تم إطلاق هذا المصطلح على الحالات التي يتم فيها استبدال المتساكنينٍ من الطبقة الفقيرة أو المتوسطة من المجتمع بطبقة أرقى منها نتيجة لزيادة قيمة إيجار المساكن في منطقة ما بسبب ما طرأ على المناطق الحضرية من تهيئة عمرانية.
وقف المصور يسترق النظر عبر النافذة إلى داخل منزل محكم الأقفال، وسط سوق أريانة، ليظفر بصورة من داخل المنزل وظهرت غرفة تملأها الأدباش بفوضى عارمة. نبّهته الناشطة رانية مجدوب، التي ترابط صحبة خالتها سارة لأيام عديدة فوق الرصيف الملاصق، لعتبة المنزل، إلا أنه يمكن أن يقع في مشكل قانوني بسبب فتحه شباك الغرفة المطلة على الشارع.
عاشت رانية مجدوب طفولتها في منزل بني على الطراز القديم. وكانت كل ذكريات تلك الطفولة تسكن ذلك المنزل الذي عاشت فيه جدتها محرزية، أكثر من ستين سنة، حيث دخلته وهي لم تبلغ بعد عقدها الثالث. لكن منذ قرابة شهر، وجدت الجدة نفسها على قارعة الطريق، بعد أن طردها مالكو المنزل الجدد، وكان أكثر ما يؤلمها هو أكداس ثيابها وحاجيات، وأكوام ذكرياتها أيضا، الباقية حبيسة ذلك المنزل المقفل بعد طردها هي وأبنائها منه.
ذاكرة حية… ومطرودة
تلقفت إحدى بنات العجوز المشرّدة، أمها من الشارع، وآوتها في منزلها الذي يبعد مسافة ربع ساعة مشيا على الأقدام. كان الحي مختلفا، عن الحي القديم، منزل عصري مريح به حديقة أمامية صغيرة، تمددت المرأة العجوز على أريكة خشبية، وتكلّمت لحزن بالغ عن ذكرياتها في المنزل المقابل لمقام سيدي عمار، ولي الورد وماء الزهر. “في عام 1961، وطئت قدماي المنزل المقابل لمقام سيدي عمار أول مرة. قبلها، كنت أسكن في حي لافايات. كنت أحب ذلك الحي كثيرا، ثم انتقلت إلى القيروان بحكم عمل زوجي، سائق عربات السينما الجوّالة، ثم عدنا إلى العاصمة وفاجئني زوجي بالقول إننا سنسكن في أريانة. فزعت وأبديت امتعاضي. ومنذ تلك اللحظة، لم أغادر منزلي سوى هذه المرة بعد أن طردت منه”.
دندنت الجدة محرزية بصوت خافت ومتقطع بعض المقاطع المبعثرة من أغنية أدتها الفنانة فتحية خيري وكتبها علي الرياحي
أريانة مبهاه هواك
أريانة لو فيك بحر ما يدخل واحد لقبر
فيها مية بير بلحسن
يشفي ماها كل بدن يا أريانة
زايرها يعاود ويحل.
تحدثت الجدة المطرودة عن سيدي عمار الذي يستقبل قطّارات الورد والزهر والعطرشية كل عام. ورفعت عينيها إلى السقف واستنجدت بحزن كبير بالولي الصالح قائلة “وينك يا سيدي عمار”. وتسترسل في الحديث دقائق دون انقطاع عن مالكة المنزل التي اعتنت بها، وعن جيرانها اليهود الذين تقاسمت معهم كراء المنزل قبل أن تصبح الكاري الوحيد له، وعن سور مقام سيدي عمار الذي رسمت عليه ملحمة بورقيبة وبناء تونس قبل أن تمحى، وعن ابنها الضرير وابنها الآخر الذي كان داكن اللون، وعن الفنانة علية وزوجة الموسيقار رضا القلعي اللتين كانتا مقربتين منها.
تحدثت الجدة بمتعة كبيرة عن منزلها الذي زاره الوزير الأسبق الشادلي القليبي والوزير محمد المصمودي الذي كان يحب أكلة الشكشوكة التي تعدّها، وتقودها الذكريات إلى زوجها وتروي بفخر أنه كان سائق فنانين زاروا تونس مثل فهد بلان ووفريد الأطرش ولور دكاش وعبد الحليم حافظ وفيروز وميريام ماكيبا. وتسترسل في الحديث عن حفلة أم كلثوم التي تقاسمت مشاهدتها في التلفزيون مع جيرانها ومع كل من يمر بجانب منزلها بعد أن أخرجته أمام المنزل. وتقول الجدة محرزية “كان يوما بهيجا رقص الجميع بفرح أمام منزلي. كنت مقصد الجميع، النسوة اللاتي تقصدن سوق أريانة يعرّجن على منزلي ليرتحن، وكانت لي عادة وهي أن أعد أطباقا متنوعة وأطعم المارة والمساكين. وفي عام 1984، آويت أشخاصا لاحقهم الأمن خلال مظاهرات انتفاضة الخبز”.
تغير وجه المدينة
روت الجدة ذكرياتها فكانت تضحك وهي تهزأ من مظهر أحد أبنائها معلنة أنها تحبه وتحب أبناءه، وبكت حين روت أحداث طردها من منزلها.
كانت الساعة لم تتجاوز السادسة صباحا، كنا نياما. أنا في غرفة وبقية أبنائي في الغرف الأخرى. اقتحم الأمن منزلنا وأخرج الذكور ثم أخرجوا البقية، تركت الفوضى تعم منزلي وأخاف أن تتلف أشيائي هناك.
بكت الجدة محرزية حين استحضرت إذلال والي أريانة لها عندما قصدته للتشكي بسبب طردها من منزلها وتقول “وعدني بإيجاد حل في البداية ثم هددني بأنه سيحيلني إلى مأوى للمسنين “.
يسعى مستثمرون إلى شراء عقارات قديمة وهدمها لترتفع بعد أشهر قليلة مكانها مبان ذات طوابق كثيرة، وهو ما حصل مع منزل مقابل لدار الجدة، الذي بيع وهدم وحلت مكانه عمارة ذات واجهات فخمة، كما تهاوى منزل الفنانة علية في أريانة وارتفع مكانه مبنى عصري.
دفنت ذكريات كثيرين أمثال الجدة محرزية تحت ركام المنازل المتهاوية التي يتركها أصحابها دون تدخل لاستصلاحها حتى يتجنبوا مشاكل طرد سكانها الذين غالبا ما يكونون قد اكتروها منذ سنوات. في قلب مدينة أريانة، لم يعد هناك وجود لنواة المدينة القديمة بما تحتويه من تمظهرات اجتماعية، فزحف العمارات السكنية والمباني التجارية غيّر وجه المدينة والعلاقات فيها. في السابق، انتهجت الدولة ما أسماه الباحث في علم الاجتماع فؤاد الغربالي بسياسة الدولة التطهيرية التي انتهجتها ضد سكان الأرياف، حتى تحمي ملامح المدينة الحديثة، وتواصل الدولة اليوم التعامل بمنطق التطهير مع سكان الأحياء القديمة.
بنيت أغلب المدن التونسية بمعزل عن المعنى الحقيقي للمدينة والذي يحمل بعدين هما البعد الديمغرافي وبعد آخر مرتبط بالقيم، حسب الغربالي، فملامح المدن التونسية واضحة: أساسها مجتمع استهلاكي تميّزه الفردانية تحيط به مكاتب ومبان اقتصادية، فبعد أن حوصر سكان الأرياف حتى لا يهجموا على المدينة فيخربوا ملامحها، يحاصر الأغنياء الآن الفقراء، فيغزون حدودهم السكنية لتعلو المباني بطوابق كثيرة تحاصر تلك الأحياء فيغترب سكانها بسبب نمط العيش الجديد الذي فرض عليهم. ويقول فؤاد غربالي لنواة “يخلق الفضاء العام المهيأ عنفا ضد المرأة وتطرح المدينة في شكلها الاستهلاكي والمتميّز بالفردانية، إمكانات التمييز ضد المرأة وضد الفرد عموما”.
ترتكز المدن التونسية على تخطيط عمراني مبني على اعتبارات اقتصادية في حين غيبت الجوانب الاجتماعية والثقافية لسكانها حسب الغربالي الذي يقول “يحس سكان المدن القديمة بغربة كبيرة، بعد أن انتزعوا من بيئتهم الأصلية ومن ذاكرتهم”.
تختل علاقة الإنسان ببيئته بسبب عجز عمارة الحداثة ومدينتها من إنتاج مجال عيش ملائم، ويحيل هذا التوصيف إلى أزمة حقيقية تخلقها الدولة في تسطير المدن والأحياء، حيث تفكك بمصاحبة المباني ذات الواجهات الجذابة، نسيج المجتمع المبني على مجموعة من القواعد التي تخلق علاقات قوية، ليحل محله مجموعة من السكان الذين يتشاركون الفضاء نفسه لكنهم يجهلون هويات بعضهم.
لا يستطيع السكان “المنتزعون من ذاكرتهم” كما يسميهم الباحث فؤاد الغربالي أن يعبروا بكلمات تقنية عن أزمة تحديث المدن التونسية ولكنهم يجيدون التعبير ببراعة عن اغترابهم بسبب عمليات “تهجيرهم” القسرية التي مارستها عليهم الدولة أحيانا وأصحاب المشاريع الكبرى أحيانا أخرى. فالجدة محرزية مثلا آلمها أن تترك جيرانها والمارة في الجادة الموازية لمنزلها والباعة في السوق الذين يعرفونها منذ زمن طويل. لم يكن المبنى الذي سكنته طيلة ستة عقود فاخرا، لكنه كان خزان ذكرياتها، في المقابل تقول حفيدتها الناشطة الحقوقية رانية مجدوب إن الموجع حقا أن الدولة لم تتدخل لإنقاذ امرأة مسنة من التشرد في وضع وبائي خطير.
سلطة محلية في التسلل
لا تملك السلطة المحلية في أريانة خططا لمساعدة الفئات الهشة في حال تعرضوا إلى الطرد من منازلهم، وكان من الصعب على موقع نواة التواصل مع رئيس بلدية أريانة فاضل موسى، الذي أمر بفض اعتصام عائلة الجدة محرزية “بسبب احتلالهم الرصيف وهو ملك عام” حسب الأستاذة الجامعية والباحثة في القانون العام سناء بن عاشور، رئيسة جمعية بيتي، المعنية بالنساء فاقدات السكن.
في المقابل، أكدت المكلفة بالإعلام في البلدية المعنية أن دائرة الشؤون الاجتماعية لم تضع مخططا أو ميزانية لمواجهة طارئ قد يحصل لنساء طردن من منازلهن أو مسنين أو أطفال أو عاجزين يواجهون خطر التشرد، فالبلدية ليس من مهامها وضع خطط طوارئ مشابهة. دور قد يكون لمجالات تدخل المعتمدية.
تنتقد رئيسة جمعية بيتي القوانين المنظمة للسكن في تونس، وتقول في تصريح لموقع نواة :”لا يوجد تحيين للقوانين التونسية التي يغيب عنها التنصيص على الجانب الإنساني في حالات مشابهة لحالة الجدة محرزية. فالقوانين توضع حتى تنظم العلاقات وتحسّنها لا لتشنجها”. وتعتبر بن عاشور أن طرد امرأة مسنة في وضع صحي خطير هو جريمة شاركت فيها الدولة.
يعطي القانون التونسي ما يسمى بحق البقاء بالنسبة للمتسوغين للعقار. ومن شروط التمتع بهذا الحق هو أن يكون للساكن صفة مُكتري. لكن امتنع مالك المنزل الذي تسكنه الجدة محرزية عن الحصول على معلوم الكراء منذ عام 2009، وذلك حتى تنتفي صفة المُكتري على الجدة وبالتالي تحرم مما يسمى بحق البقاء. تعارض سناء بن عاشور هذا القانون بشدة وتقول
تكفي النية الحسنة بالنسبة للفئات الهشة والوضعيات الحرجة للتمتع بهذا الحق. ويجب أن تتمتع الجدة محرزية بهذا الحق. فهي امرأة مسنة وعلى السلطة المحلية أن تحميها من التشرد بموجب القوانين التي تحمي المرأة وكبار السن في تونس وخاصة الفصل 21 من الدستور التونسي الذي ينص على ما يفيد أن الدولة ملزمة بتوفير أسباب العيش الكريم. كما أن تونس مصادقة على العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية دون تحفظ وهو ما يعني أنها ملزمة بحمايتها.
تمس أزمة السكن بالأساس النساء وتقول رئيسة جمعية بيتي “تتعرض نساء تونسيات كثيرات إلى نهب أرزاقهن وحرمانهن من إرث المسكن خاصة من قبل إخوتها الذكور وذلك استنادا على جنسها”. لذلك طالبت الجمعية منذ نشأتها بسن قوانين تنص على الحق في السكن اللائق وتوفير السكن اللائق للنساء ضحايا العنف الزوجي. وجب التذكير أن الفصل 21 من الدستور ينص على أن “تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامّة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم” مبدأ دستوري ظل حبراً على ورق أكثر من 7 سنوات من المصادقة عليه.
iThere are no comments
Add yours