استدعت فرنسا سفيرها لدى أنقرة للتشاور في سابقة نادرة الحدوث في العلاقة بين البلدين. فما هي أسباب الصراع الحقيقية بين البلدين والزعيمين؟ هل هي حقا الغيرة عن الإسلام وعن الرسول من جهة، والدفاع عن قيم العلمانية في مواجهة التطرف من جهة أخرى؟ أم أن المشكل الحقيقي هو الصراع على الثروة ومصادر النفوذ والطاقة في منطقة المتوسط؟

يعود الخلاف بين البلدين الى شتاء 2019 حين أبرمت تركيا اتفاقيتين مع حكومة الوفاق الليبية، إحداهما حول التعاون الأمني وأخرى في المجال البحري. ويمكن هذا الاتفاق تركيا من التنقيب عن الغاز والنفط داخل هذه الحدود البحرية. ورفضت كل من فرنسا واليونان الاتفاق ووصفته بأنه أمر مناف للعقل من الناحية الجغرافية لأنه يتجاهل وجود جزيرة كريت اليونانية بين الساحلين التركي والليبي. واستدعت الخارجية اليونانية السفير التركي لديها، وأدانت الاتفاق، مشيرة إلى أنه لا يمكن أن ينتهك سيادة دولة ثالثة.

مطامع غير قانونية!

عبّرت فرنسا عن غضبها من هذا الاتفاق. واتّهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، نظيره التركي رجب طيب إردوغان، بخرق تعهداته وانتهاك نتائج “مؤتمر برلين” حول ليبيا، من خلال إرسال مقاتلين وسفن حربية لدعم “حكومة الوفاق” التي يرأسها فائز السراج، وهو ما يزيد من تأجيج الصراع بين الأطراف الليبية المتحاربة، ويطيل أمد الصراع. واعتبرت فرنسا أن مطامع تركيا وتنقيبها عن الغاز والنفط في مياه المتوسط غير قانونية. وفي رد عن التوسع التركي، أرسلت فرنسا طائرتين مقاتلتين إلى جزيرة كريت اليونانية، لدعم وجودها العسكري في المنطقة، وقد نفذت مناورات مشتركة مع القوات اليونانية.

وكانت تركيا تعول كثيرا على اتفاقها مع حكومة الوفاق في ليبيا لعدة اعتبارات أولها تأمين مصدر للطاقة، ذلك أن تركيا دولة غير منتجة للطاقة وتستورد حوالي95  بالمائة من احتياجاتها من النفط، ما يكفلها سنويا نحو 50 مليار دولار. وتريد أنقرة وقف هذا الانفاق المالي الضخم على الطاقة وأن يكون لها منابع نفط وغاز. وتعتبر أن حدودها المائية تمتد حتى الحدود المائية الليبية، ما يعني أن إقليم شرق المتوسط يمكن اقتسامه مناصفة مع ليبيا استناداً إلى مبدأ “الجرف القاري” وليس مبدأ الحدود البحرية أو المياه الإقليمية، وهذا الجرف القاري يمتد لمسافة 200  ميل بحري، فإذا كان عرض المتوسط يقترب من 400 ميلاً بحرياً فيمكن للطرفين تقاسمه متجاهلين بذلك كلا من قبرص واليونان.

وحسب الاتفاقية الدولية المعروفة باتفاقية البحار لعام 1982، لا تمتلك تركيا إلا 12 ميلا بحريا كحدود بحرية لا تتوفر بها أي مصادر للطاقة، لذا تريد التوسع في الجرف القاري، خصوصا وأن المسح الذي جرى لهذه المنطقة أكد وجود منابع نفط وغاز تتمركز بين قبرص واليونان، أي شرق وجنوب قبرص وليس شمالها القريب من تركيا.

اتفاق دون تركيا

خلال الأسبوع الماضي، وقّع طرفا النزاع الليبي على “اتفاق دائم لوقف إطلاق النار” بعد محادثات استمرت خمسة أيام في الأمم المتحدة. وقالت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا على صفحتها في فيسبوك: “تتوج محادثات اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 في جنيف اليوم بإنجاز تاريخي، حيث توصل الفرقاء الليبيون إلى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار في جميع أنحاء ليبيا. ويمثل هذا الإنجاز نقطة تحول هامة نحو تحقيق السلام والاستقرار في ليبيا”.

وأعلنت المؤسسة الوطنية للنفط عن رفع حالة القوة القاهرة، اعتبارًا من يوم الجمعة الماضي. وأُعطيت التعليمات بمباشرة ترتيبات الإنتاج بمراعاة معايير الأمن والسلامة العامة وسلامة العمليات، حيث تأكد للمؤسسة الوطنية للنفط مغادرة القوات الأجنبية منطقة الميناء بما يمكنها من القيام بعملياتها النفطية ومباشرة الصادرات. ورحبت الأمم المتحدة والولايات المتحدة وأوروبا بهذا الاتفاق الليبي – الليبي “الذي سيضع حدا لسنوات من الاقتتال”. لكن الرئيس التركي شكك في الاتفاق، وقال أنه أقل شأنا من الاتفاقات السابقة في إشارة لاتفاقه مع السراج.

في خضم هذه الصراعات حدثت العملية الإرهابية التي هزت فرنسا والمتمثلة في إقدام شاب شيشاني متطرف على ذبح أستاذ التاريخ الفرنسي صمويل باتي، بدعوى أن هذا الأخير عرض لتلامذته رسوم كاريكاتورية تجسد شخصية النبي محمد، واعتبرت مسيئة له. واستغل الرئيس الفرنسي هذه الحادثة ليهاجم خلال تأبين باتي الإسلام السياسي، ويتخذ جملة من الإجراءات مثل غلق حوالي خمسين جمعية صُنّفت على أنها ضالعة في التطرف الديني، وطرد 231 شخصا متهمين بالتطرف والدعوة لخطابات العنف والكراهية، كما فتحت السلطات حوالي 80 تحقيقا فيما يتعلق بـنشر خطابات كراهية عبر الإنترنت في فرنسا.

وفي حفل تابين وطني أقيم للمدرس المقتول، قال ماكرون يوم الأربعاء الماضي إنّ صامويل باتي، قُتل “لأنّه كان يجسّد الجمهورية”، وأن “صمويل باتي قتِل لأنّ الإسلاميين يريدون الاستحواذ على مستقبلنا ويعرفون أنّهم لن يحصلوا على مرادهم بوجود أبطال مطمئني النفس مثله”. كما اعتبر أن المدرّس قُتل بيد “جبناء” لأنه كان يجسّد القيم العلمانية والديموقراطية في الجمهورية الفرنسية،  وأن فرنسا لن تتخلى عن “الرسوم الكاريكاتورية”، في إشارة إلى الرسوم التي قتل باتي لأنه عرضها على تلاميذه.

ورد أردوغان على خطاب ماكرون باتهامه بالتهجم على الإسلام وتصفية حسابات ضد المسلمين، وأن غاية ماكرون من إطلاق مبادرة “الإسلام الفرنسي” هي محاسبة الإسلام والمسلمين. وانطلقت اثر ذلك وسائل إعلام تركية بالدعوة إلى معاقبة فرنسا والرئيس ماكرون من خلال مقاطعة المنتجات القادمة من فرنسا، وحتى اللغة الفرنسية نصرة للرسول الكريم كما قالوا.