المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

لقد انبنى مشروع مجلة المياه الجديد على مقاربة ملكية الدولة المطلقة للمياه في أصنافها / سواء كانت الطبيعية منها أو الإصطناعية وعلى نظرية ندرة المياه بالبلاد التونسية والتركيز على المقاربة الأمنية في إدارتها إما باالوسائل الردعية أو عن طريق الرخص وعقود الامتياز. في ما يلي تحليل وقراءة للأعمدة الهيكلية الذي أنبنى عليها مشروع مجلة المياه الجديد.

في نظرية فقر وشح المياه… وزر الكلمات و الأرقام

يصنف المختصون في مجال الهيدرولوجيا البلدان التي يكون فيها نصيب الفرد من المياه في السنة أقل 1000 م3 على أنها بلدان تعاني من الفقر المائي أما البلدان التي يكون فيها نصيب الفرد أقل من 500 م3 في السنة فيصنفها القائمون على الموارد المائية في تونس بأنها بلدان تعاني من شح المياه -وهي تسمية محلية– على غرار بلدنا والذي يقدر نصيب الفرد فيه حاليا ب 360 م3. و يتوقع أن ينخفض تدريجيا ليصل إلى حدود 150 م3 بحلول عام 2050، حسب ما يروج له المختصون. إن المتأمل في المفردات يلاحظ قدرا من التناقض يخفي قدرا موازيا من الانسجام. فالفقير هو الذي لا يمتلك المال أما الشحيح فهو الذي يمتلك المال و لا ينفقه. لقد قامت الدولة التونسية ما بين 1956 و2005 ببناء 34 سدا و 230 سدا جبليا 894 بحيرة جبلية بطاقة استيعاب جملية تقدر بحوالي 2,7 مليار متر مكعّب وهي بهذا الانجاز عبأت كامل الموارد القابلة للتخزين تقريبا. عندها بدأ الترويج لنظرية شحّ المياه التي نعاني منها وهذا في اعتقادي منطقي إلى حد كبير. إذ أن المياه المخصصة للاستعمال المنزلي لا تتجاوز نسبة 9% من جملة الموارد المائية السطحية و الجوفية المتاحة، وهي نسبة ضئيلة يمكن توفيرها وصرفها من المخزون المعبّأ إذا ما تجاهلنا نظرية فقر وشح المياه. إن جدلية العرض والطلب لا يمكنها أن تستوعب تصاعد وتيرة الاحتجاجات الناتجة عن اضطرابات توزيع الماء الصالح للشراب شمالا و جنوبا والتي يقدرها المرصد الوطني للمياه ب104 تحرك احتجاجي فقط في شهري ماي وجوان من سنة 2018.

كما أن المؤشر الذّي يحدد نصيب الفرد من المياه سنويا ب360 متر مكعّب هو رقم موهوم أنتجته المؤسسات الدولية الكبرى لتمرير أجنداتها في الدول الفقيرة. وهو بُعبع تستعمله مؤسسات التمويل العالمي لتمرير مشاريع تخدم مصالح الدول المانحة للقروض على غرار تمويل أنظمة الري الموضعي، تمويل أنظمة الصرف الصحي الخطي والذي ينتهي بمحطة لتصفية المياه المستعملة، محطات تحلية المياه…. وهي مشاريع لا تحتوي على قيمة مضافة أو جدوى اقتصادية بل تمثل فقط فرصا اقتصادية واستثمارية لشركات الدول المانحة للقروض. فمؤشر 360 متر مكعب للفرد في السنة ساذج، إذ أنه لا يعتبر سوى الموارد المائية الجوفية والسطحية المعبئة وهو بذلك لا يقيم وزنا للموارد المائية المطرية الغير معبئة والتي تقدر ب3000 متر مكعب للفرد في السنة في تونس وهي كميّات مهمة تحيلنا على ضرورة مراجعة نظرية ندرة المياه في البلاد التونسية. إن الأماكن التي تعاني من ندرة المياه لا تنشأ بها حضارات على خلاف بلدنا الذي كان مهدا لحضارات أثرت في العالم منذ ألاف السنين.

في عدم تناسق مشروع مجلة المياه مع دستور 2014

يشير دستور 2014 في فصله الرابع و الأربعين إلى أن الحق في الماء مضمون غير أن الفصل الثاني من مشروع مجلة المياه يشير إلى أن الماء الصالح لشراب ضروري للحياة وأن السلطة المختصة تعمل على جعله متاحا. للغة دلالاتها و الفرق واضح، فخلافا للدستور لا يتعهد مشروع المجلة بضمان الماء بل يعمل فقط على جعله متاحا إي بمعنى أنك إذا فتحت الحنفية ووجدت الماء فذاك فضل من عند الله وإن لم تجده فأعلم أن السلطة المعنية قد عملت على جعله متاحا ولكنّها لم تنجح في ذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله. بقراءة ما بين السطور يتبيّن أن عدم تعهّد السلطة بضمان الماء الصالح للشراب يعني أن السلطة لا ترى نفسها قادرة على ضمانه أو أنها لا تريد ذلك. وهذه إشارة إلى أن أزمة المياه ستتواصل أو أنها ستتفاقم حسب مشروع مجلة المياه الذي سيعيش معنا قدرا يمكن أن يساوي ما عاشته مجلة المياه الحالية أي ما يعادل 45 سنة.

في مقاربة احتكار الدولة لملكية المياه

يحتوي مشروع مجلة المياه على 7 عناوين وقد اختص العنوان الثاني بتحديد الملك العمومي للمياه وهي مسألة جوهرية بنيت عليها فلسفة هذا المشروع. يعرّف العنوان الثاني من المجلّة المرتقبة بأن المياه في تشكيلاتها الطبيعية والاصطناعية على أنها ملك للدولة وأن الدولة وحدها من تتصرف فيها فينتج على ذلك إدارة المياه بأسلوب عمودي وبحركية ذات اتجاه واحد من القمة إلى القاعدة. تبنّي مفهوم الملك العمومي للمياه يتجلّى في العنوان الرابع من نفس المشروع «أنظمة استعمال المياه»، بإخضاع كل استعمال أو استغلال للمياه الطبيعي أو الاصطناعي لترخيص أو امتياز وهي أدوات أثبتت فاعليتها في تعطيل الإنتاج.

مثال رقم 1: تخضع مجلة المياه لسنة 1975 تركيز المأخذ القارة للمياه (كتركيز مأخذ لتزويد وحدة صناعية) على مجاري الأودية و البحيرات إلى نظام الرخص وتعفي المأخذ الغير قارة (تركيز مأخذ من طرف فلاح لسقي مزروعاته) من هذا النظام. في حين أن مشروع مجلة المياه يساوي بين المأخذ القارة والغير قارة ويخضعها جميعا لنظام الرخص. أن المكان الطبيعي لفلاح صغير أو متوسط هو حقله كي ينتج وليس أروقة الإدارات لطلب التراخيص هذا ما أدركته مجلة المياه لسنة 1975 ولم يدركه مشروع مجلة المياه الجديد.

مثال رقم2 : تخضع مجلة المياه لسنة 1975 حفر الآبار التي يفوق عمقها الخمسين متر فقط، إلى طلب رخصة أما حفر الآبار الذي عمقها دون ذلك ولا تقع في منطقة محجّرة فيستوجب فقط إعلام الإدارة بذلك. في حين أن مشروع مجلة المياه الجديد يخضع الجميع لنظام الرخص. ما الفائدة من طلب رخصة لحفر بئر في منطقة غير محجرة؟

لقد ظهر قانون الملك العمومي للمياه أول مرة سنة 1885 أي بُعيْد الاستعمار الفرنسي لتونس بأربع سنوات وهو بذلك صناعة ذات منشأ استعماري، وأعيدت صياغته في مجلة المياه لسنة 1975 حيث اعتبرت أن الماء في تشكلاته الطبيعية (أودية،  ينابيع، سباخ، خزانات باطنية…) أو الاصطناعية (منشئات وتجهيزات عمومية) هي ملك عمومي مع الاعتراف بالحقوق المكتسبة باستعمال المياه وحفظ حق الانتفاع بالماء. وعليه أمرت مجلة المياه لسنة 1975 في فصلها الثاني بتشكيل لجنة تحت مسمّى لجنة تصفية حقوق الماء لتتولى حفظ الحقوق المكتسبة في واحات الجنوب وغيرها من المناطق. ويُعدّ هذا اعترافا صريحا بأن المياه ليست ملكا عموميا مطلقا عكس ما خلص إليه مشروع مجلة المياه الجديد دون أن يُقيم وزنا للحقوق المكتسبة المتعلقة باستعمال المياه التي اعترفت بثبوتها في مجلة المياه الصادرة في سنة 1975 ودون أن يقيم وزنا لمبدأ التواصل الذي يربط بين المجلّتين. إذن، من الواضح أن مشروع مجلة المياه ارتكز على مسلمات غير منطقية وغير قانونية.

مثال رقم3 : كأن يقوم معلّم يعلم سلفا أن قسمه به 40 تلميذا ثم يحصيهم فيجدهم 36 تلميذا ثم يصدر قائمة للغائبين لا تحتوي على أي اسم. وهذا غير منطقي بالمرة. قياسا على ذلك تعترف مجلة المياه لسنة 1975 بالحقوق المكتسبة للمياه وتأمر بإنشاء لجنة لتصفية حقوق الماء، وعليه يفترض أن يحتوي مشروع مجلة المياه الجديد قائمة في أصحاب الحقوق المكتسبة والمتعلقة باستعمال الماء إلا أنّنا نفاجأ في المشروع الجديد بتجاهل تامّ لما اعترفت به مجلة 1975 وللجنة و وأعمالها إضافة إلى أصحاب الحقوق المكتسبة.

يُعرّف مفهوم السيادة الغذائية الذي ظهر سنة 1996 على يد حركة نهج المزارعين بأن  “المياه منفعة مشتركة وعامة وجب توزيعها بشكل مستدام” وهو في اعتقادي تعريف عميق و دقيق. إن مسالة امتلاك الماء مسألة معقدة وشائكة وعادة ما تنتج المشاكل والاضطرابات والحروب. ولنا في التاريخ عِبر حيث كانت ملكيّة المياه سببا من جملة أسباب أخرى في اندلاع حرب البسوس وحادثة ردم بئر زمزم.

مركزية المقاربة الأمنية في مشروع مجلة المياه

يحتوي العنوان السابع “نظام المراقبة والمتابعة ” لمشروع مجلة المياه فصلا يتعلق بإحداث شرطة المياه وفصلا أخر يتعلق بإحداث محاكم مختصة وستة عشر فصلا مثخنين بالخطايا المالية والعقوبات السجنية التي سيواجهها المخالفون لأحكام هذه المجلة. لقد طغت المقاربة الأمنية على فلسفة مشروع مجلة المياه حتى كادت تحول وزارة الإشراف إلى شيء أشبه ما يكون بالإمارة التي تعاين تحكم و تنفذ. إنها الخصم والحكم. لقد كانت مجلة المياه لسنة 1975 أكثر لينا وتواضعا إذ كانت فصولها التي تعنى بالمخالفات والعقوبات تنتهي بعبارات تمكن المتهم من الدفاع عن نفسه من قبيل:

  • “…..بيد أنه يعترف و يحتفظ بالحقوق الخاصة …”,
  • “…. وفي جميع الحالات فإن حقوق الغير تبقى محفوظة”
  • ” ….. فإن الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم تضرروا من قرار وزير الفلاحة يمكن لهم أن يرفعوا أمرهم لدى المحاكم”
  • ” ……. من مشمولات المحاكم”
  • ” ….. فإن الإدارة يمكن لها أن تشتري الأرض عن طريق الانتزاع للمصلحة العمومية”
  • ” …. فإن المالك يمكن له رفع قضية عدلية لدى المحاكم”
  • ….. فإن الثمن المذكور يعين من طرف المحكمة”

المقاربة الأمنية لم تكن حاضرة فقط في العنوان السابع من مشروع مجلة المياه، إذ لم تخلو العناوين الأخرى من إشارات تصبّ في سياق هذه الفلسفة إذ أستعمل مشروع مجلة المياه في فصله الثاني مصطلح “السلطة المختصة” عوض مصطلح “الإدارة” الذي استخدمته مجلة المياه لسنة 1975 وهي مصطلحات لها دلالتها إذ أن مصطلح السلطة يحيلنا إلى السلطة الدينية التي تحلل أو تحرم أو السلطة التنفيذية التي تمنع أو تبيح. أما مصطلح الإدارة فهو مصطلح تقني يختزن الدراسات، التخطيط والاستشراف.

لقد طغت المقاربة الأمنية لحلّ المشاكل المتعلّقة بكيفية التصرف في المياه على مشروع المجلة حتى كاد يفقد الوزارة المكلفة بالمياه صبغتها الفنية ويحولها إلى وزارة سيادة.

جاء في الفصل 122 : « بالإضافة إلى الأشخاص المنصوص عليهم بالفصل 10 من مجلة الإجراءات الجزائية، تتم معاينة المخالفات لأحكام هذه المجلة ونصوصها التطبيقية، من قبل المهندسين والفنيين التابعين للوزارة المكلفة بالمياه والأطباء والمهندسين والفنيين التابعين لوزارة الصحة وكذلك المهندسين التابعين للوزارة المكلفة بالتجهيز والوزارة المكلفة بالبيئة وتضبط قائمات المختصين في هذا الغرض بمقتضى قرار من الوزراء المعنيين. »

إن المهندسين والفنيين والأطباء أعِدّوا خلال تكوينهم الأكاديمي لاستنباط حلول تقنية وليس لمعاينة المخالفات وهي من صميم اختصاص رجال الأمن والعدول المنفذين وما شابه ذلك. إن الفصل 122 من مشروع مجلة المياه يعد استنساخا لوظائف موجودة أصلا، نصّ عليها الفصل 10 من مجلة الإجراءات الجزائية. كما أن هذا الفصل يحمل في طيّاته مفاضلة الوظائف الأمنية على الوظائف التقنية في وزارات هي تقنية بالأساس، بمعنى أنك تبدأ حياتك المهنية مهندسا، تقنيا  أو طبيبا، ثم تتمّ ترقيتك -بعد مراكمة الخبرة- بمقتضى أمر لتقوم بوظيفة أمنية تتمثّل في معاينة المخالفات لأحكام مجلة المياه. لقد تمّ في العقود الأخيرة الانحراف بالمهن التقنية وتوجيهها رويدا رويدا نحو الاهتمام بالجوانب القانونية والأمنية في كل المجالات حتى أصبح التقنيون في اجتماعاتهم لا يتكلمون سوى عن ما هو قانوني وما هو غير قانوني ما هو مباح  وما هو ممنوع وأصبح تدخلهم يقتصر على تطبيق ما جاء في الأوامر والقرارات وتغييب الحلول التقنية لحلّ العديد من المشاكل على غرار بعض هذه الأمثلة.

 مثال رقم 4 : يتم التسويق إلى أن فشل المجامع المائية يعود إلى سببين وهما المديونية والربط العشوائي دون التطرق إلى مشاكل اهتراء الشبكات، التسربات، نقص الصيانة…

مثال رقم5: نقص حاد في التكوين والتربصات التقنية في مجال المياه حيث يكون أغلب من يتولّون تسيير المجاميع المائيّة من غير أهل الإختصاص.

مثال رقم6 : لا يتضمّن دليل الموائد المائية الباطنية الذي تصدره وزارة الفلاحة خرائط جغرافية تضبط حدود كل مائدة مائية على حدة.

إن الاقتصار على معالجة المشاكل بالاعتماد فقط على المقاربة الأمنية لن يفضي إلا لمزيد من العنف وإرهاق الأجهزة الأمنية.

الشراكة بين القطاع الخاص و القطاع العام (PPP)

إن القطاعين، العام والخاص وجهان لعملة واحدة. الشركات التي تنشط في القطاع الخاص شركات صغيرة هشة وغير مهيكلة. إن الدفع في اتجاه تفعيل الشراكة بين القطاعين في مجال المياه، في الوقت الحاضر، سينتج في اعتقادي حصيلة مماثلة لما رأيناه في قطاعات أخرى في تونس وهي:

  • في غياب شركات تونسية منافسة في مجال استغلال و توزيع المياه سيتم التفريط رويدا رويدا في الشركة الوطنية لتوزيع المياه لشركة أجنبية كما جرى لشركات الاسمنت في تسعينات القرن الماضي.
  • سيستولي المنحرفون على المجامع المائية التي تعنى بتوزيع الماء الصالح للشراب في المناطق الريفية و مياه الري كما جرى للأسواق البلدية وسوف يقتصر تدخلهم على جمع الضرائب إلى أن تضمحل المنشئات وشبكات توزيع المياه.

إن الدفع باتجاه الشراكة بين القطاع العام و القطاع الخاص في الظروف الراهنة مغامرة غير محسوبة العواقب سيكون لها تداعيات وخيمة جدا على قطاع المياه عامة في تونس.

في قرية ما، يستعمل جميع السكان ماء البئر التي تقع في أطراف القرية بشكل مستدام كمنفعة مشتركة وعامة. لكن الأقوياء يرون الماء بشكل مختلف. وبحجة حمايته من خطر ما أو حماية مستعمليه سيمتلكونه. عندها يبدأ الصراع وتحتّد الأزمات.