بداية، أريد أن أوضح أن التعاطي الإعلامي مع قضية العنصرية بقي تعاملا سطحيا يستهين بالعمق السياسي والحقوقي للقضية. ويبدو أن هذا الطرح السطحي للقضية يرتبط بجهل الصحافيين الذين يتناولون الموضوع بجهل بأدبيات العنصرية في العالم، وجهلهم أو معرفتهم السطحية جدّا بواقع السود منذ زمن العبودية والاستعمار. فهؤلاء الصحافيون في تونس أبدوا وبوضوح عدم تشبعهم بالتجارب النضالية للسود في العالم. يتضح لنا ذلك من خلال المفاهيم التي يستعملونها التي تكشف عدم إطلاعهم على كتابات فرانز فانون وايمي سيزير و ستيف بيكو وبالدوين. ويبدو أيضا أنهم ليسوا على إطلاع بنضال النساء السوداوات في أمريكا وأهمية النضال التقاطعي حيث نجد من أبرز رموزه بيل هوكس وأنجيلا دافيد ودونيز أوليفيي فاليز وغيرهنّ. هذا إضافة إلى نضال النساء ضدّ العنصرية في مجتمعات الهجرة. وبالإطلاع على كلّ هؤلاء وغيرهم وغيرهنّ كان بإمكان الصحافيين فهم تشابكات المسألة في المجتمعات الأخرى، التي ليست بمعزل عما يحدث في المجتمعات العربية عامّة والمجتمع التونسي خاصة.
تناول سطحي
لئن لم توجد كتابات تأسيسية تحلل تفاصيل الإرث العبودي وانعكاساته اليوم على عقلية المجتمع وممارساته العنصرية البنيوية في مجتمعاتنا، بقرارات سياسية غير معلنة، فهذا لا يعني أن العنصرية لا تعرف جغرافيتنا ولا تتملّك عقولنا وطريقة عيشنا وممارساتنا السياسية. الفرق بيننا وبين المتحررين في الكتابة في أمريكا وجنوب إفريقيا وأوروبا هو الفرص التي أتيحت لهؤلاء السود للذهاب مبكرّا إلى الجامعات وانخراطهم في نضالات تجمعهم حول قضيتهم، في حين وقع طمس السود في شمال إفريقيا وغرب آسيا ووقع دفعهم إلى الهامش وحرمانهم من التعليم واضعافهم اقتصاديا حتى يبقوا تبّعا في فكرهم ولقمة عيشهم لمن يعتبرون أنفسهم أسيادا أو لمن يستغلّ سلطة لونه الفاتح للاستعلاء ومحق الأسود.
لا أشك ولو للحظة أن المسالة جوهرية وعميقة بل ومركّبة وليست كما نعتقد أو كما يتم تداولها بشكل سطحي في وسائل الإعلام على أنها “ممارسات فردية ومعزولة”. علينا أن نستوعب أن من يقوم بالممارسات المعزولة هو في الحقيقة نتاج مجتمعه و تربيته وعقليته وهو أيضا نتاج نظامه السياسي. لا يخفى على أحد أن مجتمعاتنا محافظة، في مجملها، لا تقبل التغيير بسهولة وتظلّ مستاءة من الامتيازات القانونية للمرأة والسود وكل الأقليات التي اعتادت هذه المجتمعات على محقها وتغييبها وجعلها تحت سلطتها. سلطة في ظاهرها سلسة وعادية تستمدّ شرعيتها من العرف الاجتماعي وفي باطنها عنف وتخويف وقمع وتغييب.
إرتباك الإعلام التونسي عند تناول قضية العنصرية ضدّ السود
لم يطرح الإعلام التونسي مسألة العنصرية ضدّ السود في تونس قبل ثورة 14 جانفي 2011، ووجد نفسه مضطّرا إلى طرحها بعد هذا التاريخ، أي بعد ظهور حراك السود الذي استغل انفجار الحركات الاجتماعية لطرح المسالة في الفضاء العام وفي صلب المجتمع المدني والسياسي الذي عُرف أيضا قبل الثورة بتقليديّته وتجنّبه الخوض في مسألة الأقليات والعنصرية ضدّهم. إذ لعب حراك السود في تونس بعد الثورة دورا هامّا في الضغط على كل المؤسسات للتفاعل مع قضيتهم، بما فيها المؤسسات الإعلامية.
كان الأمر بمثابة المفاجأة السيئة التي لم يكن الإعلام جاهزا للخوض فيها، مثله مثل المجتمع والسياسيين على حد السواء. ممّا أدّى في البداية إلى نفي تامّ لوجود الظاهرة في تونس ونعت الناشطين لمناهضة العنصرية بالمبالغة والذعر المرضي، بل ذهب آخرون إلى اعتبار أنّ الناشطين متواطئين مع أجندات خارجية لتفرقة المجتمع التونسي وبث الفتنة في صفوفه. فظلّ هذا الحراك يتخبّط في الهامش كما تخبّط السود في هذا الفضاء الضيق اللامرئي طيلة قرون.
بالتوازي مع ذلك، بدأ شيئا فشيئا صعود الحراك الذي اهتم به الإعلام البديل والإعلام الخارجي منذ ظهوره ممّا اضطّر الإعلام التونسي لطرح موضوع العنصرية ولكن بطريقة حذرة جدّا. وكان طرحا أقرب إلي النفي منه إلى الخوض في صلب المسألة، مثل السؤال الركيك الذي تكرر كثيرا ولا يزال، حتى بعد اعتراف كلّ أطراف المجتمع المدني وبعض مؤسسات الدولة بوجود الممارسات العنصرية وانخراطها في مناهضتها ومحاولة الحدّ منها: “هل هناك فعلا عنصرية في تونس”؟ سؤال يدلّ على وجود قلق شديد لدى الإعلام عند طرحه لموضوع العنصرية. قلق لم يكن للأسف يراد به تعرية الواقع وفقع الدُّمَّل لمحاولة إعادة إرساء عقلية جديدة، وتربية الأجيال القادمة على حقائق تعرقل تقدّم المجتمع. وإنما هو قلق يراد به الهروب من مواجهة حقيقة وواقع السود الذين أقروا ويقرّون بتجاربهم مع العنصرية. تناول العنصرية في الإعلام أيضا عكس ويعكس صورة المجتمع في تعامله مع الأسود. وهو تعامل أبوي قمعي يُظهر الأسود في موقع تبعية وغير قادر على تقرير مصيره وتحليل ظاهرة العنصرية التي تسلّط عليه.
في منابر أخرى تكون الأسئلة المطروحة وطريقة بعض الصحافيين في طرحها تجعل الضيف الأسود في حيرة من أمره متلبّكا في الإجابة لأنها أسئلة أقرب إلى التوبيخ منها إلى السؤال: مثلا وبابتسامة نفاق “لماذا تقرّ بالممارسات العنصرية، فتونس بلد غير عنصري وربّما أنت حسّاس أكثر من اللازم”. هذا إضافة إلي أن الأسود لم يتعوّد على اخذ الكلمة في المنابر الإعلامية فيجد نفسه وكأنه في محاكمة تدينه وليست تنصفه.
إن التعامل الأبوي مع السود في الإعلام التونسي مقرف للغاية. أستحضر هنا حصّة حول العنصرية قدّمها سامي الفهري، في 13 مارس 2017، على قناة الحوار التونسي. ومما لفت انتباهي في عرض الحصة هو طريقة توزيع الضيوف في الأستوديو. كان كل السود الذين يدلون بشهاداتهم وتجاربهم مع العنصرية في جهة، وفي الجهة المقابلة المثقفون “البيض” و الأخصائيون في علم النفس والسوسيولوجيا والمحامون. وكان هؤلاء الأخيرين يدلون بتفسيراتهم العلمية والأكاديمية لظاهرة العنصرية، وبالطبع تحاليل لطيفة تفرغ المعنى من خطورته، دون الحديث طبعا عن الدولة والمؤسسات وهي الجهات الفاعلة والرئيسية في إنتاج العنصرية واستمراريتها ضد السود في تونس. بدا لي هذا البرنامج وكأنه “معرض حديقة حيوانات ” بشرية”.
“جاء يعاون فيه على قبر بوه هربله بالفاس”
وفي إحدى حصص برنامج “عندي ما نقلّك” الذي يقدّمه الإعلامي علاء الشابي، والذي ُبث بتاريخ 2 أكتوبر 2020 على قناة التاسعة وكان موضوعه يدور حول العنصرية، والذي استضاف فيه المواطنة إشراف دبّش، التي تقول أنها تعرّضت إلى التعنيف الجسدي والشتم العنصري. هذه الحلقة من البرنامج أكّدت استغلال قضايا العنصرية وتسخيرها للضجّة الإعلامية الجوفاء وليس لطرح الموضوع بجدّية. كما يمكن الخروج باستخلاصات أخرى من البرنامج: أولها، تواطأ الإعلام في تسطيح والاستخفاف بالممارسات العنصرية، ثانيا الاستخفاف بالعنف المسلّط ضدّ المرأة. هذا وختم مقدّم البرنامج حصته التلفزية بفظاظة عندما قام بتمرير رسالة، تلقاها الجميع بصدر رحب وخاصّة سكّان الجنوب التونسي الذين يعيشون في انفصام تامّ عن واقعهم العنصري. هذه الرسالة تفيد بأن إشراف تبالغ ولا أساس من الصحة في قولها !
الجزء الثاني من البرنامج كان حول العنصرية المسلطة على السود المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء. وهنا أخرج علاء الشابي بطاقته الذهبية كرجل “أبيض” متضامن مع قضية المهاجرين والسود والتي لا تخلو من أبوية مقرفة، وأفرغ محتوى قضية المهاجرين السود جنوب الصحراء من محتواها الحقوقي، وضرورة التزام الدولة التونسية بالمعاهدات التي أمضت عليها لضمان حقوق المهاجرين لتصبح قضية إنسانية لا غير.
لم يتفطّن الإعلام بعد إلى ضرورة التعمّق في طرح هذه القضايا السياسية في مضمونها، أو ربّما يتجنّب التعمق فيها لعجزه عن تفكيك الأسباب الحقيقية التي تحافظ على استمرار ظاهرة التمييز العنصري ضد السود، وليحافظ بدل ذلك على نهجه التسطيحي الذي يحجب مظاهر التمييز العنصري في تونس وأسبابه. بناء على ما سبق، يمكن اعتبار أن الإعلام هو مصيبة حلّت على قضية العنصرية في تونس وزادت في تعميق مصيبة المواطنين السود، ليصح عليه المثل الشعبي التونسي الذي يقول “جاء يعاون فيه على قبر بوه هربله بالفاس”.
برافو مها على الطرح العميق للمسالة. للاسف الاعلامي و الصحفي التونسي ماعندوش ادوات للتعامل مع المسالة و ماعندوش اصلا وعي بيها. مازلنا في مرحلة لوم الضحية او اضفاء صغة المشكلة الفردية على كل حادثة تخرج للراي العام. نتمنى مراكز تعليم الصحفيين و الاعلايين تقوم بدورها في تكوينهم و تنمية وعيهم بعمق و تجذر مشكلة العنصرية في تونس و نتمنى هوما في عوض ما يسكرو الباب على اي حادثة تكونلهم فرصة باش يقراو كما قلت و يعرفوا اصول المشكل و دواعيه على مجتمعنا و تصرفاتنا اليومية.
تحليل صاءب وواقعي. فعلا العنصرية في تونس موضوع غير متاح الغوص فية بصفة جدية نظرا التركيبة المجتمع التونسي. منذ سنين تمت ممنهجة السياسات التربوية والتعليمية و الاجتماعية على اساس تركيز جدار بين شمال أفريقيا و بقية القارة، فادى الى عدم القبول بافريقية المغاربة خصوصا التونسيون، المفروض طلبة و باحثين في السوسيولوجيا هم أولى بدرس هذا الموضوع.
شكرا مها على هذا الطرح و الالمام بما يحدث من تسطيح و تعويم لقضية التونسي الاسود في الكواليس. كواليس الاعلام و السياسية.
اعلام buzz محرّك فاعل في الاستخفاف بمطالب السود في تونس.
تحياتي 🇹🇳✌🏿✊🏾