يتفق أغلب المحللين على أن أهم العائلات الفكرية والسياسية التونسية تكاد تنحصر على الإسلاميين والدساترة واليسار. وعادة ما يصنف القوميون العرب وحتى النقابيون والحقوقيون (بما فيهم أنصار البيئة)، ضمن “العائلة اليسارية” ولو أن معظم هؤلاء قد يختلفون جزئيا أو كليا مع أطروحات ومواقف اليسار التونسي. ومن المؤكد أن تاريخ بلادنا المعاصر لا يعدو أن يكون نتاج التفاعل والصراع بين ثالوث القوى السياسية والإجتماعية المذكورة، والذي عرف -بطبيعة الحال- فترات شد وجذب وردهات مواجهة ومهادنة (أو إئتلافات/ توافقات)، قامت -ومازالت تقوم- على الواقع المحلي والدولي لموازين القوى.
إستراحة المحارب: الوهم الإصلاحي
إن خيار التعويل على إصلاح “النظام التونسي” من الداخل هو تمشي قديم- جديد، جاءت به سياسة “الوحدة القومية”، منذ ستينات القرن الماضي، وكانت أبرز تمظهراته، آنذاك، في الساحة السياسية، تكتيك “المساندة النقدية” لدى الحزب الشيوعي (المحظور وقتها)، والذي قاد طلبته، في 1971، لمسلكية القبول الأولي بالدساترة المنقلبين على رأس المنظمة الطلابية الشرعية، تحت مسمى جاهز وخطير هو: “النضال من الداخل”.
ويعد العامل الموضوعي لوطأة احتكار الحياة العامة، والمسلط منذ 1962 من طرف عتاة “الدكتاتورية الدستورية” على البلاد والعباد، محددا في تأويل ظاهرة تردي عدد مهم من وجوه وأحزاب اليسار في التوهم المرضي بإمكانية إصلاح “سيستام” فاسد وعميل بأتم معنى الكلمتين؛ فالملاحظ أنه كلما اشتغلت ماكينة القهر الرهيبة للسلطة، واستأسدت على الحركتين الإجتماعية والشبابية، كلما انتعشت التقليعات السياسية، التي غالبا ما تظهر بمظهر الواقعية والبراغماتية وتجديد الخطاب، ودعت بشكل أو بآخر للإلتفاف على التعاطي المبدئي لليسار إزاء قضية الثورة والحكم.
وقد خبر التونسيون، قبل الثورة، معدن العديد من سليلي التجارب التنظيمية لليسار (أحمد السماوي، محمد الشرفي، سمير العبيدي، منذر ثابت، برهان بسيس، نور الدين بنتيشة…)، الذين، رغم ما بذلوه سابقا من نضالات وتضحيات، وجدناهم التحقوا طواعية بالنسيج الرسمي المترهل، وساهموا بوعي أو دونه، في معزوفة “اليسار الإستئصالي” الكلاسيكية، والتي احترفتها بامتياز دوائر القرار والأبواق الإخوانية، منذ بدايات حكم الترويكا الفاشل والفظيع.
الدخولية الجديدة: ثقافة حكم أم مشروع إرتهان؟
أما بعد هروب المخلوع زين العابدين بن علي للقطر الخليجي، فإن عادة “اليسار المريض” في الوصولية والتموقع الحكومي، ولو على حساب القصاص لدماء الشهداء الأبرار المذكورين والانتظارات الثورية المشروعة لأهاليهم، لم تنقطع البتة. فالتحاق حزبي التقدمي (الحزب الجمهوري حاليا) والتجديد (حزب المسار حاليا)، بحكومة التجمع الثانية وبرئاسة محمد الغنوشي (الوزير الأول النوفمبري الأسبق)، سوق له، آنذاك، على أنه صون للبلاد من “الإنزلاق في المجهول” (من تصريح وزير التنمية الأسبق الأستاذ نجيب الشابي) أو إستصدار للإصلاحات الوزارية اللازمة (إلغاء سلك البوليس الجامعي).
والحال أن تجربة الحكم الوجيزة (بفعل رد فعل ثوار القصبة 2 عليها) لمناضلي اليسار من الحزبين المذكورين لم تؤت أكلها، لا على صعيد البرهنة على ثقافة الحكم المزعومة ولا على صعيد تطور الرصيد الإنتخابي لليسار (آنظر نتائج إنتخابات المجلس التأسيسي مثلا)، رغم افتضاح إرتهان حزبي التكتل والتقدمي، وقتها، لقوة المال السياسي لرجال الأعمال. بل فلنقل أن آمال جانب مهم من الجماهير والمثقفين على حد السواء، قد خابت، في المحصلة، في زعامات تاريخية محسوبة على المشروع الوطني والإجتماعي، الذي طالما ميز اليسار التونسي (فكرا وممارسة)، غالبا ما وجدوها (أي الزعامات) غريبة عن قناعاتها ومبادئها التي اشتهرت بالذود عنها، ومنصاعة ومتذيلة، بتعلات شتى كالتضامن والإستقرار الحكوميين و”الدفاع عن الشرعية”، لقصة “الأغلبية” و”الأقلية” (والعبارة مأخوذة من مداخلة برلمانية للشهيد الحاج محمد البراهمي)، بل وملتفة، كسائر الإستغلاليين والطغاة، على أهداف “ثورة الكرامة”.
وبعيدا عن التخوين والإنقسامات اللامبدئية التي تشترك مع خطر الدخولية في حجم الأضرار التي ألحقها بسمعة وشعبية طرح اليسار، فإن قائمة أدعيائه (أي اليسار)، حسب آخر المستجدات السياسية، لانخالها نهائية، فكأننا حيال موجة قوية للتفسخ السياسي والأخلاقي، تستمد نزيفها من حالة الإحباط والإستكانة، التي عادت لتضرب في الصميم معنويات الشباب الثائر، وكأن خيار استكمال مهام الثورة التونسية (وعلى رأسها إسقاط النظام الدستوري وبالبداهة منظومة الحكم الحالية) قد استحال لتوجه حالم (أو طوباوي) لايراعي تراجعات الحركة الشعبية واهتزاز قناعتها الأولى بجدوى النضال ضد حكم المافيات السائد. كما يجد أمثال الأستاذة سعيدة قراش وإياد الدهماني ومحمد الطرابلسي وسمير بالطيب وعبيد البريكي ومبروك كرشيد في مقولتي الدفاع عن “المسار الديمقراطي” و”الجمهورية الثانية”، ونحن مقبلون على إجراء ثالث إنتخابات تشريعية، غطاء ملتبسا لمطامحهم الشخصية أو مسوغا مقبولا (حسب إعتقادهم) لسد الباب أمام تمكن حركة النهضة الأغلبية الحاكمة من مفاصل الإدارة والدولة، وهي كلمة حق أريد بها كل الباطل.
ورغم الدلالات العميقة لحادثة إستقالة وزير الشاهد الأسبق (والمقال من طرفه) عبيد البريكي، على عقم تمشي هدر الطاقات السياسية كديكور هامشي للحكم و”توزير” الوجوه التاريخية لليسار لدى عملاء مراكز النهب العالمي وبارونات الفساد المحلي وأزلام الإرهاب الإقليمي، فإن أنفلونزا الدخولية، التي أصابت مجمل الطبقة السياسية التونسية منذ 2011، باتت تتفشى تدريجيا في صفوف من وجب أن يلقى على عاتقهم الدفاع حتى النهاية على راية اليسار الموحدة وعلى برنامجه الخصوصي، العملي والمباشر.
إن مربط الفرس، هنا، هو في تعميق النظر في تفاصيل البدائل المجتمعية والتنموية (وحتى في آداء الوجوه التمثيلية) لمكونات اليسار، بما يسمح للمواطنات والمواطنين باسترجاع الثقة الكاملة في قيدوم الفرقاء السياسيين، وبما يمكنه من الإضطلاع المسؤول بمهامه الحيوية، مع التفطن لعواقب إستسهال الخطاب الشعبوي أو التفريط في إستقلالية لونه السياسي.
إن لكل حركة ثورية، في كل زمان ومكان، إنتكاساتها وإخفاقاتها وإنحرافاتها، التي لا تقدر على النجاة منها، ما لم تتوخ، في نفس الوقت، الدفاع المستميت عن ثوابتها غير القابلة للتصرف والتطوير الخلاق لآدائها العملي ولمكاسبها السياسية. ولن تذهب التقييمات الحاصلة للثورة التونسية، التي فتحت صفحة سياسية مشرقة في التاريخ العربي والإنساني، مذهبا يشذ عن هذا المنوال، مهما بدا سبيل شعبنا مضجرا ووعرا.
لما نظام سياسي لا يحمي نفسه، بحكم مضاد راقي، الفساد يكثر، و الدخولية، هي جواب، لطموحات الفرد، ليس حتى الحزب، و لا العائلة الفكرية ، و لا المجتمع .. و أزمة العقل العربي، اليساري و غيره، هو بالاساس أزمة مع الديمقراطية .. ضرب طموحات الشعب الذي اطرد بن علي، بدأت من الليلة الأولى، كما تشير لذلك سيدي .. لما يكون لنا عقل ديمقراطي، عديد معضلات الحكم، عبر أغلابية إنتخابية توافقية ، أو عبر تحالفات، أو حتى أغلبية لحزب واحد، ستحل. و خاصة الحلول التنموية ستدخل على الخط و تساهم في حل المشاكل التنموية و الاجتماعية، و لا تتناثر طموحات المجتمع كله، و ليس الشباب فقط.
احزابنا، اليسار و غيرهم ، عندهم، اكتسبوا ، لفظ ، كلمة ، الديمقراطية ، لكن الجميع يفتقد للعقل الديمقراطي. و لا سلوك ديمقراطي دون عقل ديمقراطي. ثم أيضا، و كل العرب يشتركون في هذا : الديمقراطية عندهم في أحسن الحالات ، حرية التعبير و تعددية حزبية . يجب أن نرتقي، لدمقرطة الحكم و السياسة ، ثم سينطلق المجتمع في طريق العدالة الاجتماية ، دمقرطة المعارف، التنمية، تساوي الفرص،…
ثورة تونس كانت لدمقرطة الحكم و السياسة و المعارف ، و فتح أبواب المساهمة للجميع كذلك الثورة السودانية اليوم ، ما يحدث في الجزائر اليوم ، على نفس الخط .. ثورات مجتمع ضد الإستبداد و الاغتصاب ، للثروة ، للقرار السياسي و التنموي و للمصير.
في كل الدول يبقى #حنبنيهو ، هو المشروع الوطني المنشود .
#مدن_السودان_تنتفض
#ترحلوا_يعني_ترحلوا
#بن_علي_هرب
و تونس، بعد ثورتها على الإستبداد إن شاء الله تفجر ثورة وعي لدى كل العائلات السياسية و المجتمع، حتى لا تغلب الدخولية، واخواتها؛ أو الجميع يذهب في خبر كان !!
يحيا الشعب
كاكثرية المثقفين الكاتب يبسط جيد تناقضات اليسار التونسي. لاكن لا يقترح اية حلة و لو افتراضي للمستقبل. و كيف لا وه يجهل حرب التبقات في مجتمعنا الذي يظهر بالواقع سيطرة الطبقة الوسطي على كل مستوي و تساند النظام الديمقراطي الدكتاتوري الي اهيمن على الحكم بالكامل باسم ثورة الكرامة و حرية الفرد و حقوق الانسان