في أحد الملاهي الليليّة بتونس العاصمة، كنت أرقص بصخب على أغنية يقول أصدقائي المُثقّفين أنّها “هابطة”. رغم استمتاعي الواضح كنت أتفحّص الوجوه وأحاول التجوّل داخل رؤوس النّاس. كلّ شيء هنا يُمكن أن يتحوّل إلى مادّة صحفيّة أو موضوع للإستغلال الأدبيّ. غير بعيد عنّي كانت هناك فتاة تجلس رفقة نديمها. شدّني حضورها الفاتن، وبما أنّني أمتلك حدسا قويا عرفت أنّها متحوّلة. أخبرت أصدقائي ولم يُصدّقني أحد منهم فتحوّل الأمر إلى تحدّ بيني وبينهم، لكنّه في الحقيقة تحدّ بيني وبين نفسي لأنّي أبحث منذ مدّة طويلة عن متحوّلين في تونس كي أدوّن شهاداتهم. توجّهت إلى الفتاة وتحدثت إليها بتلقائيّة مُبالغ فيها. اسمها “هيفاء”، كان الكلام معها سهلا وخال من البروتوكولات والتعقيدات، ربّما لأنّ الملهى يُفرغ الناس من جديّتهم ويمتصّ عبوسهم النهاريّ، لا يهمّ. ترتدي هيفاء فستانا أسود مفتوحا عند صدرها البارز وكعبا عال وتضع الكثير من مساحيق التجميل على وجهها، لكنّ تفّاحة آدم التي لم تُزلها بعد تشي بماضيها. كانت تضحك بهستيريا وتروي النكات بسلاسة طريفة، غمزتني وطلبت منّي أن أرقص معها. ابتعدنا قليلا عن طاولتها وتظاهرنا أنّنا نرقص. اعترفت لي أنّها تشتغل عاملة جنس .تبادلنا أرقام الهواتف.
في اليوم الموالي، اتّصلت بي هيفاء باكية، وروت لي قصّتها باقتضاب. تُوفّيت والدتها عندما كان عُمرها خمس سنوات وطردها والدها من البيت عندما علم أنّ ابنه يُريد أن يتحوّل إلى فتاة. لم يكن والدها مُدركا لحجم التمزّق الذي تعيشه، ورغم محاولاتها اليائسة في التقرّب منه والتظاهر بأنّها تعاني من أزمة نفسيّة بسبب وفاة والدتها وزواجه من امرأة أخرى، إلاّ أنّه أصرّ على تعميق المسافات بينهما. قرّرت هيفاء أن تعيش هويّتها الجنسيّة الحقيقيّة لكنّها وجدت نفسها تعمل مع مجموعة من الفتيات غير المتحوّلات واللاّئي رحبّن بوجودها بينهنّ، صيّادة رجال في الملاهي والحانات. لم يكن ما قالته كافيا بالنسبة لي، أردت أن أعرف المزيد عنها لكنّها أقفلت كلّ نوافذها. اعترضتني مرّة بالصدفة في شارع الحريّة بالعاصمة، هممت بلومها لكنّها قاطعت كلامي قائلة: “إنتوما الصحافيين تحبوا تشقشيق الحناك. حياتي صعيبة والكلام ما يوكلنيش الخبز”.
قضيّة هالة تخلق الجدل حول المتحوّلين
في الأثناء أعادت لي قضيّة هالة المتحوّلة والتي تمّ الزجّ بها في سجن للرّجال بتهمة “الاعتداء على موظّف عمومي أثناء القيام بعمله”، الرغبة مُجدّدا في الكتابة عن هذا الموضوع. اتّصلت بمحاميتها الأستاذة فدوى براهم وأكّدت لي أنّ منوّبتها تعرّضت إلى الاعتداء على مقربة من عون أمن مُكلّف بحراسة كنيسة بأحد شوارع العاصمة، وعوض أن يتدخّل لفض المشكل طلب منها أن تمدّه ببطاقة هويّتها الوطنيّة مُتعمّدا استفزازها بكلام مُهين فتشاجرت معه. وأفادت براهم أنّه إثر شكاية عون الأمن تمّ إيداع هالة بجناح مُخصّص للمتحوّلين والمثليّين بسجن المرناقيّة. وقد تمّ الافراج عنها يوم الجمعة 21 سبتمبر 2018. ورغم أنّها لم تتعرّض إلى أيّ اعتداء داخل السّجن أو سوء معاملة باستثناء حلق شعرها بالكامل، إلاّ أنّ حالتها النفسيّة متردية خاصّة وأنّها غير قادرة على تقديم قضيّة لتغيير وثائق حالتها المدنيّة إلى أنثى. التقيت بعلي بوسالمي أحد مؤسّسي جمعيّة موجودين والذّي ساهم في نشر قضيّة هالة على مواقع التواصل الاجتماعي ليؤكّد لي أنّ ما حصل معها يندرج في إطار حملة مُمنهجة ضدّ المتحوّلين بدأت منذ سنوات، مُضيفا بالقول “وضعيّة المتحوّلين هشّة جدّا لأنّ البوليس بإمكانه تلفيق أي تهمة لهم ابتداء من الفصل 230 الذي يُجرّم المثليّة الجنسيّة، وصولا إلى ما يُسمّى في المجلّة الجزائيّة بـ”التجاهر بما يُنافي الحياء” و”الاعتداء على الأخلاق الحميدة” وخاصّة التهمة المشهورة “هضم جانب موظّف عمومي” استنادا إلى الفصل 125 من نفس المجلة”. يُتابع علي كلامه “هذه القوانين لم تُنقّح منذ سنة 1913 ويوظّفها البوليس للتضييق على الحريّات الفرديّة للمواطنين وبالأخصّ المثليّين والمتحوّلين. أعلم جيّدا أنّ مجتمعنا لن يتغيّر بين ليلة وضحاها لأنّ الموروث الثقافيّ والدينيّ يقف حاجزا أمام قبول الآخر لكنّني كنت أعتقد أنّه بعد الثورة سيتوفّر الحدّ الأدنى من الحريّات الفرديّة”.
تمكنت من تحديد موعد مع صديقة هالة المُقرّبة والمُكنّاة بـ”واويتا”، كنت أنتظر قدومها واحتمالات كثيرة تدور في رأسي حول شكلها وطريقة تفكيرها. لمحتها من بعيد رفقة صديق لها ولم يكن يوحي شكلها الخارجيّ أنّها متحوّلة، كانت ترتدي ملابس رجاليّة عاديّة، وتطلق لحية خفيفة. جلسنا بأحد المقاهي بجهة لافايات بالعاصمة وبدأت “واويتا” تتحدّث بحرقة عن هالة. لم أكن أسمع ما تقوله جيّدا، كنت أتابع بانتباه شديد حركات يدها وملامح وجهها ونبرة صوتها وهي تتكلّم. كان صعبا عليّ في البداية أن ألتزم بصيغة واحدة عند مناداتها، هل أخاطبها باستخدام ضمير المذكر “هو” أم المؤنث “هي”. لم يكن الأمر مهمّا جدّا بالنسبة إلى واويتا التي تبدو واثقة من نفسها ومُقتنعة بما هي عليه. لم أرد أن أعاملها ككائن هشّ قابل للكسر بسهولة لذلك قرّرت أن تكون واويتا “هي”، وهذا ما أحسسته فعلا. كان كلّ شيء يقول أنّها امرأة، في تناقض مثير للدهشة مع مظهرها الخارجيّ الذكوريّ. تكلّمت مُحدّثتي عن صديقتها هالة، تلك السرديّة الكلاسيكيّة للمتحوّلين: “كانت هالة طفلا لا يلعب بالكرة ويلعب بالدّمى، لا يُحبّ مُجالسة الصبيان ويُفضّل النميمة مع نساء الحيّ، لا يخرج إلى الشارع مع رفاقه ويظلّ قابعا في البيت يعبث بمساحيق التجميل الخاصّة بأمّه”. هذا الاختزال المُتجنّي لصورة المرأة أزعجني، ولكنّه كشف لي حجم التشوّه الذي تختزنه واويتا والكثيرات مثلها عن صورة المرأة المُشتهاة التي يُردن أن يكنّ مثلها. تبلغ واويتا من العمر 22 سنة، وهي تخضع باستمرار إلى استنطاق مجتمعيّ أبديّ عن هويّتها وميولاتها الجنسيّة، تُلاحقها النعوت البذيئة منذ أن كانت تلميذة بالمدرسة الإعداديّة حيث كان يعنّفها التلامذة ويسخرون منها. تقول واويتا “العنف والسخرية المتكرّرة ربيّا داخلي غضبا على السلطة وعلى المجتمع الذكوريّ الذي نبذني وهمّشني فاضطررت إلى البحث عن مجموعات تتقبّل وجودي وكانت المجموعة الأقرب لي في تلك الفترة متكوّنة من مثليّين. لم أكن أحبّهم ولكنّي كنت أرتاح معهم”، لتواصل حديثها “عندما كبرت اخترت عدم المواجهة لأنّي أريد أن أعيش في تونس وسط أهلي وأن أشتغل وأدرس ولكنّي في الليل أعيش حياة مختلفة تماما”.
بالحديث عن مواجهة النظام المُهيمن تعتبر واويتا أنّ المشكل في الجمعيات التي تقدمّ نفسها كمدافعة عن الحريّات الفرديّة والأقليّات الجنسيّة والتيّ حوّلت في نظرها قضيّة المثليّين والمتحوّلين إلى أصل تجاريّ تقتات منه وتوظّفه للاسترزاق من المموّلين الأجانب عوض مساعدة المتحوّلين ماديّا نظرا إلى أنّ سلامتهم الجسديّة مُهدّدة ويعيشون في وضع هشاشة اقتصاديّة واجتماعيّة. حاول علي بوسالمي تفسير هذه المسألة عندما طرحنا عليه نفس التساؤلات التي تُؤرّق واويتا في علاقة بهالة وغيرها من المتحوّلين قائلا “يُمكن للمموّلين أن يعطوننا تمويلات للقيام بدورات تكوينيّة في نزل فخم وعندما نطلب منهم تمويلات لصندوق الطوارئ المستقل عن الميزانيّة العامّة للجمعيّة، حتّى نتمكّن من مساعدة بعض المتحوّلين ماديّا يرفضون ذلك. هناك من يقبل بالتمويل المُباشر لمساعدتهم على دفع فواتيرهم ومعاليم الكراء واستكمال دراستهم ولكنّهم يحدّدون شروطا معيّنة كأن يكون الشخص الذي ينتفع بالتمويل المباشر ناشطا حقوقيّا إلى جانب التعقيدات البيروقراطيّة في تحضير ملف الانتفاع. هذه الشروط لا تتوفّر عند أغلب المتحوّلين في تونس لأنّهم لم يكملوا تعليمهم ومنهم من لا يمتلك هاتفا جوّالا وليس لديه مقرّ سُكنى رسميّ ولا يعرف حتّى كيف يرسل إيميل. أتفّهم لومهم وحتّى شيطنتهم لنا ولكنّ الأمر مُعقّد جدّا وتظلّ محاولات مساعدتهم ماديّا فرديّة مثلما حصل مع القضيّة المشهورة لطلبة القيروان المُتهمين بالمثلية الجنسيّة”. يواصل علي حديثه ليطرح إشكاليّة أخرى لا تُناقش علنا “المتحوّلون غير مُرحّب بهم في مجتمع الميم في حدّ ذاته فكيف سيُرحّب بهم المجتمع. هم يعانون من أزمة انتماء حقيقيّة حتّى وسط المجموعات التي من المُفترض أن تقبلهم. هناك قطيعة بين المتحوّلين والمثليّين، وحتى الأنشطة التي نقوم بها في الجمعيّة لا يشاركون فيها لأنّهم يشعرون بعدم الأمان والراحة مع المثليّين من كلا الجنسين وحتى مع مزدوجي الميول”.
سيرة أحمد المتحوّل: بائع الخضار بسوق سيدي البحري
ذهبت إلى سوق سيدي البحري بالعاصمة حتّى ألتقي أحمد الذي يشتغل بائع خضار. أحمد هو متحوّل (من امرأة إلى رجل) ويبلغ من العمر 36 سنة. وقفتُ إلى جانب محلّ لبيع الملابس المُستعملة مُنتظرة قدومه. جاء أحمد مُبتسما، يرتدي سروال جينز وسترة شتويّة شاحبة اللّون وحذاءً رياضيا. يمشي أحمد بخطوات واثقة وسط السّوق مُتفحّصا الباعة بعينه السوداء الصغيرة التي تلمع من تحت نظّاراته. رافقته إلى شقّته التي تقع بمبنى مُتهالك وسط السّوق. أثناء صعودنا على السلالم أخبرني أنّه يعيش مع ابنته فرح (اسم مستعار). ظننت أن فرح التي تبلغ من العمر 15 سنة ابنة أحمد قبل أن يتحوّل إلى رجل لأكتشف فيما بعد أنّها ابنة حبيبته وزوجته المستقبليّة التي طلّقت مؤخّرا زوجها وتعيش مع أحمد قصّة حبّ مُوجعة وشغوفة. دخلنا إلى الشقّة، سلّمتُ على فرح التي بدت لي فتاة مؤدّبة وتحترم أحمد وتُعامله كأب حقيقيّ لها. جلستُ على مقعد بلاستيكيّ مُتأمّلة المكان. الشقّة ضيّقة ولكنّها مُرتّبة وتُعطيك شعورا بالحميميّة والألفة. سألت أحمد عن الصورة الكبيرة المُعلّقة على جدار غرفة الجلوس فأخبرني أنّها صورة أمّ فرح، حبيبته. تحمّس وبدأ يُحدّثني عنها وعن تحضيرات الزواج قائلا “كلّ شيء في هذا البيت المتواضع اخترته بعناية. إمكانيّاتي محدودة ولكنّي أحاول ترتيبه. المطبخ لم يكن هكذا، لقد صنعت هذه الرفوف بنفسي واشتريت هذه الثريّا من محلّ لبيع الخردة لكنّها جميلة في نظري”. حدثني أحمد عن حياته دون دراما وتضخيم للأشياء. مرّ بفترات عصيبة بدأت منذ سنّ المراهقة عندما بدأ يطرح تساؤلات كثيرة حول هويّته الجندريّة. لم يكن يفهم ميله للبنات، وقد تعرّض للعنف مرّات عديدة من قبل تلامذة المعهد ممّا اضطّره إلى الانقطاع عن الدراسة.
يذكر أحمد جيّدا لحظة تمرّده الأولى عندما قام بحلق شعره الطويل، أحسّ آنذاك بسعادة غامرة، أحسّ بالتحرّر. عندما قدم من منطقة بوسالم -التي قضّى فيها طفولته- إلى العاصمة اشتغل في أماكن عديدة كان أوّلها مصنع للجبن لمدّة ثلاث سنوات. كان صعبا عليه أن يتعامل مع فتيات المعمل اللاّئي يسخرن من هيئته ومن “تشبّهه بالرّجال” على حدّ قولهنّ. قرّر الخروج من عمله والاشتغال بالفلاحة بمنطقة مُرناق ثمّ اشتغل لمدّة قصيرة ببعض الحضائر. الابتسامة لا تغيب عن وجه أحمد وكأنّه لا يستطيع فعل شيء أكثر من اللّهو بجراحه العميقة مثلما تقول الكاتبة اليابانيّة بنانا يوشيموتو في روايتها “خيالات ضوء القمر”[1]. لم يكن مُقتنعا، في سنوات ضياعه الأولى، بأنّه مثليّ الجنس، “أنا رجل هذا ما أحسّه والعادي أن أنجذب إلى النساء”، هكذا يقول. حاول الاستفسار عن حالته ليكتشف أنّه يعاني من اضطراب الهويّة الجنسيّة. تعرّف على مجموعة من المتحوّلين ونصحوه بالذهاب إلى مصر كي يقوم بتصحيح جنسه هناك. انطلقت رحلة أحمد التي دامت أربعة أشهر في مصر، كان عُمره آنذاك 29 سنة. اجتمعت لجنة تصحيح الجنس بنقابة الأطبّاء المصريّة بأحمد الذي كان ينتظر نتيجة اختبار الموافقة بلهفة. الموافقة مشروطة بفتوى من الأزهر. نجح أحمد في الاختبار الذي أكّد أنّ لديه اضطراب في الهويّة الجنسيّة ويحتاج إلى تصحيح جنسه. وصف له الطبيب علاجا هرمونيّا، هو عبارة عن حقنة يغرزها في عضلاته كل عشرين يوم (الحقنة الواحدة بـ13 دينار). بعد أشهر قليلة تغيّر شكل أحمد، غَلُظ صوته، وانقطعت دورته الشهريّة وبرز شعر لحيته. منذ قرابة 8 أشهر لم يأخذ أحمد علاجه الهرمونيّ نظرا لانقطاعه بكلّ الصيدليّات. لم يكتف بالعلاج الهرمونيّ حيث قام بجراحة لاستئصال ثدييه حتى يقترب أكثر من صورة الرجّل الذي يُريد أن يكونه قبل أن يقوم بجراحة تحويل الجنس في مصر وتتطلّب قرابة 30 ألف دينار تونسي، وهذه أمنية مؤجّلة. سيرفع أحمد قريبا قضيّة بمساعدة المحامية فدوى براهم (التي تمّ توكيلها من قبل جمعيّة موجودين) لتغيير أوراق حالته المدنيّة إلى رجل وهو أمر صعب رغم أنّ المحكمة الابتدائيّة بتونس أصدرت في شهر سبتمبر الماضي حُكما لفائدة مواطنة تُدعى “لينا” لتغيير اسمها والاذن لضابط الحالة المدنيّة بالتنصيص على أنّها من جنس الذكور بشهادة الولادة. وهو ما اعتبر سابقة في فقه القضاء التونسي على اعتبار أنّه لا يوجد قانون يتعرّض بصريح العبارة إلى مسألة تغيير الجنس في تونس.
فقه القضاء ومسألة تغيير الجنس
يتعامل فقه القضاء بمنطق أخلاقويّ ونزعة دينيّة مع كلّ ما يتعلّق بالحريّات الفرديّة وخاصّة بالنسبة لمسألة تغيير الجنس في ظلّ غياب نصّ تشريعيّ واضح يتناول المسألة بجميع جوانبها. وأمام هذا الفراغ القانونيّ فإنّ المُشرّع التونسي يحكم “على جميع الأشخاص الذّين خضعوا لعمليّات تغيير الجنس بالعيش في وضعية قانونية غير مطابقة لوضعيتهم الجسدية. فهذه الوضعية عبارة عن وجود الشخص في حالة احتجاز قصري تنتفي معها جميع حقوقه الأساسية” حسب ما جاء في دراسة أجرتها الجمعيّة التونسيّة للدّفاع عن الحريّات الفرديّة سنة 2018 تحت عنوان: “تغيير الجنس في تونس: عندما يُصادر القانون الهويّات”. وقد أظهرت هذه الدراسة أنّ القضاة يُبدون تجاه عمليّات تغيير الجنس تصلّبا قاطعا ويرفضون بصفة آليّة أي دعوى تتعلّق بها لتغيير رسم الحالة المدنيّة ويتعاملون معها على أساس أنّها حالات مرضيّة، مفيدة بأنّ فقه القضاء يتعامل بحذر مع خيارات النّاس وأنّ المحاكم التونسيّة تعتمد بطريقة عشوائيّة القرآن والسنّة والقيم التقليديّة في إصدار الأحكام القضائيّة في علاقة بمسألة تغيير الجنس.
يعتبر وحيد الفرشيشي رئيس الجمعيّة التونسيّة للدفاع عن الحريّات الفرديّة أنّ المتحوّلين في تونس ينتمون إلى الفئات المُحقّرة غير القادرة على النفاذ إلى العدالة قائلا “المُحقّرون هم ضحايا التمييز المُمارس ضدّهم وعادة ما يتمّ استعمال عبارة الأقليّات. في الأصل لا توجد عبارة الأقليّات لأنّه لا يوجد أي شخص يريد أن ينتمي إلى أقليّة كما أنّ الأغلبية مسألة مُتخيّلة. وأُصِرّ على كلمة مُحقّرين عوض مهمّشين لأنّ القانون يضعهم في مرتبة دونيّة بسلب حقوقهم وتجريمهم. كلّ الأشخاص الذّين لديهم جنسانيّة غير نمطيّة هم أشخاص مُحقّرون لأنّ القانون يُعاقبهم على وجودهم”. مُضيفا “لا يمكن لهؤلاء الأشخاص أن يتوجّهوا إلى المراكز لتقديم شكايات لأنّ القضيّة ستتخّذ مجرى آخر وستنقلب ضدّهم، فقط لأنّ صاحب الشكاية مثليّ أو متحوّل. بالنسبة إلى الأشخاص الذين يُغيّرون جنسهم فالمسألة أكثر تعقيدا لأنّ جنسهم المكتوب في الأوراق الرسمية غير مُتطابق مع الجنس الظاهر شكلا لذلك هم عرضة إلى الانتهاكات والعنف ويعيشون في خوف دائم من البوليس والمجتمع. هم محرومون من التعليم والصحّة والتشغيل، من سيُشغّل شخصا متحوّلا وماذا سيُكتب في عقد الشغل؟ الجنس الذي اختاره هذا الشخص لنفسه أم الجنس الموثّق على الأوراق الرسميّة؟”.
أمام جوّ الرهبة والعنف الذي يعيشه المتحوّلون، قامت جمعيّة موجودين بالاشتراك مع الجمعية التونسيّة للعدالة والمساواة (دمج) والمنظّمة النسويّة شوف بإعداد استقصاء حول العنف ضدّ الأشخاص “إل جي بي تي” سنة 2018. يهدف هذا الإستقصاء إلى إنتاج إحصائيّات حول تواتر العنف اللفظيّ والنفسيّ والجسديّ والجنسيّ ضدّ الأشخاص “إل جي بي تي” في ظلّ غياب بيانات كميّة عنهم وتحليل السياقات الاقتصاديّة والمؤسّساتيّة والاجتماعيّة لحالات العنف. وقد تمّ توزيع استبيان على 300 شخص ينتمون إلى أقليّات جنسيّة تتراوح أعمارهم بين 16 و46 سنة يقطن أغلبهم بتونس الكبرى وسوسة نظرا إلى صعوبة الوصول إلى الأقليّات الجنسيّة بالمناطق المُهمّشة اجتماعيّا واقتصاديّا. أظهرت نتائج الاستقصاء أنّ 30% من المستجوبين تعرّضوا على الأقلّ مرّة واحدة في حياتهم إلى الاغتصاب أو إلى محاولة الاغتصاب في الأماكن العامّة و19.2% منهم تعرّضوا إلى التحرّش الجنسيّ وإلى الاغتصاب أو محاولة الاغتصاب من قبل فرد من العائلة أو أحد الأقرباء. وبالنسبة إلى تواتر العنف الجسديّ، الذي يشمل في جزء منه التهديدات ومحاولات القتل، فإنّ 24 بالمائة من المستجوبين تعرّضوا إلى محاولة قتل وتمّ تهديدهم والهجوم عليهم بسلاح على الأقل مرّة واحدة في حياتهم خلال الستة سنوات الأخيرة بأماكن عامّة. وتعرّض 51.8% إلى العنف اللفظي بأماكن مختلفة من بينها الفضاءات المدرسيّة والأماكن العامّة ومقرّات الشغل. اهتمّ الاستقصاء في جزء منه بالخوف من سوء المعاملة والاقصاء الذاتي من الوصول إلى العلاج فاتّضح أن 53% من المستجوبين لا يذهبون إلى الطبيب ولا يقومون بفحوصات طبيّة خوفا من السخرية وسوء المعاملة للإطار الطبيّ بسبب هويّتهم الجندريّة. لم يغفل الاستقصاء عن تحديد إحصائيّات متعلّقة بالعنف الذي يمارسه البوليس ضدّ الأشخاص “إل جي بي تي” فـ13% من المستجوبين تعرّضوا إلى لمسات جنسيّة مُكرهة و15% إلى التحرّش اللفظيّ من قبل أعوان أمن وأكثر من 10% تعرّضوا إلى الاغتصاب أو إلى محاولة اغتصاب في حياتهم، وكانت من قبل البوليس أيضا. استنادا إلى هذه البيانات الكميّة يخلص الاستقصاء إلى استنتاج أنّ العنف الموجّه ضدّ الأشخاص “إل جي بي تي” مُمنهج لأنّه ناتج عن هيمنة النظام الغيريّ، ولسنا نتكلّم عن حالات معزولة وفرديّة.
من الواضح أنّ العنف ضدّ الأشخاص “إل جي بي تي” وضدّ المُتحوّلين على وجه الخصوص مُمنهج وأنّ البوليس ضالع في هذا العنف المتزايد. نحن نتكلّم عن واقع مسكوت عنه على اعتبار أنّنا نعيش في مجتمع مُطمئّن إلى مفاهيمه الجاهزة ومنظومته الأخلاقية المتوارثة جيلا بعد جيل. أراد المفكّر والفيلسوف الجزائري مالك شبل من خلال كتابه الصادر باللغة الفرنسية L’esprit de sérail والذي تُرجم إلى العربيّة تحت عنوان “الجنس والحريم روح السراري: السلوكات الجنسيّة المُهمّشة في المغرب الكبير” أن يُحيط، حسب تعبيره، بواقع مُنفلت، واقع اللاّمفكّر فيه واللاّمُفصح عنه. تناول الكتاب في محوره الأوّل العنف المُسلّط ضدّ المتحوّلين والذّين يُسمّون في الأدبيّات الإسلاميّة بـ”المُخنّثين” مُذكّرا بما فعله ابن حيّار الغياني عندما قام بإعدام ثمانين شخصا من الخناث والسوقة بفاس ما بين 1149 م و1150 م[2]. يقول مالك شبل مُعلّقا على تعامل مجتمعاتنا الحاليّة مع المثليّين والمتحوّلين: “يشتغل كل شيء كما لو أنّ الجنسيّة المثليّة لم يكن لها وجود على الاطلاق على أرض الإسلام وأنّ الغلام لم يشكّل أبدا في مختلف أشواط الحضارة العربيّة الشخص الأقرب من الأمير (أي من رجل السياسة)، وأنّ الخنثى لم يزعج أبدا فقهاء الإسلام”، موردا مثال المغنّي المتحوّل “طويس” الذي كان أوّل من غنّى في المدينة وعاصر الخلفاء الراشدين. مازال المتحوّلون في وضع هشاشة وفي نزاع اعتراف مع السلطة التي ترفض الاعتراف بوجودهم القانونيّ ومع المجتمع الذي يُعنّفهم وينبذهم. كيف يُثبت المتحوّلون في تونس ذواتهم المُرتبكة في ظلّ مُجتمع لا يعترف بأنّ “كلّ واحد منّا يحمل داخله أنا آخر يكون في نفس الوقت غريبا ومطابقا لذاته” على قول الفيلسوف الفرنسي إدغار موران.
هوامش
- في روايتها الشهيرة “خيالات ضوء القمر” قامت الكاتبة اليابانيّة بنانا يوشيموتو، بتناول موضوع الذكورة والأنوثة بطريقة غير مباشرة من خلال تقديم شخصية هييراجي الذي أصبح يرتدي تنّورةحبيبته يوميكو منذ وفاتها في حادث سير غير مُبال بسخريّة الطلبة منه. بناناليس الاسم الحقيقي للكاتبة حيث اختارته عمدا لأنّهمُحايد ولا يوحي بجنس معيّن.
- شبل، مالك، “الجنس والحريم روح السراري: السلوكات الجنسيّة المُهمّشة في المغرب الكبير”، افريقيا الشرق للطباعة، المغرب، 2010، ص 50.
داءما شجاعۃ في تناول مواضيع تنطلق من مواقع مغلقۃ بالنسبۃ لأغلبيۃ من المجتمع (شعب و موءسسات).