في البداية، يجب التذكير بأنّ الاتحاد الأوروبي يمثّل الشريك الأول في التبادل التجاري مع البلاد التونسية ستين عامًا منذ الاستقلال وقد أدّت السياسة الاقتصادية التونسية إلى حصر علاقاتنا التجارية بالمستعمر القديم والاتحاد الأوروبي بنسبة 80 بالمائة من التعاملات التجارية تصديرا وتوريدا مما زاد في هشاشة التجارة الخارجية وتبعيتها الكاملة لأوروبا الغربية والنتيجة هي أنّ كل اتفاق مبرم مع الاتحاد الأوروبي لا يمكن إلا أن يكون غير متكافىء بالنظر لضيق مجال الحرية للإرادة السياسية الوطنية.
منذ الاستقلال، اتخذت الحكومات المتعاقبة سياسة متريثة في مجال حرية التبادل التجاري فقد انضمت تونس لاتفاقية الجات حسب الطريقة التي نظمتها المادة الثالثة والثلاثون من الاتفاقية. وتنص هذه المادة: “يجوز لأي حكومة ليست طرفاً في هذه الاتفاقية، الانضمام إلى هذه الاتفاقية، …. بشروط يتم تحديدها بين تلك الحكومة والأطراف المتعاقدة. وتتخذ هذه الأطراف القرارات المشار إليها في هذه الفقرة بأغلبية الثلثين”.
اتبعت تونس في البداية إجراء الانضمام المؤقت منذ 12 نوفمبر 1959 (دليل للقواعد والممارسات في اتفاقية الجات) لتنظم رسميا لاتفاقية الجات سنة 1990. ويتمثل هذا الإجراء في قبول المرشحين بصفة مؤقتة بانتظار انتهاء مفاوضات الانضمام. ويتم تطبيق تعريفة الدولة الأكثر تفضيلا لهم دون أن يطبقوا عليها الالتزامات الأخرى آليا في غير ذلك من المجالات. وهكذا طبقت تونس مبدأ الدولة الأكثر تفضيلا منذ أمد بعيد، وهو مبدأ يتمثل في أن كل ميزة تجارية تمنحها دولة إلى أخرى يجب منحها فوراً لجميع الأطراف المتعاقدة في اتفاقية الجات وبعدها لكل أعضاء منظمة التجارة العالمية. بعبارة أخرى، يتم منح الجميع تلقائيا ودون تمييز ما يمنح لدولة ما مع بعض الاستثناءات.
أبرمت تونس عدة اتفاقيات تحرير في التبادل التجاري أهمها تلك التي أبرمتها مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995 والتي دخلت حيز التنفيذ سنة 1996 وبموجبها شكلت منطقة تبادل حر بين تونس والاتحاد الأوروبي فيما يخص الصناعات المعملية مع استثناء بعض فروعها مثل النسيج والصناعات التحويلية الزراعية لحماية المصالح الأوروبية. وتلتها معاهدة مماثلة مع الفضاء الأوروبي للتبادل الحر واتفاق مراكش الذي شكل منظمة التجارة العالمية والذي فرض على تونس تفكيك حواجزها الجمركية.
وقد أشادت منظمة التجارة العالمية بهذه الخطوات حيث أكدت أن تونس “اتبعت استراتيجية تجمع بين التشجيع على ترويج الصادرات وحماية الشركات المنتجة للسوق المحلية، وقد احتلت التجارة مكانة بارزة في الاقتصاد التونسي قبل المصاعب الاقتصادية الناتجة عن الاضطرابات السياسية الأخيرة التي شهدتها البلاد. وكانت المنتجات الرئيسية للتصدير تتمثل في الملابس والمنسوجات والجلود والأحذية، وكذلك المعدات الكهربائية لصناعة السيارات والمواد الكيميائية والوقود. أما الواردات فتمثلت في المنسوجات (عموما الملابس)، والمنتجات الزراعية (أساسا الحبوب وغيرها من المنتجات الغذائية)، والسلع الصناعية. وتعد تونس، تقليدياً، مصدراً صافياً للخدمات، حيث تمثل الخدمات 51.2٪ من عائدات النقد الأجنبي. وتحتلّ السياحة مصدرا مهما حيث تمثل أكثر من نصف عائدات النقد الأجنبي من الخدمات. ومع ذلك فإن دخل العمال التونسيين المقيمين في الخارج يتقدم على عائدات السياحة. كما شهدت الخدمات الاستشارية والخدمات المصدرة الأخرى نمواً جيداً” (منظمة التجارة العالمية، استعراض السياسة التجارية: تونس)
لقد هيمنت سياسة “الانفتاح” و”تقليص الحواجز” على العلاقات التجارية والمالية في تونس منذ الاستقلال عدا فترة ما يسمى بالتعاضد (1964-1969) بدعوى أن ذلك من شأنه أن يحفز الاستثمار ويخلق مواطن الشغل ويدفع بعجلة التنمية إلى الأمام كما كان وما يزال رائجا في وسائل إعلام الحكومات التونسية المتعاقبة وتدحضه الوقائع كل يوم أكثر فأكثر. وهكذا فتحت تونس سلسلة من الحوارات والمحادثات والمساومات مع كل مِن منظمة التجارة العالمية والاتحاد الأوروبي وكلها تعمل في اتجاه واحد وهو فتح الأسواق التونسية ودمج الاقتصاد التونسي أكثر فأكثر في السوق الرأسمالية الغربية. وعملا بهذه الالتزامات، خفّضت تونس نسب المعاليم الديوانية بصورة كبيرة وخفّضت بذلك متوسط نسبة هذه الضرائب من 45% في 2006 إلى 14% في 2016 ووقع الحد من عدد هذه النسب إلى ثلاث: 36%، 20% و0%، وهكذا نزلت النسبة القصوى لسنة 2006 والتي تقدر بِ150% إلى 36% منذ 2009.
وتستجيب هذه التخفيضات لالتزامات تونس تجاه الاتحاد الأوروبي بتسوية التعريفة الديوانية للدولة الأكثر تفضيلا بالامتيازات التي التزمت بها تونس مع الاتحاد الأوروبي فيما يخص المواد الغير زراعية عملا بمبدإ أنه يجب منح أي تعريفة تفاضلية تمنحها دولة إلى أخرى فورا لجميع أعضاء منظمة التجارة العالمية. كما عقدت تونس اتفاقيات تفاضلية مع بعض البلدان العربية ومع المنظمة الأوروبية للتبادل الحر وتركيا وإيران.
وفي أحدث تقرير لمنظمة التجارة العالمية، تحث المنظمة تونس على رفع ما تبقى من قيود على التجارة الخارجية في مجالات الطاقة والنقل والاتصالات والبريد والزراعة والبنوك وتدعو لإزالة المحفزات المشروطة للاستثمار الأجنبي والتي تضمنتها مجلة التشجيع على الاستثمار مثل الاستثمار بالمناطق الداخلية أو فرض شريك تونسي أو احتفاظ الدولة بنسبة معينة في رأس المال أو فرض استعمال مواد أولية أو نصف مصنعة تونسية أو خلق مواطن شغل أو تشغيل نسبة من أصحاب الشهادات التونسية وغيرها من الشروط التي من شأنها أن تعطي دفعا ما للسوق الداخلية التونسية على حساب المنافسة الخارجية.
كما تدعو منظمة التجارة العالمية الحكومة التونسية إلى رفع الدعم على المواد الأساسية ومنع الدعم للمؤسسات العمومية باسم مبدأ المنافسة “المتكافئة والنزيهة” وحل الدواوين العمومية كما تدعو لحرية مشاركة الأجانب في البتات العمومية والتخلي عن كل الامتيازات المبنية على جنسية المستثمر أو البضاعة أو الخدمات.
النتائج السلبية لهذا التوجه الليبيرالي
يدعي السيد غازي بن احمد، أحد عرابي اتفاق التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي، في تقرير مدعوم من معهد كونراد اديناور التابع لحزب المسيحيين الديمقراطيين الألماني تحت عنوان “دليل الأليكا: اتّفاق التبادل الحرّ الشامل والمعمّق، لفهم أفضل للمفاوضات حول الإتفاق” بأنه إيجابي، يقول السيد غازي بناحمد:
“الاتحاد الأوروبي وتونس ينتمون إلى منطقة تبادل حر، بدأ العمل به باتفاق الشراكة لسنة 1995، هذا الاتفاق الذي بالرغم من انتقاده من طرف شريحة من المجتمع المدني، شارك في إعطاء دينامكية للاقتصاد التونسي وجعله أكثر منافسة. وهكذا ومنذ 1995 ارتفع التبادل التجاري إلى أكثر من الضعف، والصادرات التونسية (ومن بينها قطاعي النسيج والميكانيك) نحو الاتحاد الأوروبي قد تضاعفت ثلاث مرات وتطورت بسرعة الاستثمارات الأوروبية. ولكنّ الاتفاق اقتصر على إلغاء تدريجي للمعاليم الديوانية على المنتوجات الصناعية وتنفيذ بعض التنازلات في تبادل المواد الزراعية ومن بينها زيت الزيتون الذي بقي يخضع لتحديد كمية مضاعفة؛ سنوية وشهرية من طرف الاتحاد. هذا الاتفاق في التبادل الحر وُضع على قاعدة غير متماثلة وتدريجية لفائدة الجانب التونسي بالنظر إلى كون الاتحاد الأوروبي قد فتح أسواقه للواردات من تونس فور إمضاء الاتفاق بينما تمتعت تونس بمرحلة انتقالية لتفكيك تدريجي للتعريفة الجمركية من أجل تأهيل قطاعها الصناعي”.
إن قراءة متأنية لهذا التقييم لاتفاق التبادل الحر يبين أن كاتبه أراد ترك انطباع مغلوط لاتفاق كان لصالح الطرف التونسي ولكن الحقيقة كانت عكس ذلك تماما، فمقابل تنازلات محدودة تخص زيت الزيتون فككت تونس تدريجيا نظامها الضريبي. لقد أدى تفكيك الحواجز الديوانية إلى خسارة كبيرة لميزانية الدولة حيث كانت تمثل سنة 1995 ما يقارب 22 في المائة من مجمل المداخيل الضريبية للدولة لتصبح سنة 2010 أي بانتهاء الفترة الانتقالية 4,4 بالمائة مما أجبر الحكومة على زيادة الضرائب المباشرة وغير المباشرة وخفض الاستثمارات العمومية ومصاريف الدولة خاصة في البرامج الاجتماعية.
وهكذا ارتفعت الضريبة على الدخل لتمثل سنة 2010: 39,6 بالمائة بعد أنكانت سنة 1995 تمثل 23,2 بالمائة والضرائب غير المباشرة أصبحت تمثل 29,5 بالمائة بعد أن كانت 25,7 بالمائة مما أثقل كاهل الأفراد والمؤسسات وزاد من ظاهرة التهرب الضريبي كما أدت هذه السياسة إلى زيادة البطالة وخاصة منها بطالة أصحاب الشهادات.
إن ادعاءات السيد بن احمد تنبني على مغالطات محاسبية مفضوحة إذ أن التطور الكبير للصناعات المعملية تمثّل خاصة في تلك الصناعات المصدرة كليا والتي لا تمتّ بصلة للاقتصاد التونسي سوى أنها أُنشئت جغرافيا في تونس وخاصة على السواحل لتستغل الأيدي العاملة الرخيصة وتصدر كل منتوجها لأوروبا وتبقى أرباحها في أوروبا فقد جاءت لتونس للمناولة فقط لتنمّي اقتصاد المركَز بجني مرابيح كبيرة تبقى في المركز ولا يكون لها أدنى تأثير يُذكر على تونس سوى بعض الفتات القليل الذي يُعطى بالدينار للعمَلة المستخدمين؛ فارتفاع الاستثمار المباشر من 14,1 مليون دينار سنة 1995 الى 573,6 مليون دينار في سنة 2010 لا يعني شيئا بالنسبة للاقتصاد التونسي حيث يوظَّف القسم الأكبر في الصناعات الموجهة كليا للتصدير. وقد أدى هذا المنوال إلى ارتفاع غير مسبوق للتوريد مقابل ارتفاع ظاهري للصادرات حيث أنّ جزء مهما منها لا تعود مداخيلها لبلادنا ولا تخضع لقانون الصرف للبنك المركزي كما أنّ أصحابها ليسوا ملزمين بإرجاع مداخيل التصدير. وتؤكد التقارير الاقتصادية مثل تقرير البنك الدولي أو المعهد الوطني للإحصاء أنه منذ دخول اتفاق التبادل الحر حيّز التنفيذ فقدت تونس 10 آلاف مؤسسة صناعية و400 ألف موطن شغل. وتؤكد مصادر أخرى أن تونس خسرت، بين 2005 و2015، 4319 مؤسسة صناعية (عن مداخلة للخبير الاقتصادي جمال عويديدي في الوطنية).
إن قراءة هيكلة الميزان التجاري تُبين أن الجزء الأكبر من الصادرات تأتي من قطاعات النسيج والملابس ومواد الجلد وقطاع منتجات الصناعات الميكانيكية والكهربائية أي تلك التي تنتمي أساسا للصناعات المعملية الموجهة للتصدير والتي تتبع نظام المؤسسات غير المقيمة والتي لا تخضع لقانون الصرف حيث كان مجموع الصادرات في هذين القطاعين سنة 2013 يعدّ 16591,8 مليون دينار أي ما يمثل 59 بالمائة من مجموع الصادرات. وقد ارتفع سنة 2017 إلى 23518,9 مليون دينار أي بنسبة 68,3 بالمائة من مجموع الصادرات؛ وهذا يعني أنّ أكثر من ثلثي قيمة الصادرات لا تخضع لوجوب عودة عائداتها للبلاد التونسية.
وإذا علمنا من الإحصائيات الرسمية أن العجز التجاري بلغ الآن 19,05 مليار دينار أي 13بالمائة من الناتج الداخلي الخام فإن العجز إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه لا يستوجب عودة مداخيل الصادرات لغير المقيمين يصبح هذا العجز قرابة 29 مليار دينار أي 25 بالمائة من الناتج الداخلي الخام. وهذا يفسر انزلاق الدينار المريع بالمقارنة مع الدولار والأورو حيث خسر الدينار منذ جويلية 2008 ما يعادل 137 بالمائة من قيمته مقابل الدولار الأمريكي. وتسارع هذا الانحدار منذ سنة 2016 حيث خسر الدينار من قيمته 40 بالمائة مقابل الأورو. وليس غريبا أن نشاهد مثل هذا الانحدار بعد سلسلة الكبوات التي يعيشها الاقتصاد التونسي منذ اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي حيث أن هذا السقوط هو في مصلحة المستثمرين الأجانب وخاصة منهم الغير مقيمين والذين يرون مصاريف العملة تتدنى بتدني قيمة الدينار وتتدنى معه أيضا قيمة المؤسسات الاقتصادية الوطنية تحضيرا لاستحواذ هؤلاء المستثمرين عليها بأبخس الأثمان. والضغوط المسلطة على تونس للانخراط في اتفاق التبادل الحر هو بمثابة الفصل الأخير لالتهام الفريسة التي حان الانقضاض عليها من الرأسمال الأجنبي بالتعاون مع عملائه في البلاد والذين هم الآن في سدة الحكم.
كما أدت هذه السياسة الليبيرالية وعبر سياسة الخوصصة إلى تمكن الرأسمال العالمي من الاستحواذ على أجزاء مهمة من المؤسسات الاقتصادية والمالية التونسية العمومية والخاصة مثل اتصالات تونس والشركة التونسية للتأمين وإعادة التأمين والبنك التونسي كمؤسسات عمومية وشركة ساغاز من طرف شركة طوطال الفرنسية والاتحاد الدولي للبنوك من طرف الشركة العامة الفرنسية والاتحاد البنكي للصناعة والتجارة من طرف BNP PARIBASالفرنسية. وهو ما يؤكده المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية حيث صرح: «إن من نتائج اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي أن تونس قد خسرت ما لا يقل عن 2,4 بالمائة من الناتج المحلي الخام كما نتج عنه تبخر 55 بالمائة من النسيج الصناعي بين 1996 و2013″ .ويأتي مشروع اتفاق التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي ليكرس هذا الاتجاه المدمر للاقتصاد التونسي وليذهب أبعد مما تدعو إليه منظمة التجارة العالمية كما سنرى لاحقا.
إهدار للسيادة التونسية ومنع لكل برنامج تنموي مستقل
ليس الهدف من هذه الورقة تحليل محتوى أبعاد كل فصول مشروع الاتفاق بتفاصيله الدقيقة وإنما التعرض للمواد التي نعتبرها من وجهة نظرنا تشكل تفريطا خطيرا لسيادة بلادنا وقطعا لطريق أي محاولة في بناء مشروع بديل من أجل تنمية مستقلة وأي تناوب ديمقراطي حقيقي على السلطة في تونس. مع التأكيد على أن هذا المشروع من الاتفاق يحتوي على مبادئ وخيارات كمبدأ التنمية المستدامة والشفافية والحوكمة الرشيدة ومحاربة الفساد والمحسوبية نحن مِن أحوج الناس إليها ولا تمثل موضع خلاف إذا اعتُمدت في خدمة اقتصاد مستقل يعتمد بالأساس على الذات، اقتصاد مبني على سوق داخلية تتوسع وتتعمق وتجارة خارجية تكون متنوعة في خدمة السوق الداخلية وامتدادا لها.
1- الباب الخاص بالطاقة والمواد الأولية:
الهدف من هذا الاقتراح، حسب الاتحاد الأوروبي، هو ضمان الوصول للطاقة والمواد الأولية في كلا البلدين بصورة أكثر انفتاحا وبلا تمييز وأكثر تنوعا واستقرارا كما يهدف إلى تدعيم التجارة والاستثمار في هذا القطاع دون حواجز قانونية وتقنية وإدارية غير مبررة وفي احترام تام لمبدأ التنافسية العادلة وخاصة في مستوى شفافية وعدالة التراخيص في الكشف والتنقيب والاستثمار والاستغلال والاتجار بما في ذلك إلغاء الضرائب على التصدير. والقراءة المتأنية لهذه القواعد التحررية تلغي بصفة تامة مبدأ السيادة الوطنية على الموارد الطبيعية لبلادنا وهو ما يتعارض ومبادئ الدستور التونسي ومبادئ العهدة الدولية لحقوق الانسان ( الفصل الثاني) حيث إن مسالة السيادة على الموارد الطبيعية من طاقة ومواد أولية تصبح شكلية وغير ذات محتوى؛ فطالما قررت تونس استغلال الطاقة الشمسية مثلا تنتهي السيادة ويأخذ مكانها مبدأ حرية الوصول للطاقة لكل الفاعلين الاقتصاديين التونسيين كالأوروبيين دون تمييز وكذلك الحال بالنسبة للفسفاط والملح وغيرهما. وبما أنه للشركات الأوروبية قدرات مالية وتقنية ضخمة، تصبح قادرة على انتزاع ثرواتنا منا دون تمييز.
كما يقترح هذا المشروع فرض أسعار السوق العالمية على الإنتاج بحيث يمنع على السلطات التونسية تطبيق أسعار أقل من الأسعار العالمية لتنشيط السوق الداخلية انتاجا واستهلاكا ومنع الشعب التونسي من اختيار منهاج اقتصادي معدل لقوانين السوق الحرة (الفصول 5 و 6). كما يفرض هذا المشروع تنسيق المواقف في المستوى الدولي في كل ما يخص الطاقة والمواد الأولية أي بعبارة أخرى الانحياز للمواقف الأوروبية على الصعيد الدولي ضد تكتلات الدول الأخرى في هذا المجال بحيث يصبح الاتفاق يعلو على الاتفاقات الأخرى لتونس مع دول ثالثة مثل الدول العربية، المغاربية أو الافريقية وغيرها (الفصل 19).
2. الخدمات والاستثمار والتجارة الالكترونية:
هذا الباب يعتبر من أهم الأبواب التي يتضمنها مقترح الاتفاق فهو يخص تحرير: الاستثمار والتعاملات المالية والبنكية، الخدمات الإعلامية، الخدمات البريدية، الاتصالات الالكترونية، النقل البحري الدولي، الخدمات السياحية.
الأيديولوجيا المهيمنة على مقترحات الاتفاق هي الليبيرالية التي تحكم كل السياسات الجماعية للاتحاد الأوروبي والتي لا تترك إلا هوامش محدودة لاتباع سياسات اقتصادية مختلفة، وهو السبب الأساسي الذي ينخر الاتحاد من الداخل ويبعد أكثر فأكثر النخب السياسية من مجموع الطبقات الشعبية.
وإذا عرفنا أن قطاع الخدمات يعتبر من أكبر المشغلين في الاقتصاد الوطني، فإن تحرير مجمل هذه القطاعات الخدماتية سيكون له أبعد الأثر على سوق العمل ويزيد من تعمق البطالة. يبرر بعض المدافعين على هذا النهج ومن بينهم تقارير المنظمة العالمية للتجارة بأن أوضاع الاحتكار لبعض المؤسسات العمومية في البريد والنقل البحري والبري يولد الفساد. وهم يستشهدون في ذلك بحقائق واقعية ولكنهم ينسون أن التجربة في كل دول العالم تبين أنه بالإمكان محاربة الفساد وفرض الحوكمة الرشيدة في القطاعات العمومية إذا توفرت الإرادة السياسية، فالفساد والإفساد ومنهاج الدول الفاشلة في السيطرة على مقدرات الشعوب وإغراق بلدانها في التبعية. هذا القسم من مقترح الاتفاق يشمل المبادئ التي تحكم الاستثمار والذي عولج كقطاع خدماتي ولكنه في الحقيقة يحكم الاستثمار في كل القطاعات الاقتصادية المنتجة الزراعية والصناعية وليس الخدماتية فقط.
حرية الاستثمار، تأسيسا وتصرفا والتي ينظمها مشروع الاتفاق هذا، تسلب من أي حكومة وطنية كل مقومات حرية اختيار السياسة الاقتصادية والاجتماعية مهما كانت نتائج الانتخابات وما ينتج عنها من أغلبيات برلمانية يمينية أو يسارية؛ فالخيارات الليبيرالية هي القاعدة التي لا يمكن الحياد عنها دون خرق للاتفاق وما ينتج عن ذلك من محاسبة ومسؤولية يفضّ النزاعات فيها قضاءٌ تحكيمي عالمي يؤمن بنفس الفلسفة الليبيرالية لا سيادة للدولة الوطنية عليه كما سنرى لاحقا. الهدف من هذا الاتفاق هو فتح الأسواق التونسية والأوروبية للاستثمار في كل المجالات الخدماتية والصناعية والزراعية دون عراقيل سياسية، ديوانية، تقنية أو إدارية ما عدا تلك التي تتعلق بالصحة وحماية المستهلك أو تتعلق بالنظام العام مع بعض الاستثناءات المتفق عليها مسبقا في لائحة محدودة مرفقة بالاتفاق.
الاقتراح الأوروبي يوفر حسب تعبيره للاستثمار المبادئ الثابتة التي تعتبر من “المسلّمات في جميع اتفاقيات التجارة الحرة:”تغطي هذه القواعد الوصول إلى السوق – على سبيل المثال إزاحة القيود المفروضة على عدد المستثمرين وفرض مبدأ “المعاملة الوطنية” وكذلك مبدأ “معاملة الدولة الأكثر تفضيلا”، والتي يسمح بتمديد المعاملة المميزة لأي طرف ثالث لصالح الطرف الآخر. مع التأكيد على أن هذه الالتزامات تتضمن عددا من الاستثناءات في بعض القطاعات أو الأنشطة المحددة ويمكن لتونس تقديم قائمة بهذه “التحفظات” التي ستضاف لمرفقات الاتفاق، والتي سيتم تقديمها حسب المشروع خلال الدورات القادمة .(الفصل5 و6)
فعلى أساس هذه الالتزامات يحظر على تونس أي معاملة أقل إيجابية للمستثمر الأجنبي من تلك التي يتمتع بها المستثمرون التونسيون سواء ذلك في الوصول للسوق والاستثمار أو التصرف في ذلك الاستثمار ومنع أي تحديد في عدد المستثمرين أو عدد عمليات الاستثمار أو قيمتها أو حتى في مستوى الشكل القانوني للمؤسسة أو عدد الذوات الطبيعية المشغلة (الفصول 3 و 4).
كما يمنع الاتفاق فرض أي شرط يتعلق بنتائج الاستثمار فيمثل حجم أقصى أو أدنى أو إدماج نسبة معينة من المواد الأولية أو نصف المصنعة أو غيرها من السوق التونسية أو شروط تتعلق بإدخال مستوى محدد من العملات الأجنبية أو مستوى معين من تحويل التكنولوجيا للسوق التونسية أو بيع جزء من المنتوج في السوق الداخلية أو حتى فرض شروط في تحقيق أهداف بعيدة التحقيق واشتراط الوصول إليها لمواصلة التمتع بالامتيازات الممنوحة (الفصل 7). فللمستثمر الأجنبي الحق في استثمار ما يريد وفي أي مكان يريد ومتى يريد وكما يريد؛ وهذا كله لتحقيق الأرباح التي يريدها. وكل إجراء اجتماعي ضريبي أو إداري وتقني يرى فيه المستثمر الأجنبي تقييدا لإرادته أو حدّا من أرباحه أو حتى تنقيصا من حظوظ تحقيق هذه الأرباح يمكن أن يستوجب ذلك محاسبة الدولة التونسية أو أي سلطة وطنية كانت أو محلية ومطالبتها بجبر الضرر.
ومقابل هذا الفتح الشامل والكامل لأبواب السوق التونسية أمام تنقل البضائع والرأسمال والخدمات، يفرض هذا الاتفاق حدودا صارمة لتنقل الأفراد حتى للذين يتنقلون في اتجاه الاتحاد الأوروبي لتقديم الخدمات في السوق الأوروبية. وتبقى مسألة تنقل الأفراد منظمة باتفاقات ما يسمى ب”الشراكة من أجل التنقل” والتي تبني سدا منيعا أمام حرية تنقل الأفراد بل وتفرض علينا لعب دور الشرطي في حماية حدود الاتحاد وذلك حتى تجاه مواطنينا غير المرغوب فيهم والموجودين في بلدان الاتحاد عملا بمبدأ “إعادة القبول” لهؤلاء بما يجعل من ممثلياتنا الدبلوماسية بمثابة ملحقات طيعة لبوليس الأجانب في بلدان الاتحاد. وهكذا يقع حصر النتائج الاجتماعية الكارثية لهذا الاتفاق والسياسات الليبيرالية المفروضة في حدود بلادنا على عكس ما هو الحال بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (الفصول من17إلى20)
وقد لاحظنا، من محاضر النقاشات بين الطرفين، تركيز ممثلي السلطات التونسية على مسألة ” الفيزا” وكان جواب ممثلي الاتحاد واضحا وجازما بأن هذه المسالة تحكمها اتفاقات أخرى متمثلة في سياسة “الشراكة من أجل التنقل” والتي كنا لاحظنا في نقاشنا كمجتمع مدني مع مسؤولي الاتحاد في السنوات الفارطة مدى تشددهم في فرض هذه السياسة الحمائية لحدودهم الخارجية والتي يريدون فرضها على تونس وبقية بلدان الضفة الجنوبية للبحر المتوسط ؛سياسة تتمثل في وجوب القبول التلقائي بقرارات الإبعاد لمواطنينا الموجودين في دول الاتحاد وتسخير حرس حدودنا لحماية الحدود الأوروبية من المصدر أي من التراب التونسي ضد الهجرة الوافدة من جنوب الصحراء الافريقية.
3.المنافسة وإعانات الدولة والبتّات العمومية:
الهدف من هاذين البابين من مقترحات الاتفاق هو إدخال تلاؤم بين التشريعات التونسية في مجالي المنافسة وإعانات الدولة مع قوانين الاتحاد على ضوء التطورات التشريعية للاتحاد وفقه قضاء محكمة الاتحاد منذ معاهدة الشراكة مع تونس.أما الباب المخصص للبتات العمومية فيهدف إلى زيادة فتح البتات العمومية أمام الفاعلين الاقتصاديين من كلا الطرفين على قدم المساواة في كل ما يخص البضائع والخدمات والأشغال العمومية دون تمييز وفي إطار الشفافية والنجاعة والتنافسية النزيهة (الفصل 2).
يمنع هذا الباب كل ما من شأنه أن يتناقض مع قانون التنافس “النزيه والعادل” فيمثل حالات الاحتكار والتوافقات بين المؤسسات الاقتصادية للهيمنة على السوق أو الإعانات العمومية لبعض المؤسسات الاقتصادية سواء كانت خاصة أو عمومية مما يعني نهاية فعلية للقطاع العام في مجال الطاقة والنقل البحري والجوي والبريد والماء وسكك الحديد والاتصالات والنقل العمومي والبنوك العمومية واستغلال الفسفاط بحيث أنه في مدة خمس سنوات يقع حل كل احتكارات الدولة للقطاعات الاستراتيجية للاقتصاد التونسي (الفصول 8 و9).
وإذ عرفنا أن القطاع الزراعي يقاوم بصعوبة كل أسباب الاندثار بمجموعة من الإعانات العمومية المختلفة، يصبح رفع هذه الإعانات العمومية إجهازا على ما تبقى من حيوية لهذا القطاع كما سنرى لاحقا. لا يخفى على أحد أهمية البتات العمومية في إنعاش الاقتصاد وخلق مواطن الشغل ولذلك كان القطاع فريسة كل أنواع الفساد والمحسوبية والزبونية من طرف أوساط المال والأعمال والمتنفذين في الإدارة العمومية ومقاومة هذه الظواهر واعتماد تشريعات وإجراءات ضرورية وحيوية ولكن، لسنا بحاجة للتخلي عن سيادتنا الوطنية كثمن لإنجاز مثل هذه الاستحقاقات مع التذكير بأن البتات العمومية تمثل 18 بالمائة من الناتج الداخلي الخام و 35 بالمائة من المصاريف العمومية.
إن مشاركة الرأسمال الأجنبي في البتات العمومية هو إهدار للأموال العمومية التي عوض أن تبقى الأرباح المتحصل عليها من البتات العمومية في السوق الداخلية لإعادة ضخها في الاقتصاد الوطني وتحقيق تراكم مطّرد لرأس المال داخل البلاد وخلق الثروة وتوسيعها في تونس، تذهب هذه الأرباح في حال مشاركة الرأسمال الأجنبي في البتات العمومية إلى خارج البلاد لتنمّي اقتصاد البلد الأجنبي.
4.القطاع الزراعي:
يحتل القطاع الفلاحي موقعا مهما في الاقتصاد التونسي كما هو الحال في كل البلدان؛ فمسألة الأمن الغذائي جزء من الأمن القومي لكل دولة تحترم نفسها. كما يبقى هذا القطاع من المشغلين الأساسيين للتونسيين وخاصة للتونسيات في بلد تمثل البطالة من أهم الأمراض المزمنة التي عجزت كل الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال على علاجها. لتلك الأسباب عملت كل البلدان على دعم القطاع الزراعي بكل الوسائل سواء على مستوى الإنتاج أو التوزيع أو على مستوى الحماية من المزاحمة الخارجية. ومن المفارقة، أن البلدان التي تدعو لفتح الأسواق للتبادل الحر هي البلدان التي تدعم أكثرقطاعاتها الزراعية وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الامريكية.
يساهم القطاع الزراعي في تونس بما قدره 10 بالمائة من الناتج المحلي الخام، ويشغل 15 بالمائة من الوظائف ويحتل المنتوج الزراعي مكانة مهمة في مجمل الصادرات والتي بلغت سنة 2016 نسبة 5,7 بالمائة. ولكنّ الميزان التجاري الفلاحي يبقى سلبيا نتيجة الواردات من المواد الزراعية وفي مقدمتها الحبوب. ويهدف الدعم الذي يتلقاه القطاع الفلاحي إلى ضمان مداخيل معقولة ومستقرة للمزارعين وإلى مواجهة تقلبات السوق العالمية وضمان حد أدنى من الأمن الغذائي وذلك حتى تبقى أسعار المواد الأساسية في متناول الطبقات الضعيفة.
يتمثل الدعم العمومي للقطاع الفلاحي في التحكم في أسعار المنتجات الفلاحية عند الإنتاج من جهة، وعند التسويق من جهة أخرى، كما يتمثل في دعم المواد الأولية من بذور وأسمدة وعلف وغيرها من المواد لمساعدة المنتجين، كما يتمثل في التخزين والتحكم في مسالك التوزيع وتقديم التشجيعات الضريبية للمستثمرين الفلاحيين، كما تقيم الدولة العديد من الإجراءات الحمائية من تراخيص وتعاريف ديوانية وغيرها.
ومنذ تطبيق سياسة التحوير الهيكلي التي فرضها صندوق النقد الدولي منذ 1988 وتفكيك دور الدولة في الاقتصاد والانضمام لمنظمة التجارة العالمية والدخول في “الشراكة” مع الاتحاد الأوروبي، تقلصت الاستثمارات بصورة ملحوظة في القطاع الفلاحي وتناقص الدعم العمومي للقطاع ليتوجه الدعم شيئا فشيئا نحو مستوى الاستهلاك على حساب مستوى الإنتاج. وهكذا، وبينما كانت التحويلات، من ميزانية الدولة وغيرها لفائدة القطاع الفلاحي، تمثل 22,3 بالمائة من مداخيل القطاع في فترة تراوحت بين 2008-2010، أصبحت لا تمثل سوى 12,9 بالمائة في فترة بين 2013-2015؛ وهذا النقص هو نتيجة لهذه السياسة التي أدت إلى انزلاق قيمة الدينار ونقص في الاستثمار.
إن فتح القطاع الزراعي وقطاع الصناعات الزراعية يهدد هذه القطاعات بالاندثار وهو من شأنه أن يضرب الأمن القومي الغذائي للتونسيين؛ فالأوضاع الهيكلية لهذه القطاعات، سواء على مستوى متوسط المساحات المزروعة لكل مؤسسة أو على مستوى الإنتاجية وإمكانيات الوصول للقروض البنكية، والظروف الطبيعية القاسية؛ من شح في المياه وإنهاك للتربة، لا يؤهل القطاع الزراعي للدخول في أي منافسة عادلة مع الإنتاج الزراعي للاتحاد الأوروبي، لذلك عبرت النقابات المهنية للفلاحين عن رفضها لاتفاقات التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي. والغريب أن كبير المفاوضين التونسيين هشام بن أحمد يصرح بأنه لا علم له بأن 90 بالمائة من المزارعين يرفضون الاليكا.
في تونس 75 بالمائة من المؤسسات الزراعية لا تتعدى فيها المساحة المزروعة 10 هكتارات والماشية ثلاث أبقار بينما يختلف الحال تماما في فرنسا حيث يستغل كل مزارع في المتوسط 50 هكتارا ويربي 50 بقرة ولا يتمتع بالقروض البنكية سوى 8 بالمائة من المزارعين. في دراسة حديثة سنة (2014)، حول الأمن الغذائي قُدّمت في كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية لجامعة نيس، تستخلص المؤلفة روكايا دياني أن في الفترة ما بين 2005 و2009، وفي تحليل أوضاع 125 دولة، يتضح أن البلدان المتقدمة اتبعت سياسة حمائية ومدعمة لقطاعها الزراعي بينما اتبعت البلدان الأقل نموا سياسة ليبيرالية والنتيجة كانت أن البلدان الأولى زادت في تحسين أمنها الغذائي بينما عرفت البلدان الأقل نموًّا زيادة في تدهور ميزانها الغذائي.
إن فتح الحواجز الجمركية ومواصلة تقليص الدعم للقطاع الفلاحي هو لعب بالنار وبلقمة عيش التونسيين إذ من شأن هذه السياسة أن تؤدي إلى سحق الغالبية العظمى من المزارعين التونسيين. لقد علّمتنا تجربة الاستعمار الزراعي في تاريخنا أن فتح الأبواب للاستثمار في الأرياف التونسية وإطلاق حرية الملكية سيؤدي حتما إلى تفقير الغالبية من المزارعين التونسيين وانهيار للقطاع الزراعي وتعميق للتبعية الاقتصادية و ضرب للسيادة الوطنية مما سيدفع بالمزارعين لبيع أراضيهم للأجانب الذين سيستعملون هذه الأراضي لا للاستجابة لحاجات السوق الداخلية ولتغذية الشعب التونسي وإنما لمتطلبات وحاجات السوق الأوروبية.
4. نظام حل النزاعات في ميدان الاستثمار:
الهدف من هذا الباب من الاتفاق هو خلق آلية تحكيمية دولية مستقلة عن القضاء والقوانين الوطنية لفصل النزاعات المترتبة عن تطبيق الاتفاق في ميدان حرية الاستثمار أي في كل قطاعات الاقتصاد التي تضمن للمستثمر الأوروبي أعلى قدر من الضمانات والحماية. وتتكون هذه الآلية التحكيمية من قضاة يعينهم بالتساوي الطرفان المتعاقدان على أن يكونوا معروفين بمهنيتهم ونزاهتهم واستقلاليتهم، وهم مدعوون لتطبيق قواعد الاتفاق لا غير دون أي اعتبار للقوانين الوطنية وحتى للاتفاقيات الدولية الأخرى (الفصل 13) وقرارات هذه اللجنة التحكيمية البدائية أو الاستئنافية ملزمة للطرفين ولكل سلطات الدولة المعنية مركزية كانت أو محلية (الفصل 9).
ولن يكون هذا التناصف سوى ذرّ للرماد على العيون خاصة إذا كان ممثلي تونس في هذه اللجنة التحكيمية ممن هم الآن المفاوضون للاتحاد الأوروبي والمتشبعون بالفكر الليبيرالي المتوحش والذي لا يرى نمط التنمية إلا بالإغراق في التبعية للرأسمال الأجنبي، والقبول بالتقسيم الاستعماري للعمل، والتداين المتزايد من الخارج. وينطبق هذا الباب على كل النزاعات التي تطرأ بين كل مدعي من أحد الطرفين في الاتفاق ضد الطرف الآخر نتيجة معاملة يعتبرها المدعي مخالفة للقواعد الحامية للاستثمار في الاتفاق أو مخالفة لمبدأ “المعاملة الوطنية” ومبدأ معاملة الدولة الأكثر تفضيلا وغيرها من بنود تحرير الاستثمارات، تلك المخالفات التي يزعم المدعي أنه قد نتج عنها أضرارا أو خسارة له أو للمؤسسة المنتصبة محليا والتي يمتلكها (الفصل 1).
وهكذا يمكن من هذا الباب لأي مستثمر أجنبي مقاضاة الدولة التونسية ضد كل قرار أو تصرف تأخذه أي سلطة فيها، في إطار ممارسة صلاحيتها الدستورية أو القانونية، ينتج عنه خسارة أو ضرر ما للمستثمر الأجنبي نتيجة مخالفة هذا القرار والتصرف بصورة مباشرة أو غير مباشرة لمبادئ التنافسية أو ما من شأن هذا القرار أن يمثل حاجزا أو معوقا مهما كان نوعه لحرية التبادل التجاري. وعبر اتفاق مستقل يدعو الاتحاد الأوروبي إلى الزيادة في تضييق مجالات حرية الدفاع عن المصالح الحيوية لبلدنا بفرض مساحات أكثر ضيقا من تلك التي تسمح بها منظمة التجارة العالمية مثلا في حالات الاضطرابات الخطيرة للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية مع الالتزام باختيار الحلول الأقل ضررا للطرف المقابل وتطبيق قاعدة الأقل حقوقا. كما يعمل هذا الباب على الحد من استعمال الاستثناءات المبنية على الصالح العام.
لقد بينت تجربتنا التاريخية ما قبل الحماية والتاريخ الحديث وحتى الحاضر المعاش وتجربة البلدان الأخرى خطورة مثل هذه الآليات التحكيمية على السيادة التونسية وعلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبلاد) اللجنة المالية الدولية قبل الحماية. لجنة التحكيم في قضية البنك التونسي الفرنسي…)
5.اتفاق التبادل الحر والمعمق اليوم هو بمثابة عهد الأمان ما قبل الحماية :
أفاد تقرير لمركز الخبراء الهولندي ايكوريس أُنجز بطلب من الاتحاد الأوروبي، رغم مساندة التقرير لوجهة النظر الأوروبية إجمالا، بأن اتفاق التبادل الحر والمعمق ستكون له آثار سلبية على العديد من القطاعات الاقتصادية التونسية حيث سيؤدي إلى ارتفاع كبير للواردات من الاتحاد الأوروبي وانخفاض عام للصادرات. فعلى 37 قطاعا 9 منها فقط سترى ارتفاعا للصادرات والواردات وهي قطاعات غير أساسية في الاقتصاد التونسي مقابل انهيار لبقية القطاعات مثل المواد الحيوانية واللحوم المحولة، الغلال والخضار، الحبوب والبذور، مواد الجلد والخشب والورق، المشروبات والدخان والمواد غير المعدنية، قطاعات البنوك والتأمين، الاتصالات والتكنولوجيات الجديدة، النقل والتجارة والبناء والنسيج والبتروكيماويات وقطاع الطاقة والملابس وقطاع الكيماويات والبلاستيك….
إن الحديث عن مرحلة تحول تدرجية، يقع فيها تأهيل القطاعات الاقتصادية لتحضيرها لمواجهة منافسة المنتوجات الأوروبية، مغالطة مفضوحة إذ إنها ليست غير واقعية فقط وإنما هناك استحالة لبلوغها حيث إن كل القوى المتحكمة في العلاقة بين الاتحاد وبلادنا تحول دون حصول ذلك التأهيل؛ فالمديونية والضغط على الأجور يعمقان التبعية، ويزيدان في تعطيل التراكم الرأسمالي المنتج في بلادنا ويمنعان كل إمكانية لرفع الإنتاجية والتنمية الحقيقية. فخدمة الدَين الأجنبي تمنع زيادة الادخار الوطني والاستثمار الداخلي. والتبادل اللامتكافىء يأتي على ما تبقى من إمكانية الاستثمار الوطني؛ فكل المؤشرات تؤكد هذا التوصيف سواءً من ناحية ارتفاع نسبة المديونية، وما يتبعها من امتصاص للثروة من طرف المركز الاستعماري، أو ارتفاع متواصل للواردات وما ينتج عن ذلك من تعميق للتبادل اللامتكافىء يمكّن الرأسمال الغربي من استغلال اليد العملة الرخيصة للمزيد من الأرباح على حساب الشغالين في تونس، فحرية التنقل بين شاطئي المتوسط محصورة في السلع والاستثمار ولا يمكن سحبها على اليد العاملة لتبقى البطالة ضغطا متواصلا على الأجور ولتبقى اليد العاملة لقمة سهلة للرأسمال الأجنبي يواصل استغلالها لمزيد من الأرباح أساسا ومزيدا من الفقر والتهميش في بلادنا.
عهد الأمان فرض على البلاد منطقة تجارة حرة، مع القوى الاستعمارية، سُخرت لتحضير كل الظروف لسلب تونس حريتها وسيادتها لمدة ثمانين عاما مازلنا نعاني من تبعاتها إلى يومنا هذا. وإن المتمعّن في مشروع اتفاق التبادل الحر المقدم من الاتحاد الأوروبي لايفوته أن يلاحظ أن هذا الاتفاق يفضي بنا إلى التفريط في سيادتنا على مواردنا الطبيعية و يسلب منا إرادتنا الوطنية في حرية اختيار النهج الاقتصادي والاجتماعي الذي يرتئيه الشعب التونسي لنفسه خلال الممارسة الديمقراطية ويسحب من أي حكومة كل أدوات التوجيه والتأطير والتنظيم والتسريع في التنمية سواء كانت جبائية أو إدارية أو غيرها، كما من شأنه أن يدمر قطاعات كاملة من مصادر العيش للشعب التونسي. إننا وعندما نرفض هذه الاتفاقيات وسياسة فتح الأبواب، فإن الهدف الأساسي منه هو الدفاع عن استقلال الإرادة الوطنية في تسطير السياسات الاقتصادية لبلادنا والتي تصادرها هذه الاتفاقيات. وإن التشبث بالسيادة الوطنية في كل الحالات والدفع باتجاه بناء اقتصاد مستقل ينبني على تعميق وتنويع للسوق الداخلية تكون فيه التجارة الخارجية والعلاقات الدولية في خدمة السوق الداخلية وامتدادا وتعميقا لها وتكون السياسة الاقتصادية تهدف أولا وقبل كل شيء إلى الاستجابة لحاجيات أساسية ودونها أهمية بالنسبة للشعب التونسي.
كما أن هذا الرفض لا يعني رفض بعض القواعد التي تعمل هذه الاتفاقيات على إدخالها مثل الشفافية والحوكمة الرشيدة والتنمية المستدامة وحماية الملكية الفكرية والعمل على رفع الإنتاجية وتحسين الجودة وزيادة القدرة التنافسية للمنتوجات الوطنية الصناعية منها والزراعية. وقد ذهبت تونس، في هذا الاتجاه، شوطا مهما في إرساء تشريعات تنتظر التفعيل بالقضاء على الفساد والتهريب والمضاربة والاقتصاد الموازي وإعادة النظر في المنظومة الجبائية قواعدا وإجراءات لتحقيق المزيد من العدالة الضريبية والقضاء على التهرب الضريبي من أجل تحقيق الاعتماد على الذات في تمويل التنمية الوطنية ووضع حد للمديونية التي بلغت نسبا مخيفة؛ فمن البديهيات أنه لا تنمية ممكنة في خدمة الوطن والمواطن بالاعتماد على التمويل الأجنبي.
كما قُدمت التنازلات من السيادة التونسية لصالح الأجانب في دستور عهد الأمان على أنها إصلاحات دستورية في صالح الشعب التونسي، يفرض اتفاق التبادل الحر المعمق التخلي عن نفس هذه السيادة والإرادة الوطنية ممزوجة مع عدد من الإصلاحات والمبادئ في الشفافية والحوكمة الرشيدة ومقاومة الفساد والتنمية المستدامة وغيرها من الإصلاحات الضرورية؛ رأينا كيف أن دستور عهد الأمان سرعان ما وقع التخلي عنه ونسيانه وبقيت امتيازات القناصل وفُرضت علينا الحماية الاستعمارية وسينسى الاتحاد الأوروبي وخاصة أدواته من الداخل كل الإصلاحات الضرورية وتبقى سياسات إهدار السيادة الوطنية وهذا ما نعيشه اليوم منذ عقود من بداية تطبيق الاتفاقات مع الاتحاد الأوروبي. الاليكا اليوم هو عهد الأمان ما قبل الحماية ألا تتدبّرون؟ ألا تعتبرون؟
iThere are no comments
Add yours