نجحت كورونا إذن في تعرية الرأسمالية المقنعة وفي كشف تخلي الدول عن دورها الاجتماعي لإفساح المجال للمستثمرين وفي الكشف كذلك عن مدى فضاعة و هشاشة ما نعيش فيه. هذا الكشف الذي رافقته دعاوى لتأميم مرافق صحية خاصة في تونس وحول العالم، والتأميم الوقتي لمعامل ومصانع المواد الطبية وشبه الطبية، ربّما أعطى بصيصا من الأمل لكل الحالمين بالعدالة الاجتماعية وبسقوط الرأسمالية، لكن ما نعيشه اليوم في ظل فترة أمان نسبي من فيروس كورونا يجعلنا نستبدل الأحلام بالأوهام ويدعونا للتريث قبل الانغماس في ثورة وردية.
السردية المهيمنة
ربّما نجد عند المفكر اليساري الأمريكي نعوم تشومسكي بعضا من العزاء عندما يقول بأن فيروس كورونا هو مجرد أزمة مؤقتة ستنفرج، لكنه عزاء كتفّاحة مسمومة، لذيذة و قاتلة. حيث يعقّب تشومسكي موضحا بأن ما يحمله لنا المستقبل من كوارث ستسببها الرأسمالية سيجعل الكورونا مجرّد جزء بسيط من مستقبل يسير بخطى ثابتة نحو فناء عنيف. ما خلّفه فيروس كورونا من كوارث صحية واجتماعية لا يكاد يعدو أن يكون عوارض لجائحة أخرى: الرأسمالية.
بدأ سقوط الشيوعية، خلال نهاية الثمانينات من القرن الماضي، لتنفرد الرأسمالية بقيادة النظام العالمي. لا شيء يغيّر العالم مثل قصّة جيّدة، إنها تلك السرديات الكبرى التي تصنع الثورات. الشيوعية كانت سردية غيرت العالم في القرن العشرين، لكن سقوطها وتأزم الأنظمة الليبرالية في الدول الكبرى ومستعمراتها السابقة لم يفض إلى سردية أفضل، مما أدى إلى بداية حقبة النيوليبرالية.
ثمانينات القرن الماضي شهدت بداية تخلي الدولة من دورها الاجتماعي و اكتفائها بالمراقبة في صمت مع بعض التدخلات التعديلية. هذا الانسحاب رافقه بالضرورة دخول منطق الربح على الخط في كافة المرافق، بالأخص منها الصحية. دخول المستثمرين الخواص على الخط في ميدان الرعاية الصحية بالأخص في الصيدلة و صناعة الأدوية. الرعاية الصحية في المرافق الأساسية مثل المستشفيات، أُخضع بالضرورة لمنطق الربح بدل الحق في الرعاية الصحية المجانية. هذا المنطق بالذات الذي يجعل كبرى شركات تصنيع الأدوية تهتم بصناعة مراهم الجلد و مستحضرات التجميل و حبوب تحسين الأداء الجنسي بدل صناعة اللقاحات و الأدوية، و هو نفس المنطق الذي يجعل تصنيع دواء للمتلازمة التّنفّسيّة الحادّة الوخيمة (السارس) في 2003 مثلا أمرا غير مجدي، ببساطة لأن عدد الزبائن المتوقع، أي المرضى، لا يدرّ أية مرابيح. كابوس الحجر الصحي والجائحة التي يعيشها العالم اليوم ببساطة نتيجة لإهمال الدولة لدورها الاجتماعي بداية بالتخلي على المرفق الصحي، وفي مستوى آخر لضعف علاقة الدولة بالعلم على حد قول آلان باديو.
هذا الضعف يمكن ارجاعه بالأساس إلى دخول تمويلات المستثمرين على الخط في تمويل البحث العلمي إما في الجامعات العمومية نفسها أو خارجها. هذه التمويلات هي بالأساس موجهة لمواضيع البحث التي تفضي بالضرورة إلى منتوجات تدر الربح في السوق إما لكونها منتوجات جديدة أو لأنها تنافس منتوجات موجودة أو أفضل منها. إنه إذن سباق محموم نحو الربح و ليس تثمينا لمجهودات البحث العلمي، وهو ما يفسر تراجع الإنفاق على البحث العلمي من قبل الدولة في مقابل ارتفاع إنفاق الخواص عليه. منطق الربح الذي يغذيه جشع الرأسماليين و غياب الدولة المنسحبة من دورها الاجتماعي هما نتاجان للرأسمالية في شكلها الحالي : النيوليبرالية.
الخطأ القاتل: غياب السردية
يوفال نوح حراري، مؤرخ إسرائيلي، وصف الإنسان العاقل بأنه الكائن الوحيد القادر على التخيّل. أغلب أنواع الحيوانات قادرة مثلا على التواصل في ما بينها، إما باللغة أو بالإفرازات الهرمونية، يمكن لحيوانين من نفس النوع أن يعبّرا بسهولة لبعضهما عن وجود خطر (أسد مثلا) قرب النهر، لكنه الإنسان العاقل وحده الذي يقدر على التعبير مع إضافة تفصيل أن هذا الأسد هو حامي القبيلة التي تسكن في الضفة الأخرى.
قد يبدو الأمر بديهيا لبرهة، لكن المتمعن في هذه الصفة المميّزة، أي التخيّل، يمكن أن يدرك أيضا أنها هذه الصفة بالذات هي التي تجعلنا نبني القصص التي توحدنا و تجمعنا تحت نفس الراية لنعمل معا : الدين، الوطن، العلم، حقوق الإنسان، النسوية، الخ.
في ثلاثينيات القرن الماضي، أوصلنا اقتصاد مبدأ عدم التدخل إلى الكساد الكبير، هذا المبدأ الاقتصادي الذي خلقه الفيزيوقراطيون الفرنسيون ثم طوره آدم سميث ظهر فشله الذريع وأدى إلى الكساد، هذا الكساد دفع كاينز إلى تدبر أصل المشكلة و وضع نظرية اقتصادية اخرى : الكينزية. الناظر في الكينزية و مبدأ عدم التدخل كنظريتين اقتصاديتين، يلاحظ الآتي : رغم أننا نتحدث عن نظريتين اقتصاديتين، فإنهما يقومان لا على الأرقام والمؤشرات، بل على السردية. فإن كانت سردية الفيزوقراطيين الفرنسيين تقول أن الطبيعة تأخذ مجراها وأن اتباع الأفراد لأنانيتهم يصب في المصلحة العامة و أنها طبيعة الإنسان منذ فجر الحضارة، فإن السردية الكينزية تنصّ على أن الدولة القوية والعادلة مدعومة بالطبقة العاملة و المتوسطة ستحارب هذه الأنانية و تتدخل لتعديل موازين القوى بإعادة توزيع الثروة و صرف الأموال العمومية على المرفق العام، انها السردية الاصلاحية البسيطة. هذه السرديات التي غيرت في كل مرة سياسات المعسكر الغربي، قابلتها سرديات أخرى في المعسكر الشرقي مثل الاشتراكية.
لكن مثل كل السرديات، أزمة سردية ما يفضي إلى سردية أخرى لتعوضها، أزمة الشيوعية أدت إلى سقوط الاتحاد السوفياتي و تفرد الرأسمالية بقيادة النظام العالمي، و أزمة الكينزية جلبت لنا سردية أخرى يقودها المبادرون و رواد الأعمال : النيوليبرالية. منذ 2008، بداية نهاية سردية النيوليبرالية كانت واضحة، وبينما انتظر العالم سردية جديدة، فشل معارضوها في رواية قصة بديلة.
السردية المنشودة
يقول الكاتب الإنجليزي جورج مونبيوت “لا يمكن هزم قصة إلا بقصة أفضل منها”. في ظل فشل النظام العالمي، لا يجب أن نعجز عن رواية تلك القصة التي تفسر حاضرنا، تلك القصة التي تفسّر هشاشة ما نعيشه اليوم لكن في نفس الوقت قادرة على وصف مستقبل خال من هذه الهشاشة. إنها القصة المقنعة التي تحتوي على ما يكفي من المنطق لإلقاء الضوء على مشاكل الاقتصاد والمجتمع وعلى ما يكفي من الأمل و المصداقية للتبشير بمستقبل أفضل بعد الكورونا.
هذه السردية التي تنتظر أن تُروى، لا يجب أن تكون مجرد سردية إصلاحية تكتفي بشعار قوة الدولة وعدالتها وحصر التغيير في الإصلاح ومحاربة الفساد، لأن السردية الناجحة يجب أن تكون سردية جريئة، ولا يجب أن تكون سردية قديمة يعاد روايتها في حلة جديدة تتغنى بمكاسب الدولة الوطنية، ولا يجب أن تكون سردية صحيحة يرويها الطرف الخطأ، لأن مصداقية السردية تحكمها هوية رواتها، نحن ببساطة ننشد ثورة عبر القصة.
iThere are no comments
Add yours