أدّى سوء الحوكمة وسياسة الهروب إلى الأمام في معالجة ملّف الصناديق الإجتماعيّة وقانون التقاعد إلى تراكم عجز هذه الصناديق ليبلغ 789 مليون دينار سنة 2015 والذّي تتوقّع الحكومة أن يُناهز 1251 مليون دينار أواخر سنة 2017 حسب التقرير الذّي أصدرته القصبة في 24 مارس 2018 تحت عنوان “استراتيجيّة إصلاح الصناديق الإجتماعيّة”. لتلجأ حكومة يوسف الشاهد في خطوة مفاجئة إلى فرض رؤية أحاديّة لمعالجة هذا الملّف بمعزل عن لجنة الحماية الإجتماعية المتكونة من منظّمتيْ الشغل والأعراف ووزارة الشؤون الاجتماعية.
مفاوضات متعثّرة على أرض هشّة
كان قرار الحكومة يوم 20 جوان الفارط باتخاذ خطوة فرديّة عبر المصادقة على مشروع قانون التقاعد وإحالته إلى مجلس نوّاب الشعب إنعكاسا للطريق المسدود الذّي وصلت إليه الأمور صلب لجنة الحماية الإجتماعيّة التّي تأسّست في 14 جانفي 2013، كفضاء توافقيّ لتسوية الخلافات. فملّف التقاعد وإصلاح الصناديق الاجتماعيّة ظلّ يراوح مكانه منذ ثلاث سنوات نظرا لإختلاف وجهات النظر بين كلّ من الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة ووزارة الشؤون الإجتماعيّة.
وتتمحور أغلب نقاط الخلاف بين الحكومة ومنظّمة الشغيلة بالأساس حول الترفيع في سنّ التقاعد إلى 62 سنة إجباريّا و65 سنة إختياريّا والتّي كانت الهيئة الإداريّة قد وافقت عليها سابقا “شريطة تقديم تضحيات متبادلة من قبل الأطراف الأخرى”. لتعود المركزيّة النقابيّة لنفي الاتفاق عقب خطاب يوسف الشاهد أمام البرلمان في نوفمبر 2017، والذي تلاه تعليق المفاوضات صلب لجنة الحماية الإجتماعيّة قبل استئنافها مؤخّرا. أمّا بقيّة النقاط الخلافيّة الأخرى فتشمل القطاعات والمهن المشمولة بالأمر عدد 1377 المتعلق بأصناف العملة الذين يقومون بأعمال منهكة ومخلة بالصحة الذي يتيح لهم التقاعد في سنّ 55 سنة والأمر عدد 1178 المتعلقّ بقائمة الأعوان الذين يمارسون وظائف مرهقة والذي يتيح التقاعد في سنّ الـ55 سنة على قاعدة 35 سنة عمل والتّي كانت أحد أسباب الازمة الأخيرة بين الحكومة ونقابة التعليم الثانوي. وأخيرا، الترفيع في نسب المساهمات ب 3% مقسّمة بنسبة الثلثين للدولة الثلث للموظّف أو الأجير بداية من السنة الحالية بالنسبة للقطاع العام، أما في القطاع الخاص فاقترحت الحكومة الترفيع تدريجيا في نسبة المساهمات على سنتين منها 0.5% على كاهل المؤسسة و0.5% على كاهل العون بداية من سنة 2018، ثم نفس النسبة سنة 2019، لتجابه برفض منظّمة الأعراف التي رأت في الإجراء أعباء إضافيّة على المؤسّسات الخاصّة.
إشكاليّة ملفّ التقاعد، لم تقتصر على هذه النقاط الخلافيّة، بل انتقلت إلى مرحلة التأثير المباشر على جرايات المتقاعدين بعد حجب القسط الثاني من الزيادة العامة لسنة 2017 والتأخير في صرف الجرايات للمتقاعدين في شهر جانفي 2018، لتكون مقدّمة لسلسلة من الإجراءات الحكوميّة المتتالية التّي ارتأت تحميل المتقاعدين، الذّين يمثّلون المموّل الرئيسي للصناديق الإجتماعيّة منذ عقود، ارتدادات فشل إدارة هذه المؤسّسة العموميّة.
أزمة المتقاعدين تفرض هدنة بين الحكومة والإتحاد
كانت العلاقة بين حكومة يوسف الشاهد والاتحاد العام التونسي للشغل قد بلغت مستوى غير مسبوق من القطيعة خصوصا بعد إعلان المنظّمة مقاطعة الندوة الوطنية حول الإصلاحات الكبرى في 11 أفريل 2018 وتمسّكها لاحقا بإقالة يوسف الشاهد خلال نقاشات وثيقة قرطاج 2. هذا المسار التصاعديّ للتوتّر بين الطرفين ألقى بظلاله على المفاوضات صلب لجنة الحماية الإجتماعيّة، لتكون الخطوة الأخيرة للحكومة بالمصادقة الأحاديّة على مشروع قانون التقاعد إنذارا بأزمة جديدة. قرار سرعان ما ردّ عليه الإتحاد عبر مجمعيْ الوظيفة العمومية والقطاع العام في 21 جوان 2018، ليصدر بيانا عبّر من خلاله عن رفضه لقرار مجلس الوزارء ومعلنا “تجنّده التّام للدفاع عن مصالح الأجراء”. موقف أعادت صياغته الجامعة العامة للمتعاقدين في نفس اليوم، لتدعو منظوريها إلى اعتصامات مفتوحة في كلّ الجهات بدأ من 27 جوان 2018 أمام وزارة الشؤون الإجتماعيّة وفروعها الجهويّة. أمّا في الجهة المقابلة، فقد اصرّت الحكومة على لسان وزير الشؤون الإجتماعيّة محمد الطرابلسي أنّ المصادقة اقتصرت على الفصول المتوافق عليها، مطالبا الجميع بالعودة إلى طاولة المفاوضات. خطوة لم تتحقّق إلا بعد دخول المتقاعدين في اعتصامات جهويّة دامت 48 ساعة قبل أن يعلن الطرفان عن اجتماع يوم الخميس 28 جوان جمع لأوّل مرّة منذ شهر مارس الفارط كلّا من رئيس الحكومة يوسف الشاهد والأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبّوبي وجها لوجه. هذا اللقاء الذّي انتهى بتعهّدات حكوميّة بفض إشكالات ملف المتقاعدين التابعين للصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية عبر إيجاد الصيغة القانونية في أجل أقصاه 6 جويلية 2018 وصرف مستحقاتهم، لم يغيّر موقف منظّمة الشغيلة من يوسف الشاهد. إذ سارع عضو المكتب التنفيذي سامي الطاهري في تصريح صحفيّ إلى التأكيد على عدم تعارض مسار التفاوض الاجتماعي والمطالبة بتغيير الحكومة، ليجدّد التذكير بموقفه الداعي لتغيير رئيس الحكومة واستئناف المحادثات لفضّ الأزمة السياسيّة.
بين مطرقة الاتحاد وسندان صندوق النقد
الإعلان عن استئناف الحوار الاجتماعيّ، وإن بدى لوهلة بادرة انفراج في العلاقة بين حكومة يوسف الشاهد والاتحاد العام التونسي للشغل، إلاّ انّ التعهّدات الحكوميّة السابقة تجاه صندوق النقد الدولي بخصوص الإصلاحات الإقتصاديّة الكبرى، قد تعيد الجميع إلى المربّع الأوّل. فقضيّة الصناديق الإجتماعيّة تتجاوز القرار الداخليّ، كونها تمثّل أحد البنود الرئيسيّة لاتفاق قرض “تسهيل الصندوق الممدد”. فالإجراء الحكوميّ الأخير لا يقرأ خارج سياق الاستجابة المباشرة بعد أقلّ من شهر، للنقطة الثالثة الواردة في بيان صندوق النقد الدولي بتاريخ 30 ماي 2018، الذّي تلى زيارة ” المراجعة الثالثة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي التونسي” قبيل تسليم تونس القسط الرابع من هذا القرض بقيمة 257 مليون دولار. حيث نصّ البيان المذكور على “اعتماد مشروع قانون إصلاح نظام التقاعد من أجل تعزيز الاستدامة المالية لنظام الضمان الاجتماعي”. وهو ما يعني الدعوة الصريحة للحكومة التونسيّة لتطبيق برنامجها الخاص لإصلاح الصناديق الإجتماعيّة والقيام بخطوات ملموسة قبيل تسليم القسط المنتظر من القرض. هذه التوصيات التّي شملت كذلك مسألة الدعم الحكومي للطاقة و”زيادة تشديد الشروط النقدية” بحسب ما جاء في البيان، التقطتها حكومة يوسف الشاهد سريعا لتعلن الترفيع في نسبة الفائدة المديرية في 03 جوان 2018 وزيادة أسعار المحروقات بعدها بأسبوعين.
إجراءات قد تضع اللقاء الأخير بين رئيس الحكومة والأمين العام لاتحاد الشغل في خانة المناورة خصوصا مع إعلان منظّمة الشغيلة رفض هذه الإجراءات “اللاشعبيّة” بحسب تعبيرها و”المطالبة بتغيير عميق في الحكومة المسؤولة عن كل الاجراءات اللاإجتماعية المتخذة والمتنكرة للاتفاقيات المبرمة والمتسببة في تنامي الثورات الاجتماعية.”
iThere are no comments
Add yours