأهالي- أصبح يزدحم بالسكان منذ أواسط التسعينات. في الأثناء يشير محمود حميدي، 40 سنة، بامتعاض إلى مصب الفضلات الذي يحاصر الحي، ”نحن لا نستطيع الجلوس في المقهي ليلا بسبب الحشرات، وأصبحنا نخشى على أطفالنا من الكلاب السائبة. أما الروائح الكريهة المنبعثة من سبخة رواد ومن بقايا الفضلات المحروقة فهي جزء من عاداتنا اليومية“. ثم يستدير محمود قليلا ويشير في الآفاق إلى ما وراء حي الفاتح، بالتحديد إلى حي سيدي فرج المجاور ”منزل أخت الرئيس الذي لا يبتعد أمتارا من هنا وَصلته الطريق والإنارة. الفْلُوس ضَربِتها الصْحَاح والزّوَّالي ياكِل فِي لَعْصَا“. لا يلوح لدى بعض من تحدثنا إليهم في المقهى حماس للذهاب إلى مكاتب الاقتراع. ولايستبطن السكان هنا انتماءا كبيرا إلى البلدية التي يرتبط وجودها في نظرهم برعاية مصالح سكان الأحياء الراقية.
سكرة، مدينة المتناقضات
عندما غادرنا حي الفاتح، كانت الوجهة دار فضّال التي تتجاور هي الأخرى مع ”حومة الرئيس“ عبر نهج المطار. وفي الطريق يحدثنا مُرافقنا مبارك فلفول، عن التحول العمراني والاجتماعي الذي شهدته المنطقة ”لقد كانت سكرة منطقة فلاحية بالأساس ولكنها تحولت شيئا فشيئا وطيلة الثلاثين سنة الماضية إلى منطقة تجارية وذات كثافة عمرانية، وفي دار فضال مثلا نستفيق كل سنة على بنايات وأحياء جديدة، بعضها ساهمت فيه الطبقات الوسطى والبعض الآخر يعود إلى العائلات الثرية“. ويضيف محدثنا بأنه أصبح ملفتا الاختلاط بين الأحياء الشعبية وتلك التي يقطنها الأثرياء والمرَفَّهون، ولكن تظل تفصلهم بعض الحواجز الأمنية والاجتماعية التي لا تُرى بالضرورة دائما ولكنها مؤثرة في المعيش اليومي. وقد لاحظنا على حدود الطريق الفاصلة بين سيدي فرج ودار فضال منطقة صغيرة تغطّيها ”الفيلات“، التي قال مرافقنا أنها تُدعى ”حي العنب“ ويقطنها عدد من أصحاب النفوذ المالي والسياسي.
في دار فضال، توجد أيضا ”الحْوِم الشعبية“ والحُفر التي تتوسط بعض الأنهج مثل نهج المطار ونهج السلامة. وقد حدثنا المواطن حطّاب حمدي، 59 سنة، الذي كان يشير بإصبعه المغموس في الحبر الأزرق، عن الأزمة البيئية والصحية التي بات يسببها مجمع مياه الأمطار بنهج ميناكس بدار فضال ”لقد تحوَّل إلى مستنقع للحشرات والزواحف السامة وأصبحنا نعاني من الروائح الكريهة، والذي زاد الطين بلة أن المجمع أصبح مصب فضلات لأحد مصانع الخّفاف الذي ينتصب في قلب الحي“.
أمام مركز الاقتراع بالمدرسة الابتدائية دار فضال1، تبدو الحركة هادئة ولم يكن الإقبال المواطني كبيرا، في الأثناء توزّع بعض أعضاء القائمات الانتخابية في محيط المركز. هناك التقينا الشابة أسماء الجابري، مترشحة عن قائمة اتحاد أهالي سكرة، التي أكدت لنا أنه ”لا يوجد إقبال كبير في مركز اقتراع دار فضال 1 وقد كان هذا الأمر متوقعا منذ الحملة الانتخابية التي لمسنا خلالها استياءً كبيرا من المواطنين ورغبة في المقاطعة، وكثيرا ما كانوا يعبرون لنا عن عدم ثقتهم في قدرة النيابة الخصوصية على حل مشاكلهم بسبب الطرق غير المهيّئة والنقص في الإنارة والإهمال البيئي“.
Mais toute la Tunisie, est contradiction ! Et la marginalisation n’a pas été que la part des régions de l’intérieur. Toutes les villes dites riches offrent un contraste, disant malheur !