في كلمة توجّه بها يوم 3 أكتوبر 2020 أقرّ رئيس الحكومة هشام المشيشي جملة من الإجراءات لمجابهة الجائحة، مذكّرا بضرورة “ارتداء الكمّامات في جميع الفضاءات العامة المغلقة ووسائل النقل، ومنع التظاهرات والتجمّعات والاحتفالات العامّة والخاصّة بالإضافة إلى تطبيق البروتوكول الصحّي وإغلاق الفضاءات التي لا تحترم هذا البروتوكول”. كما أكّد على مسألة “تطبيق الحجر الصحّي الجهوي وفرض حظر التجوّل ومنع التنقّل خارج الجهة وفرض ارتداء الكمّامة حتى بالفضاءات المفتوحة، مع ضرورة تزويد هذه المناطق بمختلف المنتوجات الأساسيّة”.

هيمنة المقاربة الطبيّة

يتحدّث أستاذ علم الاجتماع، منير السعيداني، لـ “نواة” عن احتكار “الخطاب العلمي والسياسي” من طرف الأطبّاء الّذين يتصدّرون المنابر الإعلامية ويساهمون بشكل أو بآخر في صناعة الموقف السّياسي الّذي يرسم السياسات العامّة في معالجة الوباء، وإقرار الإجراءات، دون الأخذ بعين الاعتبار مقاربة علم الاجتماع للموضوع. وأوضح في هذا السّياق أنّ “الخطاب الإعلامي خطاب تعميمي” لا يأخذ بعين الاعتبار الفوارق بين الأفراد، ممّا يدفع البعض منهم إلى البحث عن بدائل أخرى في التعاطي مع الوباء، من ذلك مثلا استخدام العقاقير التقليديّة والأعشاب الطبيعيّة. وتتقاطع رؤية الأخصائيّة النفسيّة أميرة العروي مع هذه المقاربة، حيث تعتبر أنّ التغطية الإعلامية لمستجدّات الوضع الصحّي كانت مقتصرة على الوقاية دون الأخذ بعين الاعتبار الجوانب النفسيّة والعلائقيّة.

وعن اعتماد مقاربة متعددّة الأبعاد في تطويق الفيروس والحديث عنه في الفضاءات العامّة، يقول منير السعيداني إنّ “حكومة الفخفاخ (الّتي بدأت الجائحة في عهدها) لا تفهم معنى الجائحة، لأنّ مقاربتها تقتصر فقط على الطبّ والتكنولوجيا الطبيّة وعلوم الأوبئة، والحال أنّ المسألة مجتمعيّة تضع المجتمع ككلّ على حافّة امتحان عسير تتعلّق بسياساته وكيفية إدارته ومستقبله”. وذكر أنّه اجتمع مع أحد أعضاء الفريق الحكومي حول الموضوع في أربع مناسبات، ولكنّ هذه اللقاءات لم تكن مثمرة.

بالعودة إلى سياق ظهور الفيروس وانتشاره خلال الموجة الأولى من وباء كورونا، كانت الجهود مركّزة بداية في اتّجاه فهم الوباء من الناحية الطبيّة والاستئناس بآراء الأطبّاء والمختصّين في علوم الأوبئة والجراثيم. ويرى أستاذ علم الاجتماع أنّ مقاربة الحكومة في هذا الإطار تدلّ على أنّ “نظام المعرفة والتعليم والخبرات أعرج ومختلّ” يميّز بين “جماعة الآداب” و”جماعة العلوم الصّحيحة”، وفي ذلك “استبطان لقصور مختصّي علم الاجتماع عن فهم الظواهر”.

موقف علم الاجتماع من التعايش مع الوباء

وتفاعلا مع ما يشهده العالم من تعايش مع الفيروس، يرفض منير السعيداني استخدام هذه العبارة، حيث يقول لـ”نواة”: “كلمة تعايش تستخدمها الهيئات الطبيّة والسلطات السياسيّة، ولكنّ عموم الناس في حياتهم اليوميّة لا يفكّرون بهذه الطريقة”. واعتبر أنّ التعايش “موقف قديم” تزامن مع الموجة الأولى للوباء، وهو يفترض انتهاج “سلوك متجانس ومتماثل” بين مكوّنات المجتمع لا يأخذ بعين الاعتبار الاختلافات بينها. وفي هذا الإطار ذكّر أستاذ علم الاجتماع بثلاثة مواقف إزاء الوباء. حيث ميّز بين إنكار وجود الوباء، والتعايش مع الوباء، والإقرار بوجود جائحة وجب أخذ الحيطة منها.

قد يصبح إنكار وجود الوباء مصدرا لانتشاره، حيث لا يتمّ الالتزام بإجراءات الوقاية من خلال تبادل الزّيارات، والتقارب الجسدي، واختزال الحيّز المكاني، واعتباره جزءا لا يتجزّأ من الهويّة الفرديّة. في هذا السياق يتحدّث عالم الانثروبولوجيا الأمريكي ايدوارد هال عن “التموضع المكاني”، وهو يعبّر عن طريقة تملّك الفضاء المشترك، ويحدّد المسافات ودلالاتها السوسيولوجيّة، حيث تُقدّر المسافة الشخصيّة بين 40 و135 سنتيمتر، بينما تُقدّر مسافة التباعد الاجتماعي بين 120 و370 سنتيمتر، وهي المسافة الواجب احترامها في أماكن العمل وحتّى مع الأصدقاء. تكاد تكون “مسافة الأمان الاجتماعي” منعدمة في دول حوض المتوسّط، خاصّة العربية منها. في هذا السياق، يتحدّث الإيطالي بابلو فابري المختصّ في السيميائيّات (دراسة العلامات) عن محادثة بين عربيّ وأمريكي. بينما يحاول العربي الاقتراب من الأمريكي للتحاور معه، يحاول الآخر تجنّبه من خلال الحفاظ على مسافة التباعد الاجتماعي. وخلُص إلى أنّ العرب يعتمدون القرب الجسدي في المحادثات والنظر مباشرة في العينين.

وتذكر مصادر عديدة الممارسات الاجتماعية التي تجعل من الصّعب الالتزام بالإجراءات الوقائيّة، من ذلك مثلا عيادة المرضى وتقبيل جبين الميت قبل دفنه وارتياد دور العبادة وتبادل الزيارات العائليّة، ممّا يجعل من الصّعب الرضوخ لفكرة التباعد الاجتماعي.