لا خلاف لدينا حول ما نعنيه بالحقوق وماهيتها المتداولة من حقوق أساسية طبيعية، وحقوق سياسية ومدنية، وكذلك من حقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية، فردية أو جماعية متعارف عليها من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر 1948 وما تلاه من معاهدات ومواثيق دولية، فإن مفهومي الكونية والأممية يشوبهما اللبس في أذهان البعض. فما المقصود بالكونية أو الكون ؟
في الفرق بين الكونيّة والأمميّة
الكون، هو مفهوم كلامي هلامي يتم تداوله بطرق مختلفة وفق تصورات ونظريات مختلفة ارتبط عبر التاريخ بمدلول ديني أكثر منه علمي وغالبا ما يدل على الحجم النسبي للفضاء الزمكاني الذي يتواجد فيه كل شيء (الكواكب، النجوم، الكائنات الحية، بما في ذلك كوكب الأرض).
وتختلف الآراء في تحديد طبيعة الكون كما تعطي الفلسفات والعقائد للكون تصورات مختلفة، حيث اعتبر فلاسفة اليونان القديم الكون (كوسموس) للدلالة على النظام الكوني المنظم (أونيفرس) الذي يعني الوجود المادي للأرض والنجوم والشمس والقمر. فندرك أن المقصود بالكونية هو (أونيفيرس)، ولا رديف لمعناها الفلسفي في اللغة العربية كما عند الفلاسفة الإغريق.
وللقارئ أن يدرك السبب الحقيقي لصبغ الحقوق بالكونية وربطها بالكون لما في ذلك من نية في إضفاء قدسية عقائدية هلامية لا يدرك مستعملها معناها إلا بقدر ضخامة العبارة ومدى وقعها على القارئ. ولكم أن تتصوروا شمولية الحقوق وكونيتها للكواكب والنجوم والأقمار والمجرات.
في نفس السياق المفاهيمي علينا أن نتجنب الخلط بين مفهومي الأمة والأممية، إذ لكليهما دلالاته وسياقاته التاريخية. فللأمة معنى سياسي يشير الى مجموعة أو مجموعات بشرية من قوميات أو إثنيات متعددة تعيش ضمن دولة واحدة وفي رقعة جغرافية واحدة.
أما الأمة بالمعنى الديني فتختزل في العقيدة وتنسب اليها ( لأمة الإسلامية والأمة المسيحية والأمة اليهودية). كما تتشدد بعض النظريات في وضع شروط متعددة لقيام أمة باعتبارها مرحلة تاريخية متقدمة من القومية، كشرط الدين والعرق، أو اللغة، والتاريخ المشترك، والوحدة الجغرافية، والمصير الواحد، وأحيانا، وحدة علاقات الإنتاج.
أمّا الأممية، فهي مبدأ سياسي يتجاوز الإثنية والقومية والأمة، إذ يعتقد أنصار هذا المذهب أن على شعوب العالم أن يتحدوا رغم الحدود والحواجز الوطنية والجغرافية عبر القضاء على الطبقية والاستغلال. ويرى الأمميون أنفسهم في تناقض وتعارض تام مع القومية والشوفينية والحرب. ولما رفع هذا الشّعار، لاقى استحسانا في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر.
اعتقد بعض اليبراليين في انقلترا أنه بإمكانهم تحقيق الأممية عبر نشر التجارة الحرة، ودافعوا عن ذلك بشراسة. غير أن هذا المفهوم تعرّض لنقد حاد من الراديكاليين الاشتراكيين الذين يرون أن التنافس الرأسمالي الليبرالي هو الدافع المادي للصراع العالمي والحروب والنزاعات. ومرّوا إلى تأسيس أول منظمة أممية اشتراكية (جمعية الشغيلة العالمية) في لندن سنة 1964 تهدف إلى تمثيل المصالح السياسية للطبقة الشغيلة العالمية، سرعان ما وجدت نفسها وجها لوجه مع الخيارات الليبرالية التي تدعو إلى حرية التجارة، وللرأسمالية كعلاقة إنتاج لتحقيق السلام العالمي.
نظرية الأممية وحركات التحرّر
وتشكل نظرية الأممية الاشتراكية مبدأ هامّا يقوم على قيام أفراد الطبقة العاملة في جميع بقاع العالم بنشاطات تعارض القومية والحرب، والعمل على إسقاط الأنظمة الرأسمالية واعتبار الصراع الطبقي محددا داخل المجتمعات، وليس العرق أو القومية أو الثقافة. فمصلحة الطبقة الحاكمة المهيمنة تتمثل في تعزيز النزعة القومية وإخفاء الصراع الطبقي القائم على الاستغلال والربح.
انتشرت قيم الأممية الاشتراكية معلنة معاداتها للإمبريالية، ودعمها لحركات التحرر، واعتبار الحرب نتاجا لقوانين المنافسة المتأصلة في النظام الرأسمالي. وترسخت القناعة لدى أنصار الفكر الأممي الاشتراكي ولدى قيادات الطبقة العاملة في كل أنحاء العالم أنه من المستحيل القضاء على الحروب دون القضاء على الطبقات ودون إقامة النظام الاشتراكي وإنقاذ الإنسانية.
سرعان ما تأكد صواب هذا الرأي غداة نشوب الحرب العالمية الأولى ثم الثانية. فقبلهما، وخلالهما، وبعدهما، وفي سيرورة تاريخية معقدة تعددت التجارب والصراعات في اتجاه التوصل الى بعث هيئة أركان حاضنة لمشروع الأممية، تسير على هديه الطبقة العاملة وحلفاؤها من الطبقات المضطهدة والشعوب والأمم في العالم نحو تحقيق الانعتاق النهائي وتحرير الإنسانية من الظلم والقهر.
أفرز غزو الأمريكيتين في القرنين الخامس والسادس عشر واستجلاب الأفارقة واستغلالهم نقاشات حادة حول حقوق الإنسان، وعمالة الطفولة، وحقوق النساء قي الساحات الأوروبية ذاتها، وصارت قضايا الأجور والإجازات والسكن مواضيع نقاش تقليدية، وتبنى فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا مفهوم الحقوق الطبيعية في اتجاه التطوير. وبرز في الأثناء الفيلسوف جون لوك بمقولة : “الناس بطبيعتهم أحرار ومتساوون” حتى صدور وثيقة الحقوق الانجليزية في 1689.
وتعزز الاهتمام بحقوق الإنسان بعد اندلاع الثورتين الأمريكيتين في 1776 والثورة الفرنسية سنة 1789 حيث صدرعنهما إعلان “فرجينيا” في 1776 معتبرا البشر خلقوا جميعهم متساوون لهم الحق في الحرية والعمل وتحقيق السعادة. كما صدر البيان الفرنسي لحقوق المواطن.
في الأثناء، تشكلت العديد من النقابات والجمعيات العمالية والنسائية والأحزاب السياسية، وخاضت الطبقة العاملة العالمية نضالات، وقدمت تضحيات عديدة، حيث سقط الشهداء في الكثير من الساحات في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوروبا وفي المستعمرات الإفريقية والآسيوية، وشاركت إلى جانبها الأقليات الدينية والعرقية المضطهدة في كل أنحاء العالم.
لم تذهب كل تلك التضحيات سدى، فقد انتزعت المرأة حقها في الاقتراع والتصويت، وحقق عمال العالم يوم العمل بثماني ساعات، وتمتعوا بالراحة الأسبوعية، والحق في الإجازة، الى جانب الانتصارات التي راكمتها شعوب المستعمرات. تُوّج في نفس الوقت مجهود منظّمة الصليب الأحمر الدولية بإمضاء اتفاقية “جنيف” الأولى الخاصة بحماية حقوق الإنسان أثناء الحرب، والتي شهدت عدة تنقيحات قبل وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، شملت الجرحى والغرقى وحقوق الأسرى، وآخرها حماية المدنيين أثناء الحرب.
أدت مفاوضات “فرساي” بعد الحرب الأولى إلى الإسراع بتأسيس عُصْبة الأمم عام 1919 بهدف نزع السلاح ومنع الحرب وتحقيق الأمن الجماعي وتسوية النزاعات بين الدول عن طريق التفاوض والديبلوماسية إثر نهاية الحرب الأولى. أما منظمة العمل الدولية وبحكم تأسيسها كوكالة تابعة لعُصْبة الأمم، فقد كان لها دور هام في تعزيز الحقوق الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة.
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: انتصار للنضالات أم تبييض للرأسمالية؟
كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نتاجا لمراكمة نضالية للفئات الشعبية المضطهدة والطبقات المسحوقة من أجل حقّها الطبيعي في الحياة والحرية والعمل، وهو لا يعدو أن يكون استجابة للحد الأدنى لغسل بشاعة الأنظمة الرأسمالية وتبييض واجهاتها، والمحافظة على بقائها ووجودها أمام انتشار رقعة الأفكار الأممية التي باتت تكتسح العالم وتستنهض شعوبه للثورة وإنهاء الأسباب الحقيقية الخفية الحائلة دون تمتّع الإنسان بحريته وبثمرة عمله وبناء مجتمعه الأممي المتملّك لثروته وإرادته، يمارس فيه الفرد انسانيته وحريته ويسهم بإبداعاته في حمايته وتطويره.
احتوى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على قدر كبير من احترام للذات البشرية. كما تضمنت المواثيق والمعاهدات الدولية والقارّية الإفريقية أو الإقليمية، جملة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فرديةً وجماعيةً، هي نتاج للحركة الاجتماعية والسياسية والفكرية التي دفعت ثمنها غاليا أجيال وراء أجيال في سيرورة تاريخية مليئة بالمعاناة والسجون والاستشهاد. وتبقى في الأخير حامية وحافظة للنظام العالمي السائد بتقسيماته الطبقية الدولية والاجتماعية. فمنظومة الأمم المتحدة الراعية لهذه الحقوق، تتميز بعض الدول الأعضاء فيها عن غيرها، وتتمتع بسلطة زائدة تؤهلها إلى أن تكون وحدها صاحبة الحل والربط .فكيف نتحدث عن مساواة بين من يملك حق النقض من دول المنظمة ومن لا يملك، وهل يمكن لمثل هكذا منتظم أن ينشر العدل والمساواة؟
أكيد أن ما تضمنه الإعلان مكسب في السيرورة النضالية للإنسانية، غير أنه يبقى نتاجا لفعل تاريخي في ظل موازين محددة، هي في حاجة إلى إعادة نظر وتطوير تفاعلا مع ما يحصل من تغيرات وتطورات حتى لا نستمر في الدوران في حلقة مفرغة ونحتفظ بمنظومة تنتج اللامساواة والتمييز.
إن الحديث عن قيم إنسانية مجردة لا يكون ذا معنى في مجتمعات مبنية على الإيمان العقائدي المطلق بملكية وسائل الإنتاج من طرف أقلية وإخضاع بقية أفراد المجتمع بالقوة المادية أو بالقانون لخدمتها. واختيار نظام اقتصادي رأسمالي ربحي يقوم على المنافسة وتكديس الثروة سمته الرئيسية إنتاج الأزمات والحروب وتدمير الإنسانية.
في ذات السياق، في نقده لمنظومة حقوق الإنسان يقول أستاذ العلوم الاجتماعية نيكولا بيروجيني في كتابه عن حق الإنسان في الهيمنة : “أطروحة حقوق الإنسان لا يستعملها فقط المناضلون من أجل إثبات العدالة، ولكن أيضا يوظفها وبكثافة أولئك الفاعلون الذين ينتجون برامج تعزيز الظلم والعنف والتشريد”.
وضرب لذلك أحدث الأمثلة عن التبريرات التي يسوقها جيش الكيان العنصري الإسرائيلي عند الاعتداء على الفلسطينيين، وعن قرار الناتو في 2014 بعقد اجتماع للنظر في إعلان أوباما عن بدء الانسحاب من أفغانستان. وأطلقوا حملتهم الشهيرة التي تعتبر الناتو قادرا على حماية حقوق النساء والفتيات في أفغانستان.
وذكر بالدور الذي لعبته منظمة العفو الدولية في حث الناتو على عدم مغادرة أفغانستان بقيادة مديرتها التنفيذية سوزان توسل صاحبة مقولة “القوة الذكية” التي أصّلت فيها لاستخدام العنف والقوة لفرض حقوق الإنسان ودور الجيش الأمريكي في تحقيق هذه الأجندة.
iThere are no comments
Add yours