منذُ إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اعتزامه غزو الأراضي الأوكرانية يوم الثلاثاء 20 فيفري، بدأت المؤشرات الاقتصاديّة العالمية في التراجع، بين انخفاض مؤشر “هانغ سونغ” في هونغ كونغ بـ%3،2 في التعاملات المبكّرة وانخفاض العقود الآجلة لمؤشر “ستاندارد اند بورز” بنسبة% 1،7 وتراجع عقود مؤشر “داو جونز” الصناعيّ بـ%1،5. لكن جزءا من هذه النتائج يهدّد عددا من الدول ومن بينها تونس التي تعتمد في احتياجاتها الغذائيّة بشكل كبير على سلّتي الخبز الأوكرانية والروسيّة. ولن يكون الأمن الغذائي قطْعًا العنصر الوحيد الذي ستتأثر به تونس من هذه الأزمة، فللأمر وجوه أخرى لا تقلّ أهميّة.

العلاقات التونسية الأوكرانية: بدايات واعدة

بدأت العلاقات الأوكرانية التونسية تشهد تطوّرا وتنوّعا لافتا في مجالات التعاون خلال السنوات الأخيرة. فمنذ سنة 2016، انخرطت تونس وكييف في جملة من الاتفاقيات التي شملت قبول معادلة الشهادات العلميّة الأوكرانية بصفة آليّة باستثناء الاختصاص الطبّي وتسهيل إجراءات الحصول على التأشيرة الأوكرانيّة من تونس وبعث عديد الاستثمارات الأوكرانية. وكُلّل هذا التعاون بأول رحلة جوية مباشرة بين البلدين في 26 أفريل 2016. كما تلا ذلك تشجيع لتوافد السياح الأوكرانيين على البلاد والتفكير في مشروع لإنشاء مصنع للسيارات الأوكرانية في تونس.

ومنذ سنة 2019، توسّعت مجالات التعاون لتشمل المجال البنكيّ، عبر توقيع مذكّرة تفاهم بين البنك المركزيّ الأوكراني ونظيره التونسي بهدف تطوير وتوسيع الخبرات في مجال السياسة النقديّة والصرف والاتصال والتغيير. كان ذلك أثناء زيارة قام بها محافظ البنك المركزي مروان العبّاسي إلى العاصمة الأوكرانية كييف. كما خططت أوكرانيا أثناء لقاء بين وزير الدفاع التونسي الأسبق إبراهيم البرتاجي وسفير أوكرانيا في تونس في فيفري 2021 لبحث فرص إرساء التعاون العسكريّ في مجالات التطوير والتدريب وتبادل الخبرات، خصوصا منها في الطب العسكري، وبدأت في المقابل جهود تونس للدخول إلى السوق الأوكرانية أثناء احتضان أوكرانيا للمعرض الأوّل للمنتجات التونسية من 26 أكتوبر إلى 3 نوفمبر 2021 للتعريف بالمنتوجات الفلاحيّة واللباس التقليديّ التونسي.

الأمن الغذائي التونسي رهين الاستقرار في أوكرانيا؟

ستمسّ هذه الحرب من البداية الواعدة للتعاون الثنائي بين البلدين. غير أنّ هذا لا يزيح الضوء عن أهمّ عنصر في المعادلة الإقتصاديّة الثنائيّة، ألا وهو تجارة الحبوب. إذ تعتمد البلاد التونسية في وارداتها من الحبوب إجمالا على السّوقَين الروسية والأوكرانية بنسبة %80، أما بالنسبة لواردات القمح فتصل نسبة التوريد من البلدين إلى %60، خصوصا من أوكرانيا التي استوردت منها تونس ما قيمته 984 ألف طن في العام الماضي مقابل 111 ألف طنّ من القمح الروسي.

ولا شكّ أنّ الاحتياجات التونسية من الحبوب ستكون أكثر هذه السنة بسبب عوامل الجفاف والتغيّرات البيئية، فضلا عن تفاقم المشاكل الهيكليّة المتعلّقة بالقطاع الفلاحيّ وبالتوريد، إذ عاشت البلاد في ديسمبر الماضي على وقع تأخر دفع مبالغ توريد الحبوب بسبب عدم توفّر المبلغ الكافي من العملة الصّعبة. وبرغم تطمينات وزارة التجارة، التي صرّحت أنها قد أمنت مخزونا من القمح اللين يكفي لموفّى شهر جوان المقبل ومخزونا آخر من القمح الصلب والشعير حتى نهاية شهر ماي، وعن استعدادها للتعامل مع  مصادر أخرى للتوريد على غرار الأرجنتين والأوروغواي وبلغاريا ورومانيا بالنسبة للقمح اللين وفرنسا بالنسبة لشعير العلف، إلا أن الهجوم الروسي على أوكرانيا سيساهم في صعوبات مؤجّلة للأمن الغذائي التونسيّ، مع إمكانية ارتفاع سعر الحبوب عالميّا بنسبة %50، حيث سجّلت العقود الآجلة لشحنات القمح والذرة الأمريكية بأعلى مستوى تداول يوم الخميس 24 فيفري، كما سجلت أسعار فول الصويا المستعمل في الزيوت النباتيّة أعلى مستوى لها منذ 2012.

ضبابية الأفق الطّاقي

أحد التداعيات الخطيرة للأزمة تهم الملف الطاقيّ من دون شكّ، حيث بدأت أسعار النفط في ملامسة حاجز الـ100 دولار بالنسبة للبرميل الواحد، وهو ما يعني الترفيع في الأسعار بشكل أسرع خصوصا مع التمشي الذي عبّرت عنه وزارة الطاقة التونسيّة  في التخفيض تدريجيا من قيمة الدعم على المواد الطاقيّة. من مسببات هذا الارتفاع، العقوبات المتوقعة على الصادرات الطاقيّة الروسية وصعوبة توفّر البديل السريع. قد يكون الحلّ في التخفيف من تبعات الأزمة عالميّا، في الالتجاء إلى الموارد الطاقيّة الإيرانيّة عقب رفع متوقّع للعقوبات الغربيّة بعد الوصول إلى اتفاق سياسيّ جديد مع إيران، يبدو أنه يلوح في الأفق مع وصول مفاوضات فيينا إلى أشواط متقدمة.

لكن حاليّا تحاول بعض الأسواق الخليجية، خصوصا منها قطر استغلال هذا الوضع الطاقيّ الجديد للتنسيق مع الجزائر ودول أخرى لتوفير الاحتياجات الطاقيّة إلى البلدان الأوروبيّة. قد يكون لهذا الوضع الجديد بعض الفائدة لتونس التي قد تستفيد من زيادة حصّتها الماليّة من تدفقات الغاز الجزائريّة عبر خط الأنابيب المار من الأراضي التونسيّة، لتعويض جزء من الخسائر التي قد تنجم عن ارتفاع سعر المواد الطاقية عالميّا. لكن الأزمة الطاقيّة المرتقبة ستمسّ بشكل كبير من توازنات الماليّة العموميّة التي تنبني على فرضيّة 75 دولار للبرميل الواحد، وهو ما سيوجّه جزءا كبيرا من موارد العملة الصعبة للواردات الطاقيّة، فحسب وزارة الماليّة تكلّف الزيادة بدولار واحد في سعر برميل النفط الدولة ما يقارب ال140 مليون دينار.

ستتوسّع بالتالي آثار العجز الطاقيّ والغذائيّ لتشمل ارتفاع كلفة الدعم والاضطراب في سلاسل التوريد وزيادة التضخّم الماليّ بالنسبة للسلع في سياق أزمة هيكليّة متنامية يمرّ بها الاقتصاد التونسي، فضلا عن السياحة التي  لن تكون بمنأى عن التأثيرات الإقتصاديّة السلبيّة للأزمة، حيث أن القطاع السياحي في تونس بات يعتمد بشكل كبير على توافد مئات الآلاف من السياح الروس خلال السنوات الأخيرة. في حين تستعد النزل لتجاوز آثار الوضع الوبائيّ والتخطيط لاستعادة النسق الطبيعي، ستؤثر العقوبات على الدخل والقدرة على الدفع بالعملات الأجنبيّة كالدولار واليورو على المواطنين الروس في الحدّ من توافدهم على وجهاتهم السياحية التقليدية ومن بينها تونس ومصر.