في 26 مارس 2018 دشَّن وزير الصحة عماد الحمامي وحدة جديدة لتعليب المياه تحت علامة ”برستين“، وقد صرح حينها الحمامي أن ”الحكومة ستدعم وتشجع كل من يريد الاستثمار في قطاع المياه في ولاية زغوان أو غيرها من المناطق“. علامة ”برستين“ المملوكة لشركة معز بوراوي التركي، تستغل بئرا عميقة محفورة في المنطقة الأثرية الرومانية معبد المياه، وبجانب الحنايا، وهي لا تبعد كثيرا عن مضخات الماء التابعة للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه. وقد أعلن مالكوها أثناء التدشين، أنها ستنتج 8000 قارورة في الساعة و40 مليون قارورة في السنة، وقد عرفت طيلة الصائفة الفارطة اكتساحا للسوق المحلية رغم حداثتها.

تعد ”برستين“ العلامة الثالثة في مدينة زغوان بعد علامتي ”كريستالين“ التابعة لشركة المحطات والمياه المعدنية و”أكوالين“ التابعة لشركة مية زغوان. إضافة إلى علامة ”فيفيان“ التابعة لشركة زغوان للمياه المعلبة، الكائنة بمعتمدية صواف، وحسب غلاف العلبة فإن علامة ”فيفيان“ تحصلت على ترخيص من ديوان المياه المعدنية في 28 أوت 2017 وعلى ترخيص من وزارة الصحة العمومية في 24 سبتمبر 2011. ويُذكر أن الشركات الأربعة المنتصبة بولاية زغوان، هي من أصل 20 شركة موجودة في البلاد، حسب المعطيات التي أفادنا بها الديوان الوطني للمياه المعدنية. وتتحصل هذه الشركات على رخصة التعليب والترويج من قبل لجنة المياه المعلبة ولجنة الملك العمومي للمياه التابعة لوزارة الصحة ووزارة الفلاحة والموارد المائية.

عاصمة المياه بلا ماء !

أثناء حفل تدشين علامة ”برستين“ أشار رزيق الوسلاتي، المدير العام للديوان الوطني للمياه المعدنية، إلى أن هذا المشروع ”سيمكن ولاية زغوان من تحقيق الاكتفاء الذاتي من المياه“. ولكن بعدها بأقل من شهرين، أعلنت الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه في بلاغ لها عن انقطاع في توزيع مياه الشرب بمدينة زغوان وضواحيها بسبب ”أشغال صيانة لتغيير مضخة البئر العميقة بمعبد المياه بزغوان قصد تدعيم طاقة الضخ بالمنطقة“. ومنذ 09 ماي 2018 تتالت انقطاعات المياه في مدينة زغوان لتبلغ ذروتها في جويلية المنقضي، وهو ما اضطر مجموعة كبيرة من نساء المدينة إلى تنظيم وقفة احتجاجية أمام مقر إقليم الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه بزغوان، للمطالبة بتوضيحات حول الإنقطاعات الدورية للمياه طيلة فصل الصيف.

في هذا السياق أكدت هدى خليل، مُشارِكة في الوقفة النسائية وناشطة في المجتمع المدني، لنواة أن ”هناك إهدار للثروة المائية من خلال حفر الآبار العميقة بطريقة عشوائية، سواء تلك الموجهة لتلبية حاجيات المصانع والاستثمار الفلاحي أو المُستغلة من قبل شركات المياه المعدنية“. وأضافت هدى خليل أنه ”لا يوجد حد أدنى من الشفافية والوضوح في فتح ملف استغلال المياه من قبل السلط المعنية رغم شبهات الفساد البادية، ولم تتعامل هذه الأخيرة بالجدية المطلوبة مع مكونات المجتمع المدني التي دعت إلى بحث آفاق استغلال المياه بزغوان من خلال لجنة تكونت سنة 2016“.

انقطاعات المياه أرجعها حمزة البحري، المندوب الجهوي للتنمية الفلاحية بزغوان، إلى أن ”النسبة المسجلة لكميات الأمطار هذه السنة لم تبلغ 40 بالمائة من المعدل السنوي وهو ما أدى بصفة مباشرة إلى هبوط حاد وفجئي في حجم المائدة المائية“. من جهة أخرى تشير معطيات الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه إلى أن ”سبب الإضطرابات في عمليات التزود بالماء الصالح للشراب أثناء أوقات الذروة بالمناطق العليا لمدينة زغوان (عين هارون، الحنايا، ساحة العلم، سانية الباب، الحي الإداري، وسط المدينة) يعود إلى النقص الحاصل في الموارد المائية، 20 لتر/ الثانية“. وقد أشارت الشركة إلى أنها ستلجأ إلى معالجة هذه الاضطرابات من خلال  ”مشروع البئر العميقة بجبل زغوان الذي سيوفر قوة تدفق 60 لتر/ الثانية عند دخوله حيز الإستغلال في موفى شهر أوت 2018“.

سوء استغلال المائدة المائية

يشير التقرير الجهوي حول وضعية البيئة بزغوان، الذي أصدرته وزارة التجهيز والتهيئة الترابية سنة 2014، إلى أنه  ”لا أحد يصاب بالعطش في مدينة زغوان خصوصا في البلدة العتيقة حيث ما يزال الماء العذب يتدفق في ينابيع السبيل المزينة بالجليز الملون والقرميد الأخضر“. ولكن البلدة العتيقة عانى سكانها –كغيرهم من أهالي المدينة- من العطش طيلة الصائفة المنقضية. هذا الاحتفاء الرسمي بخصوبة الثروة المائية بزغوان، يخفي واقع استنزاف المائدة المائية بالمدينة. في هذا السياق أوضح عادل شطيبة، محامي وعضو لجنة 2016 للبحث في وضعية المائدة المائية بزغوان، لنواة أنه ”من المفروض أن زغوان تحتوي على مائدة مائية متجددة كافية لتفادي العطش في سنوات الجفاف، ولكن الاستغلال غير المراقب والعشوائي أدى إلى استنزافها“. وقد أضاف محدثنا أن ”انقطاع المياه هو نتيجة لسوء استغلال الموارد المائية، الذي يتجلى في الآبار العميقة العشوائية، وشركات المياه المعدنية، والمنطقة الصناعية بزغوان من بينها مصنع ليلاس الذي يستهلك كميات مهولة من المياه الصالحة للشراب في التصنيع، إضافة إلى أن رخصة البئر العميقة الجديدة الممنوحة لنزل العرائس بزغوان تطرح الكثير من التساؤلات، خصوصا وأن طيلة فترة الصيف لاحظنا فيضانا للمياه في محيط النزل بسبب قوة الضغط على المائدة المائية“.

من جهة أخرى أشار عادل شطيبة إلى نقل الثروة المائية خارج المدينة عبر شبكات التوزيع التابعة للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه ”من خلال ربط عين عياد، المزود الرئيسي للمدينة، بالحنايا وبعين القصبة، وهو ما سهل سرقة المياه ونقلها إلى تونس الكبرى وأماكن أخرى“. ويٌذكر أن عين عياد كانت محل نزاع تاريخي بين الأهالي وأحمد باي سنة 1858، وحول ملابسات هذا النزاع أفاد خالد الشايب، مهندس أول في الهندسة المدنية وباحث دكتورا في تراث زغوان، لنواة أن ”أحمد باي قرر سنة 1858 بإيعاز من مهندس فرنسي إصلاح الحنايا وأخذ ماء زغوان وبيعه لسكان الحاضرة، فتمرد عليه الأهالي، واستشهدوا بعقود قديمة تثبت ملكيتهم للماء منذ 1650، أي قبل العهد  المرادي، و لم يستطع الباي تمرير مشروعه ورَكَن للتفاوض مع الأهالي واحترم حصتهم في امتلاك المياه، ولم تُحسم المسألة قضائيا لصالح الأهالي إلا سنة 1939 أثناء الحقبة الاستعمارية“. وأضاف الشايب أنه ”لا بد من التدقيق في استغلال الصوناد للمياه بزغوان، لأنه منذ دخولها المدينة في بداية ستينات القرن الماضي لم يعد ممكنا الاطلاع على كيفية توزيع مياه زغوان، خاصة وأن هناك ربط بين عين عياد وعين القصبة، التي يتم من خلالها نقل المياه إلى المقرن ثم جبل الوسط ثم فوشانة والمحمدية وأجزاء من تونس الكبرى“. ويُذكر أن السلطة في الفترة التي تلت الاستعمار اعترفت بملكية أهالي مدينة زغوان لجزء من الثروة المائية، من خلال الأمر عدد 150 الصادر بالرائد الرسمي بتاريخ 03 أفريل 1961، ويشير تقرير وزارة التجهيز المشار إليه سابقا إلى أنه بموجب هذا الأمر ”تم ضبط قائمة في المنتفعين وتم منح كمية مجانية من الماء لكل ثلاثية مع اعتماد وحدة تسمى ”التبنة“، وهي وحدة قياس للماء تُمنح حسب حاجة الدار تحت إشراف لجنة متكونة من وزارة الفلاحة والولاية وبلدية زغوان وممثلين من أهالي المدينة لهم دراية كبيرة باحتياجات السكان. يبلغ عدد المنتفعين بالكمية المجانية 243 منتفعا أما كمية المياه المجانية فتقدر بـ 139404 م³ سنويا“.

ذاكرة مائية طمستها فوضى الاستغلال المٌعاصر

من البديهي أن مدينة زغوان شهدت نموا ديمغرافيا منذ صدور أمر 1961، حيث يبلغ عدد سكانها حسب آخر تعداد لسنة 2014 حوالي 38445 نسمة. ولكن ارتفاع عدد السكان وازدياد حاجياتهم لم توازيه قدرة استراتيجية على حسن التصرف في الثروة المائية، وخاصة احترام حقهم في الحصول على الماء الصالح للشراب. وبالمقابل شهدت المدينة ازدحاما للمشاريع الصناعية والفلاحية التي تستغل كميات مهولة وعشوائية من المياه. إضافة إلى أنها أصبحت وجهة لشركات تعليب المياه، الذي قد يبلغ عددها في آخر السنة 5 شركات من أصل 20 شركة منتصبة في البلاد. هذا القطاع يدر أرباحا طائلة وأصبح وجهة للعديد من المستثمرين، إذ تشير إحصائيات الديوان الوطني للمياه المعدنية إلى أن المبيعات الجملية للمياه المعدنية تطورت من 454 مليون قارورة سنة 2008 إلى 1077 مليون قارورة، وهي مرشحة للارتفاع في ظل التشجيع الحكومي على الاستثمار في هذا القطاع.

تحت وطأة الاستغلال العشوائي المعاصر، تختفي تجربة فريدة ومبدعة في إدارة الثروة المائية بالمدينة، تعود إلى عهد الموريسكيين القادمين من الأندلس. عن هذه التجربة يقول الباحث خالد الشايب أن ”شبكة توزيع المياه بمدينة زغوان أقدم من الصوناد ومن شركة المياه الفرنسية، إذ تم إنشاؤها في بداية القرن السابع عشر، من قبل المورسكييين الذين أقاموا شبكات لتوزيع المياه في مدينة زغوان، صناعية وفلاحية وقنوات ربط تصل إلى المنازل والحمامات، وقد استجلبوا هذه التقنية من بلاد الأندلس. وقد فشلت فرنسا في انتزاع هذه الشبكة ولكن في سنة 1961 تم القضاء عليها تزامنا مع قدوم الصوناد“. وأضاف الشايب أنه سعى طيلة عمله كمهندس بوزارة التجهيز إلى المحافظة على ما تبقى من آثار هذه الشبكة وتسجيلها كثراث عالمي إلا أنه لم يجد تجاوبا من قبل السلطات، مؤكدا أن ”ما قام به الموريسكيون يعتبر أول منظومة مائية في إفريقيا“.